المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النصوص السلفية السديدة صواعق تدك قواعدالمرجئة الماكرة الجديدة -سلسلة (03)


كيف حالك ؟

عبد الغني الغرباوي
09-22-2008, 06:20 PM
[سلسلة الرد على الفرقة الربيعية (03)]

النصوص السلفية السديدة
صواعق تدك قواعد
المرجئة الماكرة الجديدة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
((فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها))
"بيان بطلان التحليل"(ص215).

كتبه إعداداً:
المعتز بالله وحده المنتصر للحق و أهله
عبد الغني السلفي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فليعلم أهل السنة والجماعة حقاً لا ادعاء أن دعوتهم مستهدفة من أهل الفتن والأهواء وأنهم لا يملون من المكايد والشبه والفتن في أوساط أهل السنة والجماعة وبث أسباب الفرقة .
ولقد نبتت نابتة في هذه السنين تلبس لباس السنة والسلفية ولكنها تخالف أهل السنة في أصولهم وعقيدتهم وتطبيقاتهم ، وانتحلت هذه النابتة أصولاً لمقاومة منهج و عقيدة أهل السنة وفتاوى علمائهم ، كما وضعت هذه النابتة أصولا لرد هذه الفتاوى القائمة على الكتاب والسنة مثل:
1- "نحن لا نقلد أحداً ونحن أصحاب الدليل" ثم لم تأتي لهم بعشرات الأدلة عل كفر تارك عمل الجوارح بالكلية وأن أعمال الجوارح كلها ليست شرط كمال في الإيمان؛ لا يرفعون بها رأسا ويشوشون بقواعدهم الباطلة العاطلة الأخرى، و سيظهر في طيات هذه الرسالة هل سيلتزمون الدليل فيتبعون عقيدة أهل السنة و الجماعة في الإيمان أم سيبقون على ضلالهم و إرجائهم.
2- "القول ما قال إمام الجرح و التعديل، يقصدون (ربيعا المدخلي)". أي أنهم يردون فتاوى العلماء وأحكامهم على أهل البدع والإرجاء المدعمة بأدلة الكتاب و السنة و إجماع الأمة؛ بدعوى لم يتكلم إمام الجرح و التعديل فيحصرون المرجعية العلمية فيه بالإضافة إلى أصولهم الأخرى، ويكفي في ردعهم و رد أصلهم الفاسد ما جاء في تفسير الإمام ابن جرير الطبري، سئل أبو العالية –رحمه الله- كيف كانت الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: (كانت الربويبة أنهم وجدا في كتاب الله ما أمروا به و نهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا به، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم). و مما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (( وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو على طريقته، ويوالي و يعادي عليه، غير النبي صلى الله عليه و سلم...بل هذا فعل أهل البدع)) أنظر (الفتاوى) له، و هذا يكفي لردعهم و رد أصلهم الفاسد.
3- "رفقا أهل السنة رفقا "، فيعتبرون عدم نقد البدع وأهلها والتحذير منها رفقا وحكمة و عكس ذلك هدماً وغلوًا و حداديةً وتسرعاً، وهم لا ينصحون وفي المقابل يهدمون أهل السنة ويحاربونهم أشد الحرب كما يحاربون من قال بكفر تارك جنس العمل وأن أعمال الجوارح كلها ليست شرط كمال في الإيمان بل هي ركن من حقيقته، فيصفون من أخذ بالعقيدة المستمدة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة - الصالح – بأنه حدادي و غالي وتكفيري..الخ و الله المستعان ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال:" ساببت رجلاً فعيرته بأمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"( ).
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث :" واستدل( ) أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر :"فيك جاهلية"، أي خصلة جاهلية، مع أن منـزلة أبي ذر في الذروة العالية، وإنما وبخه بذلك على عظيم منـزلته عنده تحذيراً له عن معاودة مثل ذلك، لأنه وإن كان معذوراً بوجه من وجوه العذر، لكن وقوع ذلك من مثله يستعظم أكثر ممن هو دونه"انتهى.
وفي الحديث نصح أبي ذر لله وللمسلمين حيث بلغ هذا الحديث الذي فيه زجر للمسلمين من الوقوع في أمور الجاهلية.
وفيه بيان انقياده لله وطاعته لرسول الله حيث صار يسوي بين نفسه وغلامه كما في هذا الحديث نفسه في البخاري عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال:" إني ساببت رجلا.."الحديث.
فأين الرفق؟، وأين قاعدة رفقا أهل السنة؟، وأين من يستنكر إذا قيل الشيخ فلان وافق المرجئة أو فلان هو الذي يقود مذهب المرجئة في المملكة أو..الخ ، أهم فوق منزلة الصحابة؟!!.
ومن بين الأدلة على بطلان قاعدتكم هذه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لخطيب من خطباء أصحابه يريد الخير قال هذا الصحابي في خطبته " من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى " .
فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم "بئس خطيب القوم أنت " .
