المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحقيق الإسلام لأمن المجتمع


كيف حالك ؟

البلوشي
01-03-2010, 09:14 PM
تحقيق الإسلام لأمن المجتمع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، جعل تحقيق الأمن مقرونًا بالإيمان الخالص من الشرك فقال تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .

وبعد : فإن الأمن مطلب نبيل تهدف إليه المجتمعات البشرية وتتسابق لتحقيقه السلطات الدولية بكل إمكاناتها الفكرية والمادية ، وموضوع حديثنا الآن هو تحقيق الإسلام لأمن المجتمع ، وقبل الدخول فيه نريد أن نعرف ما هو الإسلام وما هو الأمن ، حتى يتبين لنا وجه الارتباط بينهما :

معنى الإسلام .

فالإسلام : هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة ، والخلوص من الشرك والبراءة من الشرك وأهله ، وإذا تحقق الإسلام في المجتمع بهذا المعنى تحقق له الأمن .

والأمن في اللغة : ضد الخوف ، وهو سكون القلب .

والأمانة : ضد الخيانة ، وآمن به إيمانًا : صدقه .

والإيمان : هو الثقة وإظهار الخضوع وقبول الشريعة ، وأمن البلد اطمأن به أهله فهو آمن وأمين .

ولما كنا أيضًا بصدد بيان تحقيق الإسلام لأمن المجتمع فلا بد أن نعرف ما كان عليه الناس عمومًا والعرب خصوصًا قبل بعثة نبي الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، وما كان عليه الأمر بعد البعثة وظهور الإسلام ؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ، وبضدها تتميز الأشياء .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق على فترة من الرسل ، وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبيل مبعثه ، والناس إذ ذاك أحد رجلين :

إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ ، أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك .

وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك .

والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علمًا وهي جهل ، وأعمال يحسبونها صلاحًا وهي فساد ، وغاية البارع منهم علمًا وعملًا أن يحصل قليلًا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين ، قد اشتبه عليه حق بباطله ، أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلًا ، أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة ، فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل - إن وصل- بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي ولا يشفي من العلم الإلهي ، باطله أضعاف حقه - إن حصل - وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه ، فهدى الله الناس ببركة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من البينات والهدى ، هداية جلت عن وصف الواصفين ، وفاقت معرفة العارفين حتى حصل لأمته المؤمنين عمومًا ولأولي العلم منهم خصوصا من العلم النافع ، والعمل الصالح ، والخلاق العظيمة ، والسنن المستقيمة ، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علمًا وعملًا الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتتا+ تفاوتًا يمنع قدر النسبة بينهما ، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى .

انتهى كلام الشيخ رحمه الله في وصف حال الجاهلية وهو وصف عام لكل الشعوب ، وإذا أردنا تفصيله تطلب منا وقتًا أوسع ، ولكن نخص حالة العرب في هذه الحقبة التاريخية لجزيرة العرب ؛ لأنها الموطن الذي ظهرت فيه الرسالة فنقول :

حالتهم الدينية

كانت حالتهم الدينية من أسوأ الحالات وأشدها اضطرابًا ، فكانوا يعبدون الأوثان ، وكان أقدم أوثانهم : اللات في الطائف ، والعزى بوادي نخلة ، ومناة بين مكة والمدينة ، وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها ، بل كان لأهل كل دار بمكة صنم في دارهم يعبدونه ، وإذا أراد أحدهم سفرًا أو قدم منه تمسح به ، بل كان الرجل إذا سافر فنزل منزلًا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًا وجعل الثلاثة الباقية أثافي لقدره ، وكانوا إذا لم يجدوا أحجارًا يجمعون الرمل ثم يحلبون عليه الشاة ثم يطوفون به ؛ تبركًا به وتعظيمًا له ، وبلغ بهم الأمر أنهم يقتلون أولادهم تقربًا إلى الأصنام ، ويسيبون كثيرًا من أموالهم لها ، كما قال الله تعالى عنهم : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ .

أما حالتهم السياسية

فكانت أسوأ حالة أيضًا ؛ حيث تسودها الفوضى والاضطراب ، وتسلط القوي على الضعيف ، وغارات القبائل بعضها على بعض بالنهب والسلب ، وقيام الحروب الطاحنة لأتفه الأسباب ، وفريق منهم دخل تحت السلطة الفارسية أو الرومية ، وأكثرهم تحكمهم السلطات القبلية المختلفة ، فكانوا مشتتين لا رابطة تجمعهم .

وأما حالتهم الاقتصادية .

فإنما تقوم على السلب والنهب والمعاملات الربوية وأكل الخبائث ، فكانوا يستحلون ما حرم الله من الميتة والدم ، ويحرمون ما أحل الله حيث حرموا أنواعًا من بهيمة الأنعام ، وهي : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، فرد الله عليهم بقوله : مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ .

وأما حالتهم الأسرية

فكانوا يئدون بناتهم خشية العار ، ويقتلون أولادهم تقربًا إلى الأصنام ، أو يقتلونهم خشية الفقر ، وكان أحدهم يتزوج ما شاء من النساء دون تقيد بعدد ولا التزام بحقوق الزوجية ، وكانوا يحرمون النساء والصغار من الميراث ، بل كانوا يرثون زوجة الميت من بعده ، كما يرثون ماله ، هذا مجمل حال جاهلية العرب .

تحقيق الإسلام للأمن ووسائل توفره

ولما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم انجابت هذه الظلمات ، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ، كما قال الله تعالى : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وقال سبحانه : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وقال سبحانه : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ، وقال تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا .

وبذلك تحول مجتمع العرب الذين دخلوا في هذا الدين إلى مجتمع يسوده الأمن ، ويحكمه الوحي الإلهي ، وتوجهه العقيدة السليمة ، وتظلله راية التوحيد . وقد بين الله سبحانه مقومات هذا الأمن وأسبابه التي يتحقق بتوافرها ويزول بزوالها ، وهي كما يلي :

1 - إصلاح العقيدة بإخلاص العبادة لله ، وترك عبادة ما سواه والبراءة منها ومن أهلها ، وملازمة العمل الصالح ، قال تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .

فربط سبحانه حصول هذه المطالب العالية : الاستخلاف في الأرض والتمكين من الدين ، وإبدال الخوف بالأمن ، ربطها بتحقق شيئين هما : عبادة الله سبحانه ، وترك الإشراك به . وقد بعث الله بذلك جميع الرسل ، كما قال تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وهما حق الله على عباده ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : حق الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا [ تقدم تخريجه ] .

2 - ومن مقومات الأمن وأسبابه بعد التوحيد : إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ فربط سبحانه حصول النصر على الأعداء الذي يتوفر به الأمن للمسلمين ؛ لأن من انتصر على عدوه فقد أمن شره ، ربط ذلك بإقام الصلوات الخمس التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام ، وإيتاء الزكاة التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام ، وخص هذين الركنين لما لهما من الأهمية ؛ لأن الأول : إحسان فيما بين العبد وبين ربه بإخلاص العبادة له ، وهذا هو الأساس الذي ينبني عليه الدين كله .

والثاني : إحسان فيما بين العبد وبين إخوانه ، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذان يتحقق بهما نصرة دين الله ، وقدم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يكون عاملًا بما يأمر به ، ومتجنبًا لما ينهى عنه ، وصالحًا في نفسه قبل أن يكون مصلحًا لغيره .

