المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بشرى=رجوع الشيخ فركوس إلى الجادة في مسألة العذر بالجهل مع ردوده على شبهات أهل الإرجاء


كيف حالك ؟

عبد المنّان
12-17-2009, 02:52 PM
الأجوبة منقولة من الموقع الرسمي

في الاحتجاج بواقعة ذات أنواط على العذر بالجهل


السـؤال:

.. ثمَّ إنَّ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قد سألوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أن تكون لهم شجرة ينوطون بها سلاحَهم ويستمدُّون منها البركةَ والنصرَ، فلم يُجِبْهُمْ إلى طلبهم، بل أنكر عليهم صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أشدَّ الإنكار لِمَا وقعوا فيه من معصية الشِّرك، فكان التحذير على أصلٍ من أصول الدِّين، وقد أعذرهم بسبب الجهل لكونهم حديثي عهد بالكفر، فلذلك كان اعتبار الجهل عذرًا بحادثة ذات أنواط، وهذا نصُّها:

«عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ -وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ-، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ, اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»(١- أخرجه الترمذي في «سننه» كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم: (2180)، وقال: «حسن صحيح»، وأحمد في «مسنده»: (21390)، والحديث صححه الألباني في «جلباب المرأة المسلمة»: (202).).

فإن كان للشيخ أبي عبد المعز –حفظه الله- توجيه آخر سليم على غير ما ذكر، فليوضِّحه لنا ونكون له من الشاكرين.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالتوجيهُ المطلوبُ لهذه الواقعة يظهر بوضوح في أنَّ أصحاب النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إنما طلبوا مجرَّدَ المشابهة للمشركين لا عَيْنَ الشِّرك، حيث إنَّ سؤالَهم له باتخاذ ذات أنواط يشبه سؤالَ بني إسرائيل لموسى عليه السلام باتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بعينه؛ ذلك لأنَّ التشابه في وجهٍ أو فردٍ لا يلزم التشابه بينهما من كلِّ وجهٍ وفردٍ، كتعلُّق قلبِ المدمن بالخمر في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مُدْمِنُ الخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ»(٢- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الأشربة، باب مدمن الخمر: (3375)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم، وأخرجه أحمد في «مسنده»: (2449)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/289): «فالحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح، والله أعلم». )، فوجه التشابه بينهما أنَّ المدمنَ لا يكاد يمكنه أن يَدَع الخمرَ، كما لا يدع عابِدُ الوثن عبادته، ولم يقل أحدٌ إنَّ مدمنَ الخمر مشركٌ بهذه المشابهة في بعض الأفراد، ويمكن الاستئناس بأثر عليٍّ رضي الله عنه لَمَّا مَرَّ على قومٍ يلعبون بالشطرنج قال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟(٣- أخرجه البيهقي في سننه، كتاب «الشهادات» باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج (21532)، وفي شعب الإيمان (6518)، عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه. وأخرجه البيهقي في «سننه» (21532)، والآجري في «تحريم النرد» (ق43/1)، وابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» (47)، من طريق ميسرة بن حبيب. والحديث صحَّحه ابن حزم في «المحلى»: (9/63)، وقال عنه ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (32/244): «ثابت»، وصحَّحه ابن القيم في «الفروسية»: (310)، وضعَّفه الألباني في «إرواء الغليل»: (8/288). وانظر: «جامع العلوم والحكم» لابن رجب: (395).) فشبَّههم بالعاكفين على التماثيل، لذلك فالتشبيه من هذا الوجه لا يلزم بالضرورة المشابهة بينهما من كلِّ وجهٍ، قال الشوكاني -رحمه الله-: «هذا وعيدٌ شديد وتهديدٌ ما عليه مزيد؛ لأنَّ عابد الوثن أشدُّ على الكافرين كفرًا، فالتشبيه لفاعل هذه المعصية بفاعل العبادة للوثن من أعظم المبالغة والزجر»(٤- «نيل الأوطار» للشوكاني: (10/129).).

ومثله قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ»(٥- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب «التوحيد»، باب قول الله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة: (6998)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وانظر «ظلال الجنة في تخريج السنة» للألباني: حديث رقم: (461).)، قال ابن أبي العزِّ: «وَليس تشبيه رؤية الشمس والقمر تشبيهًا لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي»(٦- «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (1/219).).

فلذلك لم يطلب القوم الشرك الأكبر يقينًا، وإنما طلبوا أن تكون لهم شجرة ينوطون بها السلاح، ويستمدُّون من الله بها البركة والنصر، ولا يستمدُّون منها، لقيام الفرق بين طلب النصر والقُوَّة والبركة من الشجرة، وهو شركٌ أكبرُ، لصرف عبادة الدعاء والسؤال لغير الله تعالى، وبين الطلب من الله ذلك عندها أو بسببها، فهذا إنما يدخل في البدعة والشرك الأصغر، فشأنه كمن يعبد اللهَ وحده لا شريك له عند القبور، فهذا مُوَحِّدٌ لم يشرك بالله غيرَه، إلاَّ أنه مبتدعٌ؛ لأنه فضَّل مكانًا بغير مستنَدٍ شرعيٍّ، فانتقل من السُّنَّة إلى البدعة، وضمن هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ولما كان للمشركين شجرةٌ يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: اللهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾، إِنَّهَا السُّنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»(٧- سبق تخريجه.)، فأنكر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مجرَّدَ مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلِّقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه؟

فمن قصد بقعةً يرجو الخيرَ بقصدها، ولم تستحِب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشدُّ من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء، أو قناة جارية أو جبلاً أو مغارة، وسواء قصدها ليُصليَ عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو ليتنسَّك عندها، بحيث يخصُّ تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يُشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينًا ولا نوعًا»(٨- «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية: (2/157-158).).

فالحاصل أنَّ أصحابَ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لم يطلبوا الشركَ الأكبرَ وإنما طلبوا مجرَّد المشابهة حيث قالوا: «اجعل لنا ذات أنواط»، فإنه يشبه قول بني إسرائيل: «اجعل لنا إلهًا»، فاتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه، فحذَّرهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وغلَّظ عليهم مع أنهم طلبوا ولم يفعلوا، والتغليظ كما يرد في الشرك الأكبر يرد -أيضًا- في الشرك الأصغر، فمثله: قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في قول من قال له: «ما شاء الله وشئت»، فقال: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟»(٩- أخرجه أحمد في «مسنده»: (1842)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (5906)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث حسّنه العراقي في «تخريج الإحياء»: (3/128)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (139).)، فكان في زجره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لهم عن هذه المشابهة خشية أن يؤول أمرها إلى الشرك الأكبر، فقطع مادة المشابهة من أساسها وجذورها حملاً لهم على السُّنَّة والمعتقد السليم؛ لأنَّ البدع بريد الشرك الأكبر.