هذا النص وحده في نظر المؤمنين يدك قاعدة "ربيع المدخلي و أتباعه" : "رفقا أهل السنة رفقا"، فهل هناك أشد من قول الرسول صلى الله عليه و سلم بئس خطيب القوم أنت ؟!.
فإذا قال خطيب قوم كلاماً باطلاً أو قال في شرحه لسنن أبي داود أو شرح لباب من صحيح البخاري ببدعة الإرجاء مثلا فقلنا له بئست البدعة بدعتك لحق لنا ذلك؛ لأننا مستندون إلى جبل عظيم وهو هذا النص النبوي العظيم والموقف المحمدي الكريم .
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة، فانصرف رجل، فكأن معاذاً تناول منه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" فتان فتان فتان (ثلاث مرات)" أو قال فتاناً، فتاناً، فتاناً، وأمره بسورتين من أواسط المفصل "( ).
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث:" ومعنى الفتنة ها هنا أن التطويل يكون سبباً لخروجهم من الصلاة وللتكره للصلاة في الجماعة ... وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله فتان أي معذب لأنه عذبهم بالتطويل ، ومنه قوله تعالى:(إن الذين فتنوا المؤمنين) قيل معناه عذبوهم".
فهذا معاذ من أفاضل الصحابة ومن كبار علمائهم وله المنزلة الكبيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأول له قولاً ولا عملاً لا يريد به إلا الخير .
فلم يسكت عنه ولم يقل رفقا ولا نجرح أو الجرح بدعة ولا حتى يتكلم إمام الجرح و التعديل ولا غير ذلك من قواعد القوم الباطلة. و بهذا تهدم قاعدة "المدخلي" ومن أزه أزا تحذيرا للعباد –دون تشديد الباء و بكسر العين لا فتحها – والحمد لله رب العالمين.

ومن جهة أخري وضعوا أصولا لحماية أهل البدع وزعمائهم ولمواجهة أصول السلف وعقيدتهم في نقد بدعة الإرجاء وأهلها مثل:
1- "لا يحمل الكلام المجمل على المفصل ": فهم لا يقولون به إلاّ في كتاب الله و سنة رسوله – صلى الله عليه و سلم- لكن في واقع الأمر – الـمُر- يطبقونه على فهوم السلف الصالح لنصوص الكتاب و السنة، فيردون إجماعاتهم و تقريراتهم العقدية بله يتناقضون كعادتهم فلا يطبقونها على النصوص نفسها مثل حديث الشفاعة وغيرها بله الاعتراض بالنصوص المتشابهة على عقيدة أهل السنة في باب منزلة العمل من الإيمان كما فعل " المدخلي" في مقاله عندما اختلط عليه فهم مصطلح (جنس العمل)، وبهذا اتبعوا طريقة أهل الأهواء الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله أعاذنا الله منهم. [يضاف كلام العلماء في المسألة]
2- "ترك أعمال الجوارح بالكلية مسألة اجتهادية خلافية بين أهل السنة فلما التبديع": وهذه القاعدة الماكرة يدافعون بها عن أتباعهم ويهدمون بها إجماع السلف الصالح على أن العمل ركن في حقيقة الإيمان وأن تاركه بالكلية – أي جنس العمل - كفر. وستأتي الأدلة السلفية على ذلك وعندها يظهر المحق من المبطل ومن صاحب الدليل و من المقلد الأعمى.
3- قولهم:" اتركوا الألفاظ الحادثة: (جنس عمل)..(شرط كمال)..( شرط صحة)، هذه ألفاظ لم ترد في القرآن ولا في السنة "، ثم هم يذكرونها و يفسرونها تفسيراً كاذباً يفضحهم تطبيقهم لها، ومن يتظاهر منهم بعدم استعمالها يفضحه تأييد ومولاة من يقول بها مريدا المعنى الباطل ليروج عقيدته الإرجائية كأمثال "علي حسن الحلبي".

قد خالف أصحاب هذه القواعد أصلا من أصول الإيمان مجمعاً عليه ألا وهو ركنية عمل الجوارح في حقيقة الإيمان و إذا علمت أن تقعيدهم لتلك القواعد الباطلة السابقة بقصد التشويش على أهل السنة لما جعلوا بمقتضى الأدلة أعمال الجوارح جزء من حقيقة الإيمان وليست شرطاً في كماله، ها أنا ذا أسوق إليك عدداً من الأدلة و النصوص السلفية التي تهدم أصولهم الفاسدة و مقصادهم الخبيثة :

(أدلة القرآن الكريم )

الدليل الأول: قوله تعالى في آخر سورة الأنعام [ آية:158]: يوم يأت بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً الآية ، فهذه الآية تدل على كفر من زعم أنه مؤمن لإتيانه بتصديق القلب واللسان دون كسب الجوارح ؛ لأنها نص في عدم نفع الإيمان لكل نفس آمنت ولم تصدق إيمانها بالعمل قبل إتيان بعض الآيات ، وأنه لن ينتفع عندئذ إلا الذي جمع بين الإيمان مع كسب العمل الذي هو من حقيقته:
ـ قــال أبو جعفـر الطبري رحمه الله(تفسيره:8/76) :"وأما قوله أو كسبت في إيمانها خيراً فإنه يعني : أو عملت في تصديقها بالله خيراً من عملٍ صالحٍ تصدقُ قِيْلَه وتحققه ، من قبل طلوع الشمس من مغربها ... ولا ينفع من كان بالله وبرسله مصدقاً ولفرائض الله مضيعاً ، غير مكتسبٍ بجوارحه لله طاعة ، إذ هي طلعـت مـن مغربهـا أعمالُه إن عمـل ، وكسبـه إن اكتسـب ، لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك ، كما حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بـن المفضـل قال : ثنا أسباط عن السدي يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ، يقول : كسبت في تصديقها خيراً : عملاً صالحاً ، فهؤلاء أهل القبلة وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيراً ، فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها ، وإن عملت قبل الآية خيراً ثم عملت بعد الآية خيراً قبل منها".