هذا وكما أن هذه الأمور هي أهم مقومات الأمن وأسباب النصر في الدنيا ، فهي كذلك أسباب الأمن في الدار الآخرة ، قال تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أي : لم يخلطوا عبادتهم بشرك أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ، وقال تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وقال تعالى : ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ، وقال تعالى : وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ فنالوا الأمن بالجنة بسبب إيمانهم في الدنيا وإخلاصهم العبادة لله وابتعادهم عن الشرك ، قال الإمام ابن كثير : هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة : ( الشرك ، وظلم العباد ، وظلمه لنفسه بما دون الشرك ) كان له الأمن التام والاهتداء التام ، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق . بمعنى : أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى ، يعني : قوله تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة ، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه . انتهى .

3 - ومن أسباب الأمن اجتماع الكلمة وطاعة ولاة الأمور بالمعروف ، قال تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا .

وقال تعالى : وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ، فالاجتماع قوة والفرقة تضعف كيان المجتمع .

4 - ومن مقومات الأمن شكر النعمة ، ومن أسباب زواله كفر النعمة ، قال تعالى : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ، وقال تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ، وقال تعالى : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، وقال عن سبأ : لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ .

وهكذا نجد في هذه الآيات أن استقرار الأمن مربوط بشكر النعمة ، وأن زواله مقرون بكفرها ، كما نجد أن توافر الأمن لا بد أن يسبق توافر الغذاء ، مما يدل على أن الضرورة إليه أشد من الضرورة إلى الغذاء ؛ لأنه لا يمكن التلذذ بالغذاء لو توافر مع عدم الأمن والاستقرار ؛ ولهذا كان في دعاء الخليل عليه السلام تقديم طلب الأمن على طلب الرزق ، كما ذكر الله عنه في قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ وقد امتن الله على قريش بتوفير هاتين النعمتين ، وأمرهم أن يفردوه بالعبادة شكرًا له على ذلك ، فقال : لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ .

وسائل حفظ الأمن في الإسلام

ولما كان توفر الأمن ضرورة من ضروريات المجتمع التي تفوق ضرورة الغذاء ، اهتم الإسلام بتوفير الأسباب الجالبة للأمن ، وذلك ببناء الإنسان عقيدة وأخلاقًا وسلوكًا ؛ لأن الأمن لا يتوافر بمجرد البطش والإرهاب وقوة الحديد والنار ، وإنما يتوافر بتهذيب النفوس وتطهير الأخلاق ، وتصحيح المفاهيم حتى تترك النفوس الشر رغبة عنه وكراهية له .

كما يقول الشاعر :

ولا تنتـــه الأنفس عـــن غيهـــا ما لم يكن لها من نفسها زاجر



فإذا فقد المجتمع هذه المقومات التي جاء الإسلام بها فإنه يفقد أمنه واستقراره ، قال الشاعر :

وإنمـا الأمـم الخـلاق مـا بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ولهذا نجد الأمم التي تفقد هذه المقومات من أفلس الناس من الناحية الأمنية ، وإن كانت تملك الأسلحة الفتاكة والأجهزة الدقيقة ؛ لأن الإنسان لا يحكم بالآلة فقط ، وإنما يحكم بالشرع العادل والسلطان القوي ، كما قال تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ .

ويفهم الأمن من مفهوم الإسلام ؛ لأن الإسلام : هو الاستسلام لله بالخضوع له وامتثال أوامره واجتناب منهياته ، وقد نهى الله عن التعدي على الناس في أعراضهم وأموالهم وأبدانهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده [ رواه البخاري ( 1 / 8 ) ، ومسلم ، الحديث برقم ( 41 ) ] ومن دخل في الإسلام دخل في نطاق الأمن ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : من قال : لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله [ تقدم تخريجه ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : كل المسلم على المسلم حرام ؛ دمه وماله وعرضه [ رواه مسلم ، الحديث برقم ( 2546 ) ] .

فإذا تحقق الإسلام والإيمان توفرت أسباب الأمن ، لكن قد يكون هناك شذاذ لم يتمكن الإسلام والإيمان من قلوبهم ، فتحصل منهم نزوات تخل بالأمن ، وهنا وضع الله سبحانه زواجر وروادع لهؤلاء تكف عدوانهم وتصون الأمن من عبثهم ، فشرع سبحانه الحدود الكفيلة لردعهم وتحذير غيرهم من أن يفعلوا مثل فعلهم ، فشرع حد المرتد لحفظ الدين ، وشرع القصاص لحفظ النفوس ، وشرع حد الزنا وحد القذف لحفظ العرض والنسب ، وشرع حد المسكر لحفظ العقل ، وشرع حد السرقة لحفظ الأموال ، وشرع حد قطاع الطريق لحفظ السبل وتأمين المواصلات ، وشرع قتال البغاة لحفظ السلطة الإسلامية ومنعًا لتفريق الكلمة واختلاف الأمة .

1 - فالمرتد يقتل لحفظ الدين والعقيدة من عبث العابثين ؛ لأن المرتد ترك الحق بعد معرفته واعتدى على العقيدة التي هي أقوى أسباب الأمن ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه [ رواه البخاري ] . ( 4 / 21 ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة [ رواه البخاري ( 8 / 38 ) ، ومسلم ، الحديث برقم ( 1676 ) .

فالمرتد يقتل لتبديله الدين وتركه له ومفارقة جماعة المسلمين ؛ حتى لا يكون الدين ألعوبة للملاحدة والزنادقة ، فيغتر بهم غيرهم من ضعاف الإيمان ، ولسد الطريق على العابث الذي يدخل في الدين خداعًا ، ثم يخرج منه للتنفير منه ، كما حاول بعض اليهود هذه الخدعة زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم قوله تعالى : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي : لعل المسلمين إذا رأوا ذلك يرجعون عن دينهم .

2 - والقصاص من القاتل فيه حماية للنفوس البريئة وضمان للأمن بين الناس ، قال تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، فإذا عرف من يريد قتل إنسان أنه سيقتل به امتنع عن القتل ، فكان في هذا حفظ لحياته وحياة غيره ، وإذا أقدم على القتل فاقتص منه كان في هذا ردع للآخرين فلا يقدمون على مثل جريمته ؛ لئلا يكون مصيرهم كمصيره . فقتل نفس واحدة بالقصاص حصل به نجاة أنفس كثيرة ؛ كالعضو الفاسد يقطع لحفظ بقية الجسم ، وبذلك يأمن الناس على حياتهم .

3 - وحد الزنا بجلد البكر مائة جلدة وبمحضر عام من المؤمنين ، وتغريبه عن وطنه عامًا كاملًا ، وبرجم الزاني المحصن : وهو الذي سبق أن جامع زوجته بنكاح صحيح ، فيرجم بالحجارة حتى يموت ، كما قال تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم [ رواه مسلم ، الحديث برقم ( 1690 ) ؛ وذلك حتى يأمن الناس على أعراضهم من الاعتداء عليها ، وليأمنوا على أنسابهم من الاختلاط ، ولردع المضيعين لأعراضهم التي أمرهم الله بحفظها في قوله تعالى : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، وقوله تعالى : وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ، وبذلك يقضي على جريمة الزنا التي تدمر المجتمعات البشرية ، والتي قال الله تعالى محذرًا منها : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا .

وبتطبيق هذا الحد يأمن الناس من هذا الخطر المدمر الذي يلوث المجتمع ويهدد الإنسانية ، وينشر الأمراض الخطيرة .

4 - ولشناعة جريمة الزنا وحرمة عرض المسلم ، صان الله أعراض الأبرياء أن تدنس بنسبة هذه الجريمة إليها ، وكف الألسنة البذيئة أن تتطاول على عرض المسلم ، فتقذفه بارتكاب فاحشة الزنا زورًا وبهتانًا ، فأمر بجلد القاذف الذي لا يستطيع إقامة البينة على ما يقول بأن يجلد ثمانين جلدة ، ولا تقبل له شهادة أبدًا ، وأنه يعتبر فاسقًا ساقط العدالة ما لم يتب من هذه الجريمة ، قال تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا .

وبهذا الحد الرادع وسحب الثقة من القاذف تصان الأعراض البرئية ، وتسكت الأفواه البذيئة ، وتتوارى آثار هذه الجريمة ، ويصبح الناس في مأمن منها ومن ذكرها حتى تتوارى من المجتمع نهائيًّا .

5 - ولما كان العقل أعظم ما يمتاز به الإنسان عن غيره من الحيوانات ؛ لأنه يميز به بين الضار والنافع والحسن والقبيح ، ويدفع صاحبه إلى فعل الفضائل واجتناب الرذائل ؛ ولذا سمي عقلاً ؛ لأنه يعقل صاحبه عن فعل القبائح ، وسمي حجرًا ؛ لأنه يحجره كذلك عما لا يليق ، وسمي نُهًى ولبًّا ، وكلها أسماء تدل على شرف العقل وقيمته ؛ لأن فيه أمانًا للإنسان في خاصة نفسه من أن يناله أذى من غيره ، وأمانًا لغيره أن يناله أذى منه ، فمن تعاطى شيئًا من الأشربة أو المأكولات أو المشمومات المسكرة التي تغطي هذا العقل وتعطله عن أداء مهمته والقيام بوظيفته ، فإنه في هذه الحالة لا يؤمن أن يفعل ما يضر بنفسه أو بغيره ؛ لأنه فقد صمام الأمان فأصبح خطرًا يهدد المجتمع .

لذلك شرع الله ردعه بإقامة الحد عليه بالجلد المؤلم حتى يذوق وبال أمره ، وليتعظ به غيره ، وقد حذر الله عباده عن شرب المسكرات ، وبين خطرها وضررها ، فقال سبحانه وتعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ .

وكذا تعاطي المخدرات ؛ لأنها أشد ضررًا من الخمر ؛ لأنها تضر بالعقل والجسم ، وتفقد الرجولة وتغري بفعل الفاحشة والدياثة ، وتغري متعاطيها بالإدمان بحيث لا يصبر عنها ، ويتحول من الإنسانية إلى البهيمية ، فهي أشد فتكًا في المجتمعات من الأمراض الوبائية ، لذا يجب على ولاة الأمور التنكيل بمن يتعاطى المخدرات أو يروجها ؛ لأنه من أعظم المخربين والساعين في الأرض بالفساد ، فيجب أخذهم بالقوة حفاظًا على أمن المجتمعات ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر ؛ حفاظًا على العقول ، وصيانة لأمن المجتمع المسلم من أن تعبث به المسكرات والمخدرات .

6 - ولما كان المال قوام الحياة والحفاظ عليه من الضروريات ، كما قال الله تعالى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا . فقد حرم الله أخذ أموال الناس بغير حق والاستيلاء عليها بغير مبرر ، فالاعتداء على مال الغير كالاعتداء على دمه وعرضه في الحرمة ، كما تدل عليه الآيات والأحاديث .

ومن أشد أنواع الاعتداء على أموال الناس أخذها بالسرقة ، وهي أخذ المال خفية من حرز مثله ، وجزاء من فعل ذلك قطع يده ، هذه اليد الخائنة التي امتدت إلى ما لا يحل لها ، وعبثت بالأمن وروعت المجتمع جزاؤها البتر ، قال الله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

والسرقة أشد خطورة من اغتصاب المال مجاهرة ؛ لأن المجاهرة تمكن مدافعتها وعمل الاحتياطات المانعة من شرها ، أما السرقة فإنها مكر خفي ، وغدر سيئ ، يؤخذ بها الإنسان من مأمنه ، وتدل على جرأة المجرم حيث لم تمنعه الحروز والحصون ، فكان جزاؤه بتر يده وتعطيلها عليه ؛ ردعًا له وعظة لغيره ، وبهذا يتوفر الأمن للمجتمع ، ويطمئن الناس على أموالهم في بيوتهم ومستودعاتهم ، ويقضي على الجريمة .

7 - ولما كان ربط البلدان والأقاليم بعضها ببعض عن طريق المواصلات البرية والبحرية والجوية لنقل البضائع وتنقلات المسافرين للتجارة وغيرها من الأغراض التي تتم بها مصالحهم ، لذلك احتاج المجتمع إلى تأمين السبل بردع المجرمين الذين يحاولون قطعها ويروعون المارة ، ولأجل ذلك شرع الله سبحانه حد قطاع الطريق ، وهم الذين يتعرضون للناس بالسلاح فيغصبونهم المال مجاهرة . وهذا الحد هو ما ذكره الله تعالى بقوله : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

وبتطبيق هذه العقوبة على قطاع الطريق تأمن السبل ، وتنتظم المصالح ، ويتوافر الأمن في البر والبحر والحاضرة والبادية ، وتنتظم المواصلات بين البلدان والأقاليم ، ويسهل نقل البضائع والتبادل التجاري مما فيه صلاح العمران البشري وتوافر الإنتاج ؛ ولهذا وصف الله من يحاول تعطيل هذه المصالح بأنه محارب لله ورسوله وساع في الأرض بالفساد .

8 - ولما كان لا بد للمسلمين من قيادة تجتمع كلمتهم بها وتحل مشكلاتهم ، وتكف الظالم منهم عن ظلمه ، وتدفع العدو الخارجي عنهم ، وترعى شئونهم ، وتنفذ أحكام الله فيهم ، لما كان الأمر كذلك وأكثر شرع الله تنصيب الإمام وطاعته بالمعروف وإعانته على الخير ، قال الله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .

وحرم الله ورسوله معصية ولي الأمر إذا لم يأمر بمعصية ؛ لما في ذلك من المفاسد ، وحرم الله ورسوله الخروج على إمام المسلمين وتفريق الكلمة ، وأمر بردع من فعل ذلك حتى يكف ويلتزم بالطاعة ، فإن كان من يحاول شق عصا الطاعة وتفريق الجماعة شخصًا واحدًا وجب قتله ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ، فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر [ رواه مسلم : الحديث برقم ( 1844 ) . ] وإن كان من يحاول ذلك جماعة لهم شوكة ومنعة تهدد أمن المسلمين وتريد تفريق كلمتهم فهم بغاة ظلمة ، ويجب أولا : مناصحتهم وإزالة الشبهة التي يتعلقون بها ، فإن لم ينكفوا عن بغيهم وجب قتالهم إلى أن يرجعوا للطاعة ولزوم الجماعة ؛ لقوله تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ .

وبهذا يتبين وجوب احترام السلطة الإسلامية ووجوب مناصرتها ومناصحتها ؛ لما يترتب على وجودها من المصالح وانتفاء المفاسد العظيمة التي من أعظمها انعدام الأمن .

وأخيرًا : نتبين من هذا العرض الموجز ما حققه الإسلام من أمن المجتمع حين عجزت كل نظم البشر وأسلحتهم الفتاكة وأجهزتهم الدقيقة أن تحقق أقل القليل من هذا الأمن الذي حققه الإسلام ، وصدق الله العظيم حيث يقول : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .

ثم إن هذا الأمن الذي حققه الإسلام لا يعتمد على العقوبة وشدة البطش بأصحاب الجرائم ، وإنما يعتمد على غرس الإيمان في القلوب وزرع الخشية الإلهية في النفوس حتى تترك الإجرام رغبة عنه وكراهية له ، بل تقوم بمقاومته والنهي عنه ، ثم يتبع ذلك الوعظ والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأجل تعليم الجاهل وتذكير الغافل ، والأخذ على يد السفيه من الوقوع في الجرائم ، ثم يتبع ذلك تطبيق العقوبات الشرعية على من لم تجد فيه الموعظة ، ولم تؤثر فيه النصيحة ، ولم يأتمر بالمعروف وينته عن المنكر ، فالعقوبة آخر مرحلة ، كما يقال :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضـر كوضع السيف في موضع الندى

فالذين يظنون أن الأمن في الإسلام يقوم على مجرد العقوبة بقطع الأيدي والرقاب والجلد ، قد أساءوا الظن ولم يفهموا واقع الإسلام ، هم إما جهلة أو مغرضون يريدون تشويه الإسلام ؛ لأن الإسلام لا يلجأ إلى العقوبة إلا كحل أخير وبشروط دقيقة إذا توافرت تحتم إيقاع العقوبة ، وتكون حينئذ واقعة موقعها اللائق ولا يقوم غيرها مقامها ، وحينئذ لا تجوز الحيلولة دون إقامتها بشفاعة أو رأفة بالمجرم ، قال الله تعالى : وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضادَّ الله [ رواه أبو داود ، الحديث برقم ( 3597 ) ] كما لا تجوز المعاوضة عن الحد بالغرامة المالية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولا يحل تعطيله ( أي : الحد ) لا بشفاعة ولا هدية ولا غيرها ولا تحل الشفاعة فيه ، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته فعليه لعنة الله .

وقال أيضًا : ولا يجوز أن يؤخذ من السارق والزاني والشارب وقاطع الطريق ونحوه مال يعطل به الحد لا لبيت المال ولا لغيره ، وهذا المال المأخوذ بتعطيل الحد سحت خبيث ، وإذا فعل ولي الأمر ذلك جمع بين فسادين عظيمين : تعطيل الحد وأكل السحت ، وترك الواجب وفعل المحرم . انتهى كلامه .

وذلك أن الغرامة المالية مهما بلغت لا تنكأ المجرم ولا تقطع دابر الجريمة ، كما يحصل ذلك بإقامة الحد الشرعي ، ومثل الغرامة المالية الاعتياض عن إقامة الحد بسجن المجرم ، كل هذا لا يروي غليلًا ولا يشفي عليلًا ، فإقامة الحدود الشرعية فيها من المصالح العظيمة لمن تقام عليه وللمجتمع الذي تقام فيه ما هو مشاهد ومحسوس . وبها صلاح العباد والبلاد وتوفر الأمن واستقراره ، قال صلى الله عليه وسلم : حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحًا [ رواه النسائي ( سنن النسائي ) ( طبعة دار الفكر ، بيروت ) الحديث برقم ( 8 / 76 ) ، وابن ماجه ( سنن ابن ماجه ) ( طبعة دار إحياء التراث العربي 1395 هـ ) الحديث برقم ( 2538 ) . ] . وابن حبان في صحيحه ، وفي رواية ابن ماجه وابن حبان : خير من أن يمطروا أربعين صباحًا ، فكما أن المطر فيه صلاح الأرض ومصالح العباد ، فإقامة الحد أكثر نفعًا من المطر ؛ لأن به تطهيرهم من الرذيلة وتوفير أمنهم واستقرارهم .

ولهذا نرى أن المجتمع الذي يحكم بشريعة الله وتقام فيه الحدود ؛ يكون مضرب المثل في الأمن والاستقرار وانخفاض معدل الجرائم ، ونجد أن المجتمع الذي يحكم بغير شريعة الله وتعطل فيه الحدود يصبح مضرب المثل في الفوضى والخوف والقلق ، ولو كان من أرقى دول العالم صناعيًّا وماديًّا ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم [ رواه ابن ماجه . ( 4019 ) ] .

ذلك هو الإسلام الذي شهد الله له بالكمال وأتم علينا به النعمة ، كما قال تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ، وقال الله تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
منقول من كتاب محاضرات في العقيدة والدعوة
للشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله

12d8c7a34f47c2e9d3==