قال الشوكاني ‑رحمه الله‑: «ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنّ ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهةٍ غير الله تعالى»(١٠- «الدر النضيد» للشوكاني: (9).).

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.


الجزائر في: 5 شعبان 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 06 أوت 2008م


١- أخرجه الترمذي في «سننه» كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم: (2180)، وقال: «حسن صحيح»، وأحمد في «مسنده»: (21390)، والحديث صححه الألباني في «جلباب المرأة المسلمة»: (202).

٢- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الأشربة، باب مدمن الخمر: (3375)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم، وأخرجه أحمد في «مسنده»: (2449)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/289): «فالحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح، والله أعلم».

٣- أخرجه البيهقي في سننه، كتاب «الشهادات» باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج (21532)، وفي شعب الإيمان (6518)، عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه. وأخرجه البيهقي في «سننه» (21532)، والآجري في «تحريم النرد» (ق43/1)، وابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» (47)، من طريق ميسرة بن حبيب. والحديث صحَّحه ابن حزم في «المحلى»: (9/63)، وقال عنه ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (32/244): «ثابت»، وصحَّحه ابن القيم في «الفروسية»: (310)، وضعَّفه الألباني في «إرواء الغليل»: (8/288). وانظر: «جامع العلوم والحكم» لابن رجب: (395).

٤- «نيل الأوطار» للشوكاني: (10/129).

٥- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب «التوحيد»، باب قول الله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة: (6998)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وانظر «ظلال الجنة في تخريج السنة» للألباني: حديث رقم: (461).

٦- «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (1/219).

٧- سبق تخريجه.

٨- «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية: (2/157-158).

٩- أخرجه أحمد في «مسنده»: (1842)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (5906)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث حسّنه العراقي في «تخريج الإحياء»: (3/128)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (139).

١٠- «الدر النضيد» للشوكاني: (9).


في تقويم الاستدلال بشك الحواريين في العذر بالجهل
في أصول الإيمان


السـؤال:

فضيلة الشيخ، ذكرتم في حديث القدرة أنَّ ظاهر الحديث غيرُ مرادٍ، وأنه قضية عين جزئية لا تنتهض في نقض الكُليات التي تقضي بعدم العذر بالجهل في مسائل أصول الإيمان والتوحيد، غير أنه قد أشكل علي شكُّ الحواريين في قُدرة الله تعالى في إنزال مائدة من السماء، وشكِّهم في صدق رسالة عيسى بن مريم عليه السلام، حيث قال الله تعالى مبيِّنًا حوار الحواريين مع نبيِّهم: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: 113]، فالرجاء التفضُّل بإيضاح هذه المسألة المستشكلة عليّ؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

ففيما أخبر الله تعالى عن الحواريِّين في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ فإنَّ ما عليه الجمهور من المفسِّرين أنَّ الحواريين لم يحدث لهم شكٌّ في قدرة الله تعالى، حتى يُعذَروا، وإنما هو تلطّف في العبارة والسؤال، وأدب مع الله تعالى. ووجه تقدير سؤالهم على حالتين:

الحالة الأولى: على قراءة علي وعائشة وابن عباسٍ ومعاذٍ بنِ جبل رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين كمجاهد وسعد بن جبير وغيرِهم: «هل تستطيع» بالتاء، «ربَّك» بنصب الباء، فيكون المعنى: هل تستطيع أن تدعو ربَّك وتسألَه أن يُنَزِّل مائدةً من السماء، وهي قراءة الكسائي، فلم يكن الحواريون شاكِّين أنَّ الله تعالى قادر أن يُنَزِّل عليهم ذلك، وإنما قالوا ذلك لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام(١- انظر: «تفسير الطبري»: (7/129)، «تفسير البغوي» (2/77)، «تفسير القرطبي» (6/264)، «تفسير ابن كثير»: (6/112)، «فتح القدير» للشوكاني: (2/92)).

الحالة الثانية: وعلى قراءة الباقين: «هل يستطيع ربُّك»، فإنَّ تقدير معنى السؤال الفِعل والإجابة، وهذا مشهورٌ في كلام العرب، وهذا مثل قول الرجل لغيره، هل يستطيع فلان أن يأتي أو يساعدني، وقد علمت أنه يستطيع، فيكون المعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيبني إلى ذلك؟(٢- المصادر التفسيرية السابقة). وذكر ابن تيمية في معرض بيان الاستطاعة الكونية القدرية والمقارنة للفعل التي هي مناط القضاء والقدر، حيث قال: «وكذلك قول الحواريين»: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ إنما استفهموا عن هذه القدرة، وكذلك ظنّ يونس أن لن نقدر عليه، أي: فسّر بالقدرة، كما يقال للرجل: هل تقدر أن تفعل كذا؟ أي: هل تفعله؟ وهو مشهور في كلام الناس»(٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (8/374)).

أمَّا المقصود من العلم في قوله تعالى مخبرًا عنهم: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ [المائدة: 113]، فلم يشكوا في صدق رسالة نبيِّهم صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وإنما حصل لهم علم اليقين بالدليل والخبر فأرادوا علم معاينة ونظر في آية حسية تطمئنُّ قلوبهم بمشاهدتها ويزدادوا إيمانًا ويقينًا بالمعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، فأرادوا الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين، على مثال ما سأل إبراهيم عليه السلام ربَّه، قال تعالى: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، والمعلوم أنّ العرب تضع الرؤية مكان العلم، والعلم مكان الرؤية(٤- العرب تضع العلم مكان الرؤية، مثل قوله تعالى في تحويل القبلة: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143]، معنى لنعلم: لنرى. وتضع الرؤية مكان العلم كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: 1]، بمعنى: ألم تعلم. [انظر: «تفسير القرطبي»: (2/156)]).

فعلى مذهب الجمهور -إذن- أنَّ الحواريين لم يشكوا في قُدرة الله تعالى ولا في صدق نُبوَّة رسولهم صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وإنما سألوا آية حِسيةً تقوِّي إيمانهم، ويزدادوا بها يقينًا وصدقًا خالصًا من شوائب الخواطر والهواجس النفسية.

وذهبت طائفة من أهل العلم إلى ترجيح الشكِّ في قدرة الله تعالى، والشكِّ في صدق رسالة نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، وذلك في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله تعالى، وفي شكّهم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كُفر، لذلك استتابهم ودعاهم إلى الإيمان به وبرسوله حيث قال: ﴿اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 112]، وهو الذي رجَّحه الطبري وقوَّاه(٥- «تفسير الطبري»: (7/130)).

قلت: وإن كان الصحيح من التفسيرين المذهب الأول؛ لأنَّ السؤال عن استطاعته ينافي ما حكوه عن أنفسهم بقولهم: ﴿قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: 111]، إلاَّ أنه ليس في كِلا التفسيرين السابقين أدنى مسكة في الاحتجاج بالآية في العذر بالجهل والشكّ في مسائل التوحيد وأصول الإيمان؛ لأنَّ الجمهور على عدم الشكِّ، وغيرهم على الاستتابة وعدمِ الإعذار به.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.



الجزائر في: 20 جمادى الثانية 1429ﻫ
الموافق 24 جوان 2008م



١- انظر: «تفسير الطبري»: (7/129)، «تفسير البغوي» (2/77)، «تفسير القرطبي» (6/264)، «تفسير ابن كثير»: (6/112)، «فتح القدير» للشوكاني: (2/92).

٢- المصادر التفسيرية السابقة.

٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (8/374).

٤- العرب تضع العلم مكان الرؤية، مثل قوله تعالى في تحويل القبلة: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143]، معنى لنعلم: لنرى. وتضع الرؤية مكان العلم كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: 1]، بمعنى: ألم تعلم. [انظر: «تفسير القرطبي»: (2/156)].

٥- «تفسير الطبري»: (7/130).


في توجيه حديثي عائشة ومعاذ رضي الله عنهما

في العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد

السـؤال:

لقد طرحتم مسألةَ عدمِ العُذر بالجهل في أصولِ الإيمان والتوحيد في إحدى الفتاوى المتعلِّقة بالعقيدة، وقد أحببتُ أن أعرف ما إذا كان هذا الحكم غير معارض بشكِّ عائشة رضي الله عنها عندما قالت للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ»، وبحديث سجود معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وقد نهاه وأعذره عمَّا هو من الشرك الأكبر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فأمَّا قولُ عائشةَ رضي الله عنها: «مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ»(١- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الجنائز، باب ما يُقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها: (2255)، من حديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ : أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ قُلْنَا: بَلَى. قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ. فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ. ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا. فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي. ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ. حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ. فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ. فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ. فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ. فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ. فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ. فَقَالَ: «مَالَكِ؟ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيةً»، قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ شَيْء. قَالَ: «لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: «فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟» قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي. ثُمَّ قَالَ: «أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟»، قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ. فَأَجَبْتُهُ. فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ. وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَّ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ. وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي. فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ». قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «قُولِي: السَّلاَمُ عَلَىٰ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَلاَحِقُونَ») فليس فيه شكّ في علمِ الله تعالى، بل بالعكس فيه تقرير للعلم، ويدلُّ على ذلك تصديق نفسها حيث أكدَّت مقالتها بالإثبات.

قال النووي: «وهو صحيح، وكأنَّها لما قالت: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، صدَّقت نفسها، فقالت: نَعَمْ»(٢- «شرح مسلم» للنووي: (7/44))، فليس في عبارتها محذورٌ شرعي إذ لو وقعت فيه حقيقة للزم البيان على الفور من غير تَراخٍ، وخاصَّة في مسائل الإيمان والاعتقاد؛ لأنَّ «تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ» قولاً واحدًا عند أهل العلم، ولما عدم البيان في موضع الحاجة إليه دلَّ على العدم، بل دلَّ على صِحَّة معتقدها الذي أكدته بالتصديق «بنعم».

هذا، ولا ينبغي أن يضاف -لأُمِّنا عائشة رضي الله عنها زوج النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الدنيا والآخرة، وأفقه نساء المؤمنين- الشكّ في صفة ذاتية لله سبحانه المتعلِّقة بالعلم، كيف وقد أسلمت في العهد المكي، وتربَّت في بيت النبوة التي يُتلى فيه آياتُ الله والحكمة، ومن آيات الله قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الفرقان: 6]، وغيرها من الآيات الدالة على أنَّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وأمَّا سجود معاذ رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم(٣- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة: (1853)، وأحمد في «مسنده»: (18913): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قَالَ: «مَا هٰذَا يَا مُعَاذُ؟» قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ. فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذلِكَ بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «فَلاَ تَفْعَلُوا. فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ، لَمْ تَمْنَعْهُ». والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء»: (7/56)) فما عليه جمهور أهل العلم والحديث أنّه سجود تحية لا عبادة، وقد كان مثل هذا السجود جائزًا في الشرائع السابقة إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، وبقي ذلك على الجواز من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة بما في حديث معاذ رضي الله عنه، وأصبح السجود مختصًّا بجناب الرب سبحانه وتعالى، قال ابن كثير -رحمه الله- في معرض قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]: «فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكتَه، وقال بعضُ الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100]، وقد كان هذا مشروعًا في الأمم الماضية، ولكنَّه نسخ في مِلتنَا، قال معاذ: (ثمّ ذكر الحديث)»(٤- «تفسير ابن كثير»: (1/77، 2/491)).

هذا، ولا يخفى أنَّ السجود لغير الله على وجه العبادة شركٌ محرَّم في كلِّ الشرائع السابقة، فكيف يسوغ أن ينسب هذا الأمر الجَلل من عِبادة غير الله إلى هذا الصحابي الجليل الذي اختاره النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لمناظرة أهل الكتاب وتبليغهم التوحيد وأصل الدِّين، ثمَّ إنه -من ناحية أخرى- لو كان السجود للعبادة لما قال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»(٥- سبق تخريجه)، وحاشا رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أن يأمر بالمعصية بَلْهَ السجود لغير الله تعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 80].

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.



الجزائر في: 26 جمادى الأولى 1429ﻫ

الموافق ﻟ: 31 مـاي 2008م



١- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الجنائز، باب ما يُقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها: (2255)، من حديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ : أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ قُلْنَا: بَلَى. قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ. فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ. ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا. فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي. ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ. حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ. فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ. فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ. فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ. فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ. فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ. فَقَالَ: «مَالَكِ؟ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيةً»، قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ شَيْء. قَالَ: «لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: «فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟» قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي. ثُمَّ قَالَ: «أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟»، قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ. فَأَجَبْتُهُ. فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ. وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَّ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ. وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي. فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ». قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «قُولِي: السَّلاَمُ عَلَىٰ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَلاَحِقُونَ».

٢- «شرح مسلم» للنووي: (7/44).

٣- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة: (1853)، وأحمد في «مسنده»: (18913): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قَالَ: «مَا هٰذَا يَا مُعَاذُ؟» قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ. فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذلِكَ بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «فَلاَ تَفْعَلُوا. فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ، لَمْ تَمْنَعْهُ». والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء»: (7/56).

٤- «تفسير ابن كثير»: (1/77، 2/491).

٥- سبق تخريجه.


في تأويل حديث القدرة

السـؤال:

أضيفُ إلى ما سبق في مسألة العذر بالجهل في المسائل العقدية حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلِّق بالرجل الذي جهل قدرة الله تعالى فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حكاية عنه: «فَوَاللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ»(١- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول اللهَ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ - إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ واذرُوا نِصفَه في البرّ ونصْفهَ في البَحْرِ، فواللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ليُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يعَذِّبهُ أحدًا من العالمين، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فعلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ». أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب التوحيد، باب قول الله يريدون أن يبدلوا كلام الله: (7067)، ومسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6980).)، ومع ذلك عذره الله تعالى بجهله وغفر له، فهل هذا الحديث يصلح للاستدلال به في العذر بالجهل في مسائل التوحيد والاعتقاد؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فالجوابُ على الاستدلال بحديث جهلِ الرجل قدرة الله تعالى وإعذاره له من الوجوه التالية:

الأول: عدمُ التسليم بأنه كان يجهل قدرةَ الله تعالى لظهور إيمانه بقُدرة الله تعالى فيما أخرجه مسلم، قوله: «فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وَإنَّ الله يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي»(٢- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6984)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.)، وهذه الرواية التي عليها جمهور الرواة، قال النووي: «هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا، ونقل اتفاق الرواة والنسخ عليه»(٣- «شرح مسلم» للنووي (17/73).)، وفي هذه الرواية ليس فيها نفي حقيقة القدرة، بل بالعكس فيه تقرير لإيمان الرجل بقدرة الله على البعث والتعذيب، وإذا رجّح هذا المعنى لم يبق أي وجهٍ أو طريقٍ للاستدلال له على مسألة العذر بالجهل.

الثاني: فيما إذا ما قوبلت رواية الجمهور بالرواية الأخرى أمكن الجمع بينهما من المناحي التالية:

1- حمل «قدر الله» على القضاء، ويكون المعنى: «فوالله لئن قضى الله عليه ليعذبنَّه..»، وقدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد.

2- حمل «قدر الله» على التضييق لقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: 7]، ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: 16]، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87]، ويكون المعنى: «لئن ضيق الله عليه»، والتأويلان ذكرهما النووي(٤- لمصدر السابق، الجزء نفسه (ص 71).)، غير أنَّ هذين التأولين يعكّر عليهما ما جاء في غير مسلم حديث: «لَعَلِّي أُضِلُّ اللهَ»(٥- أخرجه أحمد في «مسنده»: (19540)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»(10/320): «رواه أحمد والطبراني بنحوه في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات». والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (7/106)، والوادعي في «الصحيح المسند»: (1127). )، أي: أغيب عنه وهو يدلُّ على أنَّ قوله: «لئن قدر الله» على ظاهره فلا يحتاج إلى تأويل.

3- ولو حمل الحديث على ظاهره فإنه يمكن الجمع -أيضًا- بين الحديثين من زاوية ثالثة بحمل رواية الجمهور على الممكنات والرواية الأخرى على الممتنعات، فيكون التقدير: إنَّ الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأمَّا إن سحقتموني وذريتموني في البَرِّ والبحر فلا يقدر علي.

ومعنى هذا أنَّ الرجل مُوقِنٌ بأن الله متصف بكمال القدرة في الممكنات دون الممتنعات، لظنه أن جمع ما تفرق من رماده في البر والبحر ممتنع، والممتنع خارج عن قدرة الله تعالى، ومثل هذا التفصيل في القدرة لا يعلم إلاَّ بنصٍّ شرعي فالجهل بالدقيق من صور القدرة لا يؤثِّر في ربوبية الله تعالى ولا في ألوهيته، بخلاف مَن شكَّ في أصل القدرة فهو كافر؛ لأنه ينسب إلى الله العجزَ والضعف عن إمكان الخلق، فالجهل بدقيق الصفات لا يلزم منه الجهل بأصل الصفة، كما أنَّ الجهل بالصفات لا يلزم منه الجهل بالذات، إلاَّ إذا كانت الذات لا تتصور إلاَّ بتلك الصفة، ولما كانت جزئيات المسائل تحتاج في بيانها إلى نصٍّ شرعيٍّ عذر الرجل لجهله بها؛ لأنه لا يثبت حكم الخطاب إلاَّ بعد البلاغ، قال ابن تيمية رحمه الله: «من شكَّ في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمُرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتدٍّ، ولهذا لم يكفر النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الرجل الشاكَّ في قدرة الله وإعادته؛ لأنه لا يكون إلاَّ بعد الرسالة»(٦- «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (4/606).).

هذا، والمعلوم أنَّ الحديث ورد في جهل صفة أو شك فيها ولم يرد في التوحيد وترك الشرك الذي هو أصل الدِّين كله؛ ذلك لأنَّ الرجل كان موحّدًا، يشهد له ما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كَانَ رَجُلٌ مِمَنْ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطّ إِلاَّ التَوْحِيدَ..»(٧- أخرجه أحمد في «مسنده»: (7980)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3048). وأخرجه أحمد كذلك من حديث عبد الله بن مسعود (3776)، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (5/296).)، فلو كان التوحيد منتفيًا عنه ومات مشركًا للزم عقابه بنصِّ الآية سمعًا، ولم يكن محلاًّ للغفران لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فهذا أصل كلي قطعي أنَّ مَن مات على التوحيد دخل الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحدٌ مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، وجحد صفة القدرة كفر اتفاقً(٨- «فتح الباري» لابن حجر: (6/523).)، والرجل في الحديث -كما تقدم- كان موحِّدًا ومؤمنًا بقدرة الله تعالى في الجملة على إحيائه، ولم يكن شاكًّا للبعث بل كان موقنًا، وقد بيَّن إيمانه باعترافه بأنه فعل ذلك من خشية الله تعالى، ولعلَّه لم يشكَّ أصلاً في قدرة الله في الممكنات ولا في الممتنعات، وإنما قال ذلك «في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع بحيث ذهب تيقُّظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: «أنت عبدي وأنا ربك»، فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو»(٩- «شرح مسلم» للنووي: (17/71).)، قال ابن حجر -رحمه الله-: «وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصدًا لحقيقة معناه، بل كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه»(١٠- «فتح الباري» لابن حجر (6/523).).

ومن هنا يتبيّن من خلال أقوال العلماء -بغض النظر عن خروج هذه المسألة عن محل النِّزاع لعدم تعلقها بالتوحيد- اتفاقًا على أنَّ ظاهر الحديث غير مراد، إذ لو كان مرادًا لما صاروا إلى تأويله وأعذروه بالجهل لكن لم يأت من أقوالهم ما يفيد ترك التأويل وإعذاره بالجهل، بل بالعكس إنما صرفوا اللفظ عن ظاهره ضرورة لتعارضه كدليل جزئي على قضية معيَّنة مع القواعد والأصول الكلية جمعًا بين النصوص الشرعية، فاقتضى -والحال هذه- وجوب تأويل دليل قضية عين جزئية وصرفها عن ظاهر معناها لتساير أحكام القواعد الكلية، إذ لا تنتهض الجزئيات على نقض الكليات، استبقاءً لأحكام القواعد الكلية جارية في الجزئيات وقاضية بعدم العذر بالجهل في أصول الإيمان والتوحيد.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: 07 جمادى الثانية 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 11 جوان 2008م


١- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول اللهَ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ - إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ واذرُوا نِصفَه في البرّ ونصْفهَ في البَحْرِ، فواللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ليُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يعَذِّبهُ أحدًا من العالمين، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فعلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ». أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب التوحيد، باب قول الله يريدون أن يبدلوا كلام الله: (7067)، ومسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6980).

٢- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6984)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

٣- «شرح مسلم» للنووي: (17/73).

٤- المصدر السابق، الجزء نفسه (ص 71).

٥- أخرجه أحمد في «مسنده»: (19540)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»(10/320): «رواه أحمد والطبراني بنحوه في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات». والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (7/106)، والوادعي في «الصحيح المسند»: (1127).

٦- «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية: (4/606).

٧- أخرجه أحمد في «مسنده»: (7980)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3048). وأخرجه أحمد كذلك من حديث عبد الله بن مسعود (3776)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (5/296).

٨- «فتح الباري» لابن حجر: (6/523).

٩- «شرح مسلم» للنووي: (17/71).

۰١- «فتح الباري» لابن حجر: (6/523).

عبد المنّان
12-17-2009, 06:49 PM
في ضوابط مسألة العذر بالجهل

فاعلم -وفقك اللهُ، وسدَّدَ خُطاك- أنَّ الجهل بأمور الدِّين ومسائل الشرع يدلُّ على انخفاض مَنْزِلة الجاهل ونَقص إيمانه على قدر جهله، والجهل -في الجملة- أحد موانع تكفير المعيَّن؛ لأنَّ الإيمان يتعلَّق بالعلم، ووجود العلم بالمؤمن به شرط من شروط الإيمان، إذ لا يقوم التكليف مع الجهل أو عدم العلم، غير أنَّ العذر بالجهل مؤقَّت، وتأقيته متوقِّف على عدم توفُّر الأسباب وتحقُّق الشروط، أو في إمكان وجودها وتحقُّقها تقديرًا، ومنه يعلم أنَّ إثبات العذر مُطلقًا لا يسوغ، كما أنَّ نفي العذر بالجهل مُطلقًا لا يصحُّ -أيضًا-، وقد ذكرت هذا المعنى صراحةً في رسالتي «مجالس تذكيرية» بقولي: «وإذا ترجَّح القولُ بأنَّ الجهل عُذْرٌ شرعيٌّ فليس ذلك على إطلاقه»(١- انظر (ص 95) من «مجالس تذكيرية على مسائل منهجية» - دار الإمام أحمد، الطبعة الأولى: (1426ﻫ/2005م))، غير أَنَّني عَدَلْتُ عن الاستدلال بالنصوص الشرعية المذكورة في رسالتي المشار إليها، وأعدت بيانها بتوجيه آخر، أراه أقرب للحقِّ وأجدر بالصواب.

هذا، واللائق بهذا المقام النظر في مسألة العذر بالجهل في المسائل الدِّينية إلى جزئياتٍ متعدِّدةٍ تتبلور من خلالها المسألة وتنضبط، ويمكن بيان هذه الجزئيات -باختصار- من الحيثيات التالية:



- فمن حيث نوعيةُ المسائل المجهولة وضوحًا وخفاءً:

فالمسائلُ الخفية التي قد يخفى دليلُها على بعض الناس كاستعمال الصرف والعطف -وهو: نوعٌ من السحر يزعمون أنه يحبِّب المرأةَ لزوجها فلا ينصرف عنها- أو المسائل الدقيقة والخفية المختلف فيها، أو المسائل التي لا يسعه معرفتها إلاَّ بعد إعلامه بحكم الله فيها، أو المسائل التي تحتاج إلى علمٍ بها لا يدرك بالعقل كالأسماء والصفات، كما قال الشافعي -رحمه الله-: «لله أسماءٌ وصفاتٌ لا يسع أحدًا ردُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحُجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحُجَّة فإنه يعذر بالجهل؛ لأنَّ علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر»(٢- «فتح الباري» لابن حجر (13/407))، أو المسائل التي وقع فيها خطأ لشبهةٍ وسوء فهمٍ، أو اعتمد على أحاديث ظنَّها ثابتةً وهي ضعيفة أو باطلة، فيعذر بجهله، كما يعذر المجتهد بنظره واجتهاده في مسائل اجتهادية انتفى فيها وجود نصٍّ قطعي الثبوت والدلالة، ونحو ذلك.

أمَّا المسائل الظاهرة البيِّنة الجلية، أو المعلومة من الدِّين بالضرورة كأصول الدِّين والإيمان التي أوضحها الله في كتابه، وبلَّغها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أتمَّ البلاغ، فالعذر بالجهل فيها غير مقبولٍ لكلِّ مَن ادعاه بعد بلوغ الحُجَّة وظهور المحجَّة، قال الشافعي رحمه الله -مُبيّنًا علم العامَّة-: «ما لا يسع بالغًا غير مغلوب على عقله جهلُه، مثل الصلوات الخمس، وأنَّ لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزِّنا والقتل، والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا ممَّا كُلِّف العباد أن يَعقلوه ويَعلموه ويُعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حَرَّم عليهم منه»(٣- «الرسالة» للشافعي (357)). وقال محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: «إنَّ الشخص المعيَّن إذا قال ما يوجب الكفر فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحُجَّة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلُها على بعض الناس، وأمَّا ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يُعلم من الدِّين بالضرورة فهذا لا يتوقَّف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفَّر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات بعد بلوغ الحُجَّة ووضوح المحجة»(٤- «الدرر السنية» (8/244)).



- ومن حيث حال الجاهل وصفتُه:

فإنَّ مدارك الناس تتفاوت قُوَّةً وضعفًا، فالذي لم تقم عليه الحُجَّة كحال الجاهل لكونه حديثَ عهدٍ بالإسلام، أو مَن نشأ في بادية نائيةٍ، فَجَهْلُ مَن كان هذا حاله معذور به إلاَّ بعد البلاغ، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «لا يُكَفِّرُ العلماءُ مَن استحلَّ شيئًا من المحرَّمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإنَّ حكم الكفر لا يكون إلاَّ بعد بلوغ الرسالة، وكثيرٌ من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أنَّ الرسول بعث بذلك»(٥- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (28/501)).

غير أنه ينبغي التفريق بين الجاهل المتمكِّن من التعلُّم والفهم، القادر على معرفة الحقِّ، لكنَّه مُفرِّطٌ في طلب العلم، ثمَّ أعرض عن ذلك تاركًا ما أوجب اللهُ عليه، وخاصة إذا وجد في دار الإسلام حيث مَظِنَّة العلم، وبين الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم، فأمَّا الأول: فلا عذر له لتقصيره(٦- وضع العلماء قاعدة وهي أنه: «لاَ يُقْبَلُ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ عُذْرُ الجَهْلِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ»)، وينتفي عنه وصف العجز لتمكُّنه من العلم الذي هو شرط الإيمان؛ لأنَّ الشرع أمرَ بالعلم والتعلُّم وسؤال أهل الذِّكر، ويسَّره وبيَّنه لمن صَلَحت نيَّتُه وحسن منهاجه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [سورة القمر]، وقال سبحانه: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43، الأنبياء: 7]، وفي الحديث: «أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِنَّمَا شِفَاءُ العَيِّ(٧- العي: الجهل. [«النهاية» لابن الأثير (3/334)]) السُّؤَالُ»(٨- أخرجه أبو داود في «الطهارة» (1/240)، باب في المجروح يتيمَّم، وابن ماجه في «الطهارة وسننها» (1/189)، باب في المجروح تصيبه جنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1/101)، وفي «صحيح ابن ماجه» (1/178)).

وأمَّا الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم، فهذا على قسمين:

الأول: الجاهل العاجز عن طلب العلم والفهم، وهو محبُّ للهُدَى، مُؤْثِرٌ له، مريدٌ للاسترشاد والهدايةِ، لكنه غير قادرٍ عليه، أو على طلبه، عجزًا وجهلاً، أو استفرغ جُهدَه في طلبه ولم تصله حُجَّة صحيحة، فهذا حكمه كأهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة، ومن طلب الدِّين ولم يظفر به فعجزه عجز الطالب، وهذا معذور بجهله.

الثاني: الجاهل العاجز عن العلم والفهم، لكن لا إرادةَ له في الطلب، بل مُعرِض عنه -وهو راضٍ بما هو عليه- ولا تطلب نفسه سواه، ويتقاعس عن نيل مزيد الهدى لنفسه، فحال عجزه وقدرته سواء بلا فرق، فهذا عجزه عجز المُعرِض، فهو لا يُلحق بعجز الطالب للتباين الحاصل بينهما(٩- انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيم (412، 413)).



- ومن حيث حال البيئة:

فإنه يفرَّق بين أماكن الناس وزمانهم من جهة انتشار العلم أو عدم انتشاره، أي: بين مجتمعٍ ينتشر فيه العلم والتعليم، وتعرَف أماكنه بنشاط أهل البصيرة بالدعوة إلى الله تعالى والنهوض بالعلم والتوحيد، بحيث لا تخفى مظانُّه ومدارسه وأهله، وبين زمن فتور العلم وضعف القائمين به، حتى لا يبقى من يبلِّغ، فينتشر الجهل ويَضْمَحِلُّ العلم، وتأكيدًا لهذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «إنَّ الأمكنة التي تفتر فيها النُّبوَّة لا يكون حكمُ من خَفِيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة»(١٠- «بغية المرتاد» (السبعينية) لابن تيمية (311)).

ويقول -أيضًا-: «وكثيرٌ من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يَنْدَرِسُ فيها كثيرٌ من علوم النُّبوَّات حتى لا يبقى من يبلِّغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا ممَّا يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلِّغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمَّة على أنَّ من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم والإيمان، وكان حديثَ العهد بالإسلام فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ صَوْمًا وَلاَ حَجًّا إِلاَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَالعَجُوزَ الكَبِيرَةَ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ حَجًّا، فَقَالَ: وَلاَ صَوْمٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ»(١١- أخرجه ابن ماجه في «سننه»، كتاب «الفتن»، باب ذهاب القرآن والعلم (2/1344)، والحاكم في «المستدرك» (4/520)، من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه. والحديث قوَّى إسناده الحافظ في «فتح الباري» (13/16)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/171))(١٢- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/407)).



- من حيث التسميةُ والعقوبة:

فالذي وقع في مَظهرٍ شِرْكِيٍّ ولم يعلم مناقضتَه للإسلام كأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو يعيش في بلدِ جهلٍ، أو نشأ في بادية نائية، أو كانت المسألةُ خفيةً غيرَ ظاهرةٍ فإنه يفرَّق بين قُبح المعصية وتسميةِ فاعلها بها، سواء قبل ورود الشرع وقيام الحُجَّة، أو بعد البيان وظهور الحجة الرِّسالية -كما في فتوى سابقة-(١٣- انظر رقم (667) من فتاوى العقيدة والتوحيد، تحت عنوان: «في ثبوت وصف الشرك مع الجهل قبل قيام الحجة») وبين كون مرتكبها لا يستحقُّ العقوبةَ في الدارين؛ لأنَّ العقوبة والعذابَ متوقِّفٌ على بلاغ الرسالة، لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].

فالمتلبِّس بالشرك كالساجد لغير الله مِن وَلِيٍّ أو صاحبِ قبرٍ فهو مشركٌ مع الله غيرَه في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده؛ لأنه أتى ما ينقض قولَه من سجود لغير الله، فمن حيث التسميةُ فهو مشرك بما حدث منه من معصية السجود لغير الله، لكنه قد يُعذر بجهله من جهة إنزال العقوبة التي لا تتمُّ في الدارين إلاَّ بعد البيان وإقامة الحُجَّة للإعذار إليه. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «واسم المشرِك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربِّه ويعدل به، ويجعل معه آلهةً أخرى، ويجعل له أندادًا قبل الرسول، ويثبت أنَّ هذه الأسماءَ مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية، يقال: جاهلية وجاهلاً قبل مجيء الرسول، وأمَّا التعذيب فلا»(١٤- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/38))، وقال النووي: «وأمَّا الجاهلية فما كان قبل النبوة سمُّوا بذلك لكثرة جهالاتهم»(١٥- «شرح مسلم» للنووي (3/87)).

قلت: ومِن بين الأدلة القرآنية على ثُبوت وصف الشرك والكفر مع الجهل -فضلاً عن سائر المعاصي- وذلك قبل قيام الحُجَّة والبيان، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6]، فوصفهم اللهُ بالشِّرك مع شِدَّة الجهل لاندراس آثار الشرائع، وقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 1]، والمراد بالبيِّنة هو الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فإنه بيّن لهم ضلالهم وجهلهم ودعاهم إلى الإيمان، فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة، والله سبحانه سمَّاهم كفارًا ومشركين فدلَّ على ثبوت وصف الكفر والشرك قبل البعثة المحمَّدية وقيام الحجة القرآنية.

فالحاصل: أنه ينبغي -في مسألة العذر بالجهل- مراعاة نوعية المسائل المجهولة من جهة الوضوح والخفاء، والنظرُ إلى أحوال الناس وتفاوت مداركهم من جهة القُوَّة والضعف، واعتبار حال بيئتهم -مكانًا وزمانًا- من جهة وجود مَظِنَّة العلم من عدمه، مع مراعاة التفريق في الحكم بين أحكام الدنيا والآخرة.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.



الجزائر في: 12 من ذي القعدة 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 09 نوفمبر 2008م


١- انظر (ص 95) من «مجالس تذكيرية على مسائل منهجية» - دار الإمام أحمد، الطبعة الأولى: (1426ﻫ/2005م).

٢- «فتح الباري» لابن حجر (13/407).

٣- «الرسالة» للشافعي (357).

٤- «الدرر السنية» (8/244).

٥- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (28/501).

٦- وضع العلماء قاعدة وهي أنه: «لاَ يُقْبَلُ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ عُذْرُ الجَهْلِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ».

٧- العي: الجهل. [«النهاية» لابن الأثير (3/334)].

٨- أخرجه أبو داود في «الطهارة» (1/240)، باب في المجروح يتيمَّم، وابن ماجه في «الطهارة وسننها» (1/189)، باب في المجروح تصيبه جنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1/101)، وفي «صحيح ابن ماجه» (1/178).

٩- انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيم (412، 413).

١٠- «بغية المرتاد» (السبعينية) لابن تيمية (311).

١١- أخرجه ابن ماجه في «سننه»، كتاب «الفتن»، باب ذهاب القرآن والعلم (2/1344)، والحاكم في «المستدرك» (4/520)، من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه. والحديث قوَّى إسناده الحافظ في «فتح الباري» (13/16)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/171).

١٢- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/407).

١٣- انظر رقم (667) من فتاوى العقيدة والتوحيد، تحت عنوان: «في ثبوت وصف الشرك مع الجهل قبل قيام الحجة».

١٤- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/38).

١٥- «شرح مسلم» للنووي (3/87).



في ثبوت وصف الشرك مع الجهل

وقبل قيام الحجة



السـؤال:

لا يخفى عليكم ما ابْتُلِيَتْ به هذه الأمّةُ بوقوعها في أكبر الذنوب وهو الشرك بالله جلّ وعلا، وفي مدينتنا لا تكاد تجد بيتًا يخلو من التعلّق في الصالحين والاعتقادِ فيهم ببعض خصائصِ الربوبيةِ، والتقرّبِ إليهم بأنواعٍ من العبادة، وذلك عن جهلٍ وكثرةِ دُعاة الضلالة إلى ذلك.

وسؤالنا: هل يُحكم على هؤلاء بعينهم أنهم مشركون ويعامَلون معاملتَهم؟ وهل إذا ماتوا على ذلك يجوز الترحّم عليهم والدعاء لهم؟ أفيدونا، وجزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فلا ترتفعُ صفةُ الشِّركِ على المتلبِّسِ بالشرك الأكبرِ، وتثبتُ مع الجهل قبل قيام الحُجَّة الرِّسالية وبعدَها؛ لأنّ عبادةَ غيرِ اللهِ لا توجد مع الإسلام البتة، ولا توجد إلاّ من مُشركٍ وإن كان مُصرّحًا بالإسلام، ومعنى ذلك أنّ مَنْ عَبَدَ اللهَ تعالى وعَبَدَ معه إلهًا آخَرَ لم يكن مُسلمًا، ومَن لَمْ يَعْبُدْهُ بل استكبرَ عن عبادته لم يكن مُسلمًا، فالمشركُ ليس من عِداد المسلمين؛ لأنّ دِينَ الإسلام الذي ارتضاه اللهُ وبعثَ به رُسُلَهُ هو الاستسلام لله وحده، والخضوعُ له وحده لعبادته دون ما سواه؛ ذلك لأنّ الناس على صِنفين: إمّا موحّد لا يعبد إلاّ الله وحده لا شريك له، وإمّا مُشركٌ يعبدُ غيرَ اللهِ تعالى، وليس في بني آدمَ قسم ثالث، فكلّ من قدّم شيئًا لغير الله ممَّا لا يكون إلاّ لله من خصائص الإلهية فليس ممَّن عَبَدَ اللهَ مُخلصًا له الدِّين، وإذا لم يكن مُوحِّدًا كان مُشركًا ولا ثالث لهما، وقد ذَكَرَ ابنُ القيِّم -رحمه الله- في معرِض قوله تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130]، أنّ الله تعالى قسم الخلائق قسمين: سفيهًا لا أَسْفَهَ منه، ورشيدًا؛ فالسفيهُ من رَغِبَ عن مِلَّتِهِ إلى الشِّرك، والرشيدُ من تَبَرَّأَ من الشِّرك قولاً وعملاً وحالاً فكان قولُه توحيدًا، وعملُه توحيدًا، وحالُه توحيدًا، ودعوتُه توحيدًا. فالمعرِضُ عن التوحيد مُشرك شاءَ أم أبى، والمعرِض عن السُّنَّة مُبتَدِعٌ ضالٌّ شاء أم أبى(١- مدارج السالكين لابن القيم: (3/446)).

هذا، وينبغي أن يعلم أنّ ثبوت صفة الشرك قبل قيام الحُجَّة عليه له حكم يختلف عنه بعد قيام الحُجَّة، فصاحبُ الشِّرْكِ قَبْلَ قيام الحُجَّة مُشركٌ لكن لا يستحقُّ صاحبُه العقوبةَ في الدَّارَيْنِ: القتل في الدنيا، والخلود في النار في الآخرة، وهذا إنما يكون للمشرِك بعد قيام الحجَّة الرِّسالية(٢- مسألة إيقاع العقوبة على المشرك الداخلة في مسائل الردّة والتكفير إنما هي من اختصاص القضاء الشرعي الذي يخوّله الحاكم المسلم لأهل العلم والمشهود لهم بالتمكين والعدل من أهل السنّة الذين أخذ الله عليهم العهد والميثاق، وليس لأحد أن يولي نفسه لهذا الأمر بدون تخويل من السلطة الشرعية)؛ لأنّ العقوبةَ والعذابَ متوقّفٌ على بلاغ الرسالة لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، فالشركُ ثابتٌ في كِلتا الحالتين: قبل البلاغ وبعده، غير أنه من لم تبلغه الحُجَّة الرِّسالية فشركه غير معذّب عليه؛ لأنه «لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِشَرْعٍ»، «وَالشَّرْعُ يَلْزَمُ بِالبَلاَغِ مَعَ انْتِفَاءِ المُعَارِضِ»، وأهله قبل بلوغ الحُجَّة ليسوا بموحِّدين.

فالحاصـل: إنّ مَنْ لَمْ تبلغْهُ الدعوةُ والحُجَّة الرِّساليةُ وكان متلبِّسًا بالشرك الأكبر فمعذورٌ لعدم البلاغ لا لمجرّد الجهل، إذ لا يعذر في أصول الإيمان بجهله، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»(٣- أخرجه مسلم في «الإيمان»: (153)، وأحمد: (8397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، فمن لم تبلغه الدعوةُ بحالٍ ولا سمع بها بخبر فينتفي عنهم الكفر باعتبار ما يترتَّب عليه من العقوبة في الدارين -كما تقدّم- غير أنه لا يُحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مُسَمَّى المسلمين؛ لأنّ الشرك يصدق عليهم واسمه يتناولهم ولا يبقى إسلام مع مناقضة قاعدته الكبرى شهادة: «أن لا إله إلاّ الله»؛ فشأنهم كشأن أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميّزوا شيئًا فينتفي عنهم الشرك باعتبار أنه لا يترتَّب عليهم من العقوبة في الدارين غير أنهم مشركون في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم.

أمّا مَنْ بلغته الحُجَّة الرِّسالية -خاصّة ممّن يعيش في البلدان الإسلامية- فإنّ وصف الشِّرك يثبت في حقّه بمجرّد فِعله ويستحقّ الوعيد بالعذاب ولا عُذر له بالجهل بأصول الإيمان، -لِمَا تقدَّم من حديث أبي هريرة السابق- ولا علاقةَ ترابطية بين حُكم الشِّرك ونفي العذاب، فكلُّ مُعذّب في الدارين فهو مُشرك، وليس كلّ مشركٍ معذّبًا إلاّ بعد قيام الحجّة الرسالية.

هذا، ويفترض في الناطق بالشهادتين تحقّق شروط التوحيد «لا إله إلاّ اللهُ»، وتجري عليه أحكام الإسلام ما لم يقترن به شركٌ أو تغيَّر اعتقاده بإتيانه بناقِضٍ من نواقض الشهادتين، فتجري عليه أحكام الردّة.

والواجب على المسلم بُغْضُ الشِّركِ وأهلِْهِ بلا محبّةٍ فيه ويوافق ربَّه فيما يَسخَطُه ويكرهه ولا يرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات، فيتبرّأ منها على وجه الملازمة والاستمرار، ومن حقوق البراء عدم مودّة أهل الشرك واتخاذهم أولياء، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: 1]، وألا يستغفر لهم ولا يترحّم عليهم، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]، غير أنّ معاداةَ أهل الشرك وعدمَ الرضا عنهم لا تعني الإساءة إليهم بالأقوال والأفعال، فبرُّ الوالدين المشركَين ومعاشرةُ الزوجةِ الكتابية بالإحسان والتعاملُ مع الكفار عمومًا بالمخالَقَةِ الحَسَنَةِ خُلُقٌ نَبِيلٌ يأمر به الشرعُ، حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]، وقال سبحانه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، وقال تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، هذا من حيث المعاملةُ، أمّا تأييد أهل الشرك على شركهم ونصرته لهم فحرامٌ، وقد ترتقي حُرمَتُهُ إلى حدِّ الكفر بالله تعالى، قال عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51].

هذا، ونسأل اللهَ تعالى أن يُبْعِدَنَا من الشِّرك والفِتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يوفِّقَنَا لأَنْ نكون كُلُّنَا له في محيانا ومماتِنا وسائرِ تصرّفاتِنا وأعمالِنا، مِصْدَاقًا لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163].

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.



الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ﻫ
الموافق ﻟ: 28 مارس 2007م



١- مدارج السالكين لابن القيم: (3/446).

٢- مسألة إيقاع العقوبة على المشرك الداخلة في مسائل الردّة والتكفير إنما هي من اختصاص القضاء الشرعي الذي يخوّله الحاكم المسلم لأهل العلم والمشهود لهم بالتمكين والعدل من أهل السنّة الذين أخذ الله عليهم العهد والميثاق، وليس لأحد أن يولي نفسه لهذا الأمر بدون تخويل من السلطة الشرعية.

٣- أخرجه مسلم في «الإيمان»: (153)، وأحمد: (8397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

12d8c7a34f47c2e9d3==