ـ وقال الشوكاني رحمه الله(فتح القدير:2/254) :"قولـــه أو كسبت في إيمانهـا خيراً معطـوف علـى آمَنَتْ ، والمعنى : أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفةً بأنها لم تكن آمنت من قبل ، أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً. فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان ، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيراً في إيمانه ، أو كسب خيراً ولم يؤمن فإن ذلك غير نافعه".

الدليل الثاني : قوله تعالى في سورة فاطر [ آية:10] : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، فعلى التفسير المنقول عن السلف أن رفع القول والذي أعظمه الشهادتان متوقف على العمل الصالح ، فمن أقر ولم يعمل لم يكن له عمل يرفع الإقرار ، فدل على أن العمل وأعظمه الصلاة شرط لقبول القول الذي أعظمه الشهادتان ، وإليـك أيهــا الأخ الطالب للحــق أقــوال بعـض المفســرين والمصنفين في كتب الاعتقاد :
ـ قال أبو جعفر الطبري رحمه الله(تفسيره:22/80) :"وقوله إليه يصعـد الكلم الطيب : يقول تعالى ذكره : إلى الله يصعد ذكر العمل إياه وثناؤه عليه ، والعمل الصالح يرفعه ، يقول : ويرفع ذكرَ العبد ربه إليه عملُه الصالح ، وهو العمل بطاعته وأداء فرائضه والانتهاء إلى ما أمره به ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"أ.هـ. ثم أسند عدة آثار منها : ما أسنــده بقولـه : حدثني علي ، ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قولهإليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، قال : الكلام الطيب ذكر الله ، والعمل الصالح أداء فرائضه ، فمن ذكر الله سبحانه في أداء فرائضه حمل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله ، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله فكان أولى به". قلت : هذا من نسخة رواها الكبـار عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث ، إلا أن المحدثين أجمعوا على أن ابن أبي طلحـــة لم يسمــع من ابــن عباس رضي الله عنه ، لكن قال السيوطي(الإتقان:2/188) :"قال أحمد بن حنبل : [ بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ، ما كان كثيراً] ، أسنده أبو جعفر النحاس في ناسخه. قال ابن حجر : [ وهذه النسخة كانت عند أبي صــالح كاتـب الليث ، رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهي عند البخاري عن أبي صالح ، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيراً فيما يعلقه عن ابن عباس ]. وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيراً بوسائط بينهم وبين أبي صالح. وقـال قــوم : لم يسمــع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير ، وإنما أخذه من مجاهد وسعيد بن جبير ؛ قال ابن حجر :[ بعد أن عرفت الواسطة ــ هو ثقة ــ فلا ضير في ذلك ]"أ.هـ. ونقل كذلك في كتابه(الدر المنثور:8/700) أن ابن حجر قال:"عليٌّ صدوق ، ولم يلق ابن عباس ، لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه ، فلذلك كان البخاري وأبو حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة"أ.هـ. قلت : جزم البخاري بمعلقات عن ابن عباس من هذا الطريق. وقد روي هذا المعنى عن جمــع من التابعــيــن كما ستأتي الإشارة إليه.
ـ وقال أبو عبد الله القرطبي (الجامع لأحكام القرآن:14/330) تحت هذه الآية:"قال ابن العربي : [إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفـع ؛ لأن من خالف قوله فعلَه فهـو وبــالٌ عليـه ، وتحقيق هذا : أن العمل إذا وقع شرطاً في قبول القول أو مرتبطاً ، فإنه لا قبول له إلا به ، وإن لم يكن شرطاً فيه فإن كلمه الطيب يكتب له وعمله السيئ عليه ، وتقع الموازنة بينهما ، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران ] أ.هـ. قلت [ القائل القرطبي ]: ما قاله ابن العربي تحقيق ، والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب ، وقد جاء في الآثار أن العبد إذا قال : لا إله إلا الله ، بنية صادقة نظرت الملائكة إلى عمله ، فإن كان العمل موافقاً لقوله صعدا جميعاً ، وإن كان عمله مخالفاً وقف قوله حتى يتوب من عمله. فعلى هذا : العمل الصالح يرفـــع الكلم الطيب إلى الله ، والكناية في يرفعه ترجع إلى الكلم الطيب ، وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك ، وعلى أن الكلم الطيب هو التوحيد ، فهو الرافع للعمل الصالح ؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد ، أي : والعمل الصالح يرفعــه الكلم الطيب ، فالكناية تعود على العمل الصالح ، وروي هذا القول عـن شهــر بـن حــوشب قــال: [ الكلم الطيب القرآن ، والعمل الصالح يرفعه القرآن ]. وقيل : تعود على الله عزوجل ؛ أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب ؛ لأن العمل تحقيق الكلِم ، والعامل أكثر تعباً من القائل ، وهذا هو حقيقة الكلام ؛ لأن الله هو الرافع الخافض ، والثاني والثالث مجاز ، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس : القول الأول أولاها وأصحها لعلوّ من قال به ، وأنه في العربية أولى ؛ لأن القراء على رفع العمل ، ولو كان المعنى : والعمل الصالح يرفعه الله ، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ، لكان الاختيار نصف العمل ، ولا نعلم أحداً قرأه منصوباً"أ.هـ. قلت : الأمــر كمــا قــال النّحـاس رحمه الله ، لكن وإن كان القول الأول هو الأشهر من حيث القائل به وأصح من حيث القراءة واللغة ، إلا أنه لا منافاة بين القولين الأول والثاني ؛ فإن القـول والعمل كلاهما شرط في صحة الإيمان ، فإذا كان العمل الصالح لا يرفع إلا بأن يسبقه القول الذي هو الإقرار المتضمن للتصديق ، فكذلك لا يرفع الإقرار إلا بالعمل المصاحب للعمل فلا يرفع أحدهما إلا بالآخر.
ـ وقال الآجري(1/284) : بعد ذكره هذه الآية :"فأخبر تعالى بأن الكلام الطيب حقيقته أن يُرفع إلى الله تعالى بالعمل ، إن لم يكن عمل بطل الكلام من قائله ورُدَّ عليه. ولا كلام طيب أجل من التوحيد ، ولا عمل من أعمال الصالحات أجل من أداء الفرائض".
ـ وقال ابن الحنبلي في (الرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة:2/802) :"والدلالة أيضا على أن الإيمان قول وعمل ، قول الله تعالى  إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، فأخبر الله تعالى أن القول لا يرفع إلا بالعمل ؛ إذ العمل يرفعه ، فدل على أن قولاً لا يقترن بالعمل لا يرفع .

وقد تنوعت دلالات القرآن الكريم على ركنية العمل و دخوله في مسمى الإيمان و أنه ركن فيه لا ينفع الإيمان بدونه. لمزيد من أدلة القرآن الكريم راجع كتاب (براءة أهل الحديث و السنة من بدعة الإرجاء، صفحة68: وما بعدها) للكثيري وقد أثنى على الكتاب في مجمله الشيخ فالح الحربي كما هو متواتر عنه.
(أدلة الحديث النبوي)

(الفرع الأول) :أحاديث في عموم العمل ، منها على سبيل المثال :
(1) ما روى الشيخان(البخاري:6/103-4949،مسلم:4/2039-2647) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة". قالوا : يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ قال :"اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى. ففي هذا الحديث دليل على ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من الكتاب والسنة من أن الجنة لا تنال إلا بعمل ، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفهم ، ولذلك نهاهم عن ترك العمل احتجاجاً بالقدر ، ولا ينافي هذا مارواه الشيخان(البخاري:7/13-5673،مسلم:4/2169-2816) من حديث أَبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"لن يدخل أحداً عملُه الجنة". قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :"لا ، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة ، فسددوا وقاربوا ". فلا يعني هذا أن الجنـة تنـال بغـير عمـل ، بـل لا بد من العمل لدخولها لقوله صلى الله عليه وسلم:"فسددوا وقاربوا"، ولقوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل:32 ] ، وقوله تعالىوتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملــون [ الزخرف:72 ] ، وإنما النفي في الحديث أن يكون دخولها على سبيل المعاوضة دون رحمة الله للعبد بهدايته وتوفيقه له ثم قبول هذا العمل ومغفرته لسيئاته :
ـ قال النووي رحمه الله (شرح مسلم:17/159) في الجمع:"أَنَّ دخول الجنَّـة بسبب الأعمال , ثمّ التوفِيق لِلأعمال والهداية لِلإخلاص فيها , وقبولها برحمة اللَّه تعالى وفضله , فيصح أنّه لم يدخل بمجرد العمل . وهو مراد الأحاديث , ويَصحّ أَنَّه دخل بالأعمال أي بسببِها , وهي من الرّحمة".
ـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى:1/217):"فلن يدخل أحد الجنة بعمله ، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة. وقوله صلى الله عليه وسلم [ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ] لا يناقض قوله تعالى جزاء بما كانوا يعملون ؛ فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة ، كما يقال : بعت هذا بهذا ، وما أثبت أثبت بباء السبب فالعمل لا يقابل الجزاء ، وإن كان سبباً للجزاء".
ـ وقال ابن القيم (مفتاح دار السعادة:1/8):"الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نفى معها الدخول : فالمقتضية هي باء السببية الدالة على أن الأعمال سبب للدخول مقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها ، والباء التي نفى بها الدخول هــي بــاء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم : اشتريت هذا بهذا. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمــل أحد ، وأنــه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة فليس عمل العبد وإن تناهى موجباً بمجرده لدخول الجنة ولا عوضاً لها ؛ فإن أعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا ولا تعادلها".
(2) وقد جاء نص صريح بنحو حديث عليّ رضي الله عنه فيه اشتراط العمل لدخول الجنة ، وذلك فيما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا نبي الله! أريت ما نَعملُ ، ألأَمرٍ فُرغَ منه ، أم لأَمرٍ نستقبله استقبالاً ؟ قال :"بل ، لأَمرٍ فُرِغَ منهُ". فقال عمر : ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلٌّ ـ وفي رواية [ كلا ] لايُنالُ إِلاّ بالعَملِ". فقال عمرُ : إنا ـ وفي رواية [ إذن ] نجتهد. رواه معمر بن راشد في كتاب(الجامع الملحق بالمصنف:11/111-20063). وابن وهب في كتاب(القدر:109-20) ، من طريق يونس بن يزيد الأيلي. وابن أبي عاصم في كتاب(السنة:1/134-167،168) ، من طريق محمد بن الوليد الزبيدي والأوزاعي. والفريابي في كتاب(القدر:47-29،30) ، من طريق الزبيدي ويونس بن يزيد. واللالكائي(شرح اعتقاد أهل السنة:4/838-1556) ، من طريق معمر.أربعتهم(معمر ، الزبيدي ، والأوزاعي ، ويونس) عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب عن عمر فذكره. وهذا الحديث أعل بعلتين :
الأولى : قول بعض المحدثين أن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر رضي الله عنه ، وأجيب بأنه قد ثبتت رؤيته لعمر رضي الله عنه على المنبر حيث إنه ولد لسنتين من خلافتـه ، ولـذا قـال يحيى بن معين : ابن ثمان سنين يحفظ شيئـاً. وقـال الإمــام أحمـد :"سعيــد عــن عمــر حجــة ، قـد رأى عمر وسمع منه ، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل ؟ أ.هـ. ويضاف لهذا أن الأئمة نصوا على أن مراسيل ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصح المراسيل ، وانظر لذلك كله (تهذيب الكمال:11/73،74).
الثانية : الاختلاف في هذا الحديث من أوجه أخرى :
أ- بإدخال أبي هريرة بين سعيد بن المسيب وعمر رضي الله عنهم ، رواه من هذا الوجه ابن أبي عاصم في كتاب(السنة:1/135-171). والبزار(كشف الأستار:3/18-2137). والفريابي في كتاب(القدر:49-31). وابن حبان(الإحسان:1/312-108). والآجري(الشريعة:1/344-363). من طريقين عن أنس بن عياض عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن عمر مرفوعاً. قال البزار بعده :"رواه غير واحد عن الزهري عن سعيد : أن عمر قال. لا نعلم أحداً يسنده عن أبي هريرة إلا أنس". قلت : صحح هذا الوجه كما ترى ابن حبان لأنه رأى ذكر أبي هريرة زيادة من ثقة وهو أنس بن عياض ، ولكن خالفه غيره كما سيأتي.
ب- بذكر الحديث من طريق عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما ، رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله عن عمر ، ذكر هذا الوجه البزار(كشف الأستار:3/19-2137). والدارقطني(العلل:2/91-سؤال134) معلقاً دون إسناد.وهذا الوجه لا يصح لأن ابن أبي الأخضر ضعيف.

ج- بذكر الحديث عن الزهري مرسلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه عُقَيل بن خالد عن الزهري مرسلاً. ذكره الدارقطني(العلل:2/91-سؤال134) معلقاً دون إسناد ، وقال :"والمرسل أصح). قلت : الدارقطني إمام عارف ولا شك ، لكن يشكل على ترجيحه أنه قد خالف عٌقيلاً أربعةٌ من أصحاب الزهري الأثبات ــ وإن كان في رواية يزيد عنــه وهمٌ قليلٌ ــ وهم : معمر ، الزبيدي ، والأوزاعي ، ويونس بن يزيد. كلهم رواه عن الزهري عن سعيد عن عمر ، والحكم لهم أولى ، ولعله رحمه الله راعى مخالفة المتن لسائر الراويات التي تذكر أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم كانت:"كلٌ ميسر لما خلق له" ، لكن قد صحح ابن حبان كما عرفت الوصل بزيادة أبي هريرة. وعلى كل حـال فعنـدي أن قـوله صلى الله عليه وسلم في هـذا الحـديث: "لا ينال إلا بعمل" كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عليّ رضي الله عنه المتفق عليه :"اعملوا ، فكل ميسر لما خُلق له" ، ولا مانع من تعدد الواقعة ، فمرة قال هذا ومرة قال اللفظ الآخر ، والله أعلم.
(3) ما رواه الشيخان(البخاري:2/165-1496،مسلم:1/51-29) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن ، فقال:"ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم". وجاءت الرواية لهما في دعوتهم للتوحيد بلفظ:"فإذا عرفوا الله" ، وأما رواية الصلاة فجاءت:"فإذا فعلــوا" ، وفي أخــرى للبخــاري وحده:"فإذا صلوا". فيلاحظ هنا أنه صلى الله عليه وسلم علق إجابة الدعوة إلى الشهادتين على الإقرار ، بينما علق إجابة الدعوة إلى الصلاة على فعلها وإقامتها ، ومن المعلوم هنا أن هؤلاء لو أذعنوا وأقروا بالشهادتين وبالصلاة والزكاة ، لكنهم قالوا : لا نصلي لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم إسلامهم ، يفسره الحديث الآخر المتفق عليه(البخاري:1/14-25،مسلم1/52-36) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (الفتاوى:7/611) وذكر حديث معاذ رضي الله عنه وخلاف العلماء فيمن ترك شيئاً من أركان الإسلام الأربعة:" وهذه المسألة لها طرفان : أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر ، والثاني : في إثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني : فهو مبني على مسألة كـون الإيمـان قولاً وعملاً كما تقدم ، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته ، فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة ، لا مع إيمان صحيح ، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار". وسيأتي أيضاً قوله رحمه الله(الصارم المسلول:3/969) عمن يصدّق الرسول ظاهراً وباطناً ثم يمتنع عن الانقياد للأمر:"غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس". وقوله(الفتاوى:7/287) عــن قــوم يزعمــون الإيمــان بقلوبهــم مــن غــير شــك ، ويقــــرون بألسنتـهم بالشهادتين , إلا أنهم يقولون : لا نطيع في شيء من فعل الأوامر وترك النواهي قال:"كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم [ أي النبي صلى الله عليه وسلم ]: أنتم أكفر الناس بما جئت به , ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك".

(الفرع الثاني) :
في تكفير تارك الصلاة خاصة:
توسع ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم "الصلاة وحكم تاركها" بالاستدلال بالآيات والأحاديث الكثيرة على كفر تارك الصلاة بما لا يدع مجالاً للتردد في صحة هذا القول ، ولكني اكتفي هنا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأقوال بعض الأئمة :
* فقد جاءت أحاديث تزيــد على الثلاثين بألفاظ كثـيرة تنـص علـى كفـر تارك الصلاة ، أو شركه ، أو خروجه من الملة ، أو براءة الذمة منه ، أو عصمـة مـن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ، أو النص على جواز قتال الأئمة الذين يكفرون كفراً بواحاً وجعل علامة كفرهم البواح وشعاره ترك إقامة الصلاة ، أو النص على أنه لا يدعى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إلا المؤمنون ولا علامة يعرفون بها إلا بالوضوء ، أو النص على أنه لا يخرج من النار كل الموحدين ولا علامة يعرفون بها إلا سلامة مواضع السجود منهم ونحو ذلك.
ـ وأذكر من هذه الأحاديث ما رواه الإمام مسلم(1/88-134)من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ بين الرجــل وبــين الشــرك والكفــر تــــرك الصــــلاة" ، وفي روايــة للترمــــذي(5/13-2618):"بــــين الكفـــر والإيمـــان تــــرك الصـــلاة" ، وللنسائي(1/232):"ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" ، وكذلك ما رواه الترمذي(5/13-2621) ، والنسائي(1/231) ، وابن ماجه(1/564-1079)، وأحمد(5/346) وغيرهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر"، صححه جماعة منهم الترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان وغيرهم رحمهم الله. ولا شك أن الكفر المراد بهذا الكفر هو الكفر الأكبر ، كما سيأتي.
* المتعين في هذه المسألة :
إن المتعين أن لا يتوقف أحد في تكفير تـارك الصلاة بعد أن تبين الهدى ، وذلك لأمرين مهمين لا مهرب للمخالف منهما إضافة لما سبق :
(الأمر الأول) : أن كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر وإخراجه من الملة هو الذي فهمه الصحابة ، قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين في سياق المكفرين لتارك الصلاة(الشرح الممتع:2/28) : "أما أقوال الصحابة ، فإنها كثيرة ، رويت عـن ستة عشر صحابياً ، منهــم عمــر بن الخطاب). وسيأتي عن بعض الأئمة أنهم حملوا نصوص الصحابة على الكفر الأكبر المخرج عن الإسلام ، وأسوق إليك بعض النصوص :
1- أثر عمر رضي الله عنه رواه مالك(1/39-51) ، وعبد الرزاق(المصنف:1/150- 580،581) ، وابـن أبـي شيبـة(الإيمــان:34-103) ، والمــروزي(تعظيـــم قـــدر الصــلاة:2/892-923حتى929) ، قال:"لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" ، إسناده إلى عمر صحيح جاء عنه من طرق. وهذا ظاهره تكفير عمر رضي الله عنه لتارك الصلاة الكفر الأكبر ، كما سيأتي.
2- أثر حذيفة رضي الله عنه أخرجه البخاري(1/215-791) قال لمن رآه لا يتم ركوعه وسجوده :"ما صليت ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم". قال الآجري وذكر هذا الأثر وغيره(الشريعة:1/296):"يدل على أن الصلاة من الإيمان ، ومن لم يصل فلا إيمان له ولا إسلام". وذكر الحافظ ابن حجر(الفتح:2/321) "أنه دليل لمن كفّر تارك الصلاة لأن ظاهره نفي الإسلام عمن أخل ببعض أركانها ، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى"أ.هـ. بل قال الحافظ: "وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال : [ سنة محمد أو فطرته ] كان حديثاً مرفوعاً".
3- أثر جابر رضي الله عنه أخرجه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة:2/877-892) واللالكائي(شرح أصول اعتقاد أهل السنة:4/829-1537،1538) عـن مجاهـد سأل جابراً : ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : الصلاة". ومن طريق أبي الزبير سمع جابر بن عبد الله وسأله رجل : هل كنتم تعدون الذنب فيكم كفراً ؟ قال : لا ، وما بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة". سند الأول حسن لأجل محمد بن إسحاق وقد صرح بالسماع ، وسند الثاني صحيح ؛ فجابر رضي الله عنه يبين هنا أن الفاصل بين الكفر والإيمان عندهم في عهد النبي صلـى الله عليــه وسلــم هـي الصـلاة ، وأنهـم يعنــون الكـفــر الأكـبر ؛ أنه فرّق بين الكفر الذي هو ترك الصلاة وبين الذنب الذي لا يكفر صاحبه ، ولو لم تكن كفراً أكبر لم يكن للتفريق بينها وبين الذنب فائدة.
(الأمر الثاني) : أن تكفير تارك الصلاة ليس قول بعض الصحابة ، بل حكي إجماع منهم ، قال شيخنا محمد العثيمين (أسئلة عبر الهاتف من قبل إدارة الدعوة بقطر كما سيأتي) :"فقد جاء في الأدلة من القرآن والسنة ، والنظر الصحيح ، وإجماع الصحابة كما حكاه غير واحد ، على أن تارك الصلاة كافر مخلد في نار جهنم وليس داخلاً تحت المشيئة [ في المغفرة ] (1)". وأكتفي بذكر من نقل الإجماع :
1- إجماع الصحابة على قتال تارك الصلاة كما يقاتل المشركون ، لأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وقال لعمر رضي الله عنه فيما رواه الشيخان(البخاري:2/135-1399،مسلم1/51-32:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". قال الخطابي(كما في شرح النووي لمسلم:2/152) مشيراً إلى إلزام أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بقتال مانعي الزكاة بما تقرر عندهم من قتال تاركي الصلاة :"قايسه بالصلاة ، ورد الزكاة إليها ، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة". وبوب البخاري على الحديث فقال: "باب قتــل من أبــى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة".
2- قول عمر رضي الله عنه الآنف :"لا إسلام لمن ترك الصلاة" وفي لفظ "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" ، فعده ابن القيـم(الصـلاة وحكـم تاركـها:67) إجماعـاً مـن الصحــابة عـلى كفـر تــارك الصلاة حين قال عن عمر:"فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه ، وقد تقدم مثلُ ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة ، ولا يعلم عن صحابي خلافهم".
3- قول جابر رضي الله عنه الآنف أن مجاهد سأله رضي الله عنه : ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : "الصلاة". وهذا دليل على الإجماع ، بل أبلغ من ذلك أنه في حكم المرفوع كما هو مقرر في موضعه من "كتب المصطلح" لأنه نسبه لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- قال عبد الله بن شقيق التابعي الجليل الذي لقي كبار الصحابة :"كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"، خرجه الترمذي(5/14-2622) ، والمروزي(تعظيم قدر الصلاة:2/904-948)، وهو صحيح الإسناد ؛ صححه الحاكم والنووي والألباني رحمهم الله ، ولا يضره أن فيه سعيد بن إياس الجُرَيري الذي ذكروا أنه كان ممن اختلط ؛ لأن الراوي عنه بشر بن المُفضَّل روى عنه قبل الاختلاط ، وقد احتج الشيخان بروايته عن الجـريـري(انظــر الكواكــب النــيرات:189). قـــال الشــوكانـي(نيـل الأوطـار:1/372) :"الظـاهر مــن الصيغة : أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة ؛ لأن قوله : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم جمع مضاف ، وهو من المشعرات بذلك".
5- ونقل الإجماع الإمام إسحاق بن راهوية ؛ قال المروزي(تعظيم قدر الصلاة(2/929):"سمعت إسحاق يقول : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر ، وكــذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا : أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر".
6- وقال ابن نصر المروزي(تعظيم قدر الصلاة(2/925) :"ذكـرنـا الأخبـار المرويـة عـن النـبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها ، وإخراجه إياه من الملة ، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك ، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك".
7- قال ابن حزم(المحلى:2/242) راداً على من لم يأخذ بقول الصحابة في هذه المسألة:"ما نعلم لمن ذكرنا من الصحابــة رضــي الله عنهم مخالفــاً منهـــم ، وهم يشنعون بخلاف الصاحب إذا وافق أهواءهم ، وقد جاء عن عمر ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل(كذا) وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها ، فهو كافر مرتد".
8- قــال عبد الحق الأشبيــلي في كتابــه "الصلاة" (كما نقله ابـن القيم عنـه في كتـاب الصـلاة وحكـم تاركها:67):" ذهب جملةٌ من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمداً لتركها ، حتى يخرجَ جَميعُ وقتِها ، منهم : عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وجابر ، و أبو الدرداء ، وكـذلـك روي عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ، هؤلاء من الصحابة".
ولذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(شرح العمدة:2/81) كلاماً نفيساً بعد أن ساق الأحاديث وأقوال السلف فقال :"الكفر الوارد في الصلاة هو الكفر الأعظم لوجوه :
(أحدها) : إن الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه ، و إنما صُرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام ، و من تأمل سياق كل حديث وجده معه ، و ليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره ، بل هنا ما تقرره على الظاهر.
(الثاني) : إن ذلك الكفر منكرٌ مبهم (2) مثل قوله : "و قتالــه كفـــر" ، "هما بهم كفر" ، وقولــه "كفــر بــالله" ، و شبه ذلك ، وهنا عرف باللام بقوله :"ليـس بين العبـد و بـين الكفــر، أو قـال الشـرك" ، و الكفر المعروف ينصرف إلى الكفر المعروف ، وهو المخرج عن الملة.
(الثالث) : إن في بعض الأحاديث "فقد خرج عن الملة" ، و في بعضها "بينه و بين الإيمان" ، و في بعضها "بينه و بين الكفر" ، و هذا كله يقتضي أن الصلاة حدٌّ تدخله إلى الإيمان إن فعله و تخرجه عنه إن تركه.
(الرابع) : أن قوله "ليس بين العبد و بين الكفر إلا ترك الصلاة" ، وقـولـه "كـان أصحـاب محمـد صلى الله عليه و سلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة" ، لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم ؛ لأن بينه و بين غير ذلك مما يسمى كفراً أشياء كثيرة ، و لا يقال فقد يخرج عن الملة بأشياء غير الصلاة ، لأنا نقول هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة ، وعلى العموم يوجب تركه الكفر ، وما سوى ذلك من الاعتقادات فإنه ليس من الأعمال الظاهرة.
(الخامس) : أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة و بيـان مرتبتهــا علـى غيرهـا في الجملـة ، و لو كان ذلك الكفر فسقاً لشاركها في ذلك عامة الفرائض.
(السادس) : أنه بيَّن أنها آخر الدين ، فإذا ذهب آخره ذهب كله.
(السابع) : أنه بيَّن أن الصلاة هي العهد الذي بيننا و بين الكفار ، وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها ، و اقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد فقد كفر ، كما أن من أتى به فقد دخل في الدين ، ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج عن الملة.
(الثامن) : إن قول عمر "لا حظ في الإسلام لمن تــرك الصــلاة" أصــرح شــيء في خروجــه عــن الملـة ، وكذلك قول ابن مسعود و غيره ، مع أنه بيَّن أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفــر ، وإنمـا هو الترك بالكلية ، وهذا لا يكون إلا فيما يخرج عن الملة.
(التاسع) : ما تقدم من حديث معاذ "فإن فسطاطاً على غير عمود لا يقوم" ، كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة.
وفي هذه الوجوه يبطل قول من حملها على من تركها جاحداً ، وأيضاً قوله :"كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر" ، وقوله :"ليس بين العبد وبين الكفر" ، وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك ، وترك الجحود لا فرق فيه بين الصلاة وغيرها ، ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك ، حتى لو فعلها مع ذلك لم ينفعه ، فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر ؟ ولأن المــذكـــور هو الترك ، وهو عام في من تركها جحوداً أو تكاسلاً ، ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب فلا يلتفت إليه"أ.هـ.
* رد شبهة وجود الخلاف :
فإن قال قائلٌ : قدخالف بعض الأئمة في تكفير تارك الصلاة ، فنقول نعم ولا نقبل خلافهم بعد إجماع الصحابة ونعتذر لهم ، إذ العلماء يعتبرون وجود قولٍ لصحابي واحد مشتهر في مسألة ما حجة إذا لم يخالفه أحدٌ من الصحابة ، فكيف في مسألة ينسب أحدُ الصحابة القول فيها لجميع الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ثم ينقل أحد التابعين إجماعهم على ذلك ، ونجد أكثر من خمسة عشر صحابياً يقولون بذلك ولا يعلم فيهم مخالف ، وقد حكـى الإمـام أحمد الإجماع في مسألة كان العدد فيها دون ذلك ، حينما أفتى بالتكