المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما بعد رمضان- خطبة لمعالي الشيخ العلامة صالح الفوزان


كيف حالك ؟

قاسم علي
09-27-2009, 09:01 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

ما بعد رمضان- خطبة لمعالي الشيخ صالح الفوزان

الحمد لله رب العالمين، يتيح لعباده مواسم المغفرة، ويعرضهم لنفحات جوده، ليرفع درجاتهم، ويكفر عنهم سيئاتهم، أحمده على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدأً عبده ورسوله أول سابق إلى الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الفضائل والكرامات وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: أيها المسلمون، إن التاجر إذا دخل موسماً من مواسم التجارة فتاجر فيه وباع واشترى طلباً للربح، فإنه بعد انتهاء هذا الموسم وتصفية معاملته فيه ينظر مبلغ ربحه وما حصل عليه من مكاسب، ينظر هل ربح أو خسر؟ هل غنم أو غرم؟ هذا الاهتمام البالغ في تجارة الدنيا وعرضها الزائل، تعتبرونه حذقاً ورشداً، ونحن قد مر بنا قريباً موسم من مواسم تجارة الآخرة الباقية، تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تجارة لن تبور، قد مر بنا شهر رمضان المبارك، تربح فيه السنة ثواب الفريضة، وتربح فيه الفريضة ثواب سبعين فريضة، يربح فيه العمل في ليلة واحدة ثواب العمل في ألف شهر، يفوز فيه أهل الاستقامة والصلاح برحمة الله، ويحصل فيه المذنبون على مغفرة الله، ويعتق فيه المستحقون لدخول النار من أصحاب الكبائر الموبقة يعتقون فيه من النار إذا تابوا إلى ربهم، من صام أيامه وقام لياليه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، لقد مر بنا هذا الشهر بخيراته وعشنا أيامه ولياليه فلنحاسب أنفسنا ماذا ربحنا فيه؟ ماذا استفدنا منه؟ ما أثره على نفوسنا؟ وما مدى تأثيره على سلوكنا؟ هل ربحنا أو خسرنا؟ هل تقبل منا ما عملنا فيه أو رد علينا؟ لقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- حينما ينتهي رمضان يصيبهم الهم هل تقبل منهم أو لا؟ فيدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان، فهم كما وصفهم الله بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، [المؤمنون: 60-61]، يخافون أن ترد عليهم حسناتهم أشد مما يخاف المذنبون، أن يعذبوا بذنوبهم؛ لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، [المائدة : 27].

عباد الله، إن للقبول والربح في هذا الشهر علامات، وللخسارة والرد علامات واضحة يعرفها كل إنسان من نفسه، ففكروا في أنفسكم، من كان حاله في الخير والاستقامة بعد رمضان أحسن من حاله قبله، ومن حسن سلوكه وعظمت رغبته في الطاعة وابتعد عن المعاصي ونفر منها بعد رمضان؛ فهذا دليل على قبول أعماله الصالحة في رمضان ودليل على ربح تجارته في رمضان، ومن كان بعد رمضان كحاله قبله أو أسوأ، مقيم على المعاصي بعيد عن الطاعة، يرتكب ما حرم الله، ويترك ما أوجب الله، يترك الصلاة ولا يحضر الجمع والجماعات، يسمع النداء للصلاة فلا يجيب، ويعصي فلا يتوب، لا يدخل مع المسلمين في بيوت الله، ولا يتلو كتاب الله، ولا يتأثر بالوعد والوعيد، ولا يخاف من التهديد، سماعه للأغاني والمزامير، ونطقه قول الزور، وشرابه الدخان والمخدرات والخمور، وما له من الرشوة والربا وبيع السلع المحرمة والكذب في المعاملة والغش والخديعة والفجور، ماذا استفاد هذا من رمضان ومن مواسم المغفرة والرضوان؟ إنه لم يستفد سوى الآثام والخسران، والعقاب والنيران، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن جبريل -عليه السلام- قال له: "ومن أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فمات فدخل النار فأبعده الله قل أمين، فقلت: آمين"؛ فهذا خبر عن محمد -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل -عليه السلام- أن من أدركه رمضان فلم يغفر له فيه ومات على هذه الحالة أنه في النار، ودعا عليه جبريل بالبعد عن رحمة الله وأمن على ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيا عظم الخسارة، ويا فداحة المصيبة، ويا هول العقوبة. يا من عرفت في رمضان أن لك رباً كيف نسيته بعد رمضان؟ يا من عرفت في رمضان أن الله أوجب عليك الصلوات الخمس في المساجد كيف جهلت ذلك أو تجاهلته بعد رمضان؟ يا من عرفت في رمضان أن الله حرم عليك المعاصي كيف نسيت ذلك بعد رمضان؟ يا من عرفت في رمضان أن أمامك جنة أو نار وثواباً وعقاباً كيف نسيت ذلك بعد رمضان؟ يا من كنتم تملؤون المساجد في رمضان وتتلون كتاب الله فيها، كيف هجرتم المساجد والقرآن بعد رمضان؟ نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة، ومن الضلالة بعد الهدى، لقد كانت المساجد في رمضان تغص بالمصلين في الأوقات الخمسة، برجال لم ينزلوا من السماء ولم يقدموا من سفر، وإنما يسكنون بجوار المساجد طول السنة ويملؤون البيوت، لكنهم لا يعرفون المساجد في غير رمضان، ولا يخافون الله في غير رمضان، وأعجب من ذلك أن هؤلاء لهم آباء وإخوان يحافظون على الصلاة طول السنة لكنهم لا ينكرون عليهم، بل يسكنون معهم وينبسطون بصحبتهم ويؤاكلونهم ويجالسونهم؛ فإذا حضرت الصلاة قاموا إليها وتركوهم وأغلقوا عليهم البيوت مع النساء والأطفال، دون خوف من الله ألم تنزل اللعنة والغضب على بني إسرائيل على مثل هذا الذي تصنعونه، وأنتم تقرؤون هذا في كتاب الله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة : 78-79]، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بأن أحدهم كان يرى الآخر على معصية الله فينهاه عن ذلك. ثم يراه مرة أخرى فلا يمنعه ذلك أن يكون آكيله وجليسه، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً أو تقصرنه على الحق قصراً"، وفي رواية: "أو ليضربن الله قلوب بعضكم على البعض أو ليلعنكم كما لعنهم"، إنني أعتقد أن واحداً من هؤلاء الذين يسكتون عن أبنائهم ومن في بيوتهم إذا تركوا الصلاة لو نقصه ابنه أو أخوه شيئاً من ماله لم يسكت عنه ولم يتركه في بيته، بل تظهر شهامته ورجولته وحزمه وغيرته على الدنيا، وأما الدين فلا يهمه أمره.

فاتقوا الله أيها المسلمون، واخشوا من العقوبة العاجلة والآجلة؛ فها هي الحروب الطاحنة تحيط بكم من جميع الجوانب في لبنان وفي العراق وفي أفغانستان وفي الصومال، دمرت مدن بأكملها وهلك الألوف من الناس وشرد الملايين من ديارهم، وأنتم تنعمون بالأمن وترفلون في الغنى والثروة، وتتمتعون بأحسن المآكل والمشتهيات، لكنكم لم تشكروا نعمة الله فاحذروا من عقوبته؛ فقد قال سبحانه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، [إبراهيم : 7] وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، [الأنفال : 53].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...



( من كتاب الخطب المنبرية، لمعالي الشيخ الدكتور صالح الفوزان/ ج2)

12d8c7a34f47c2e9d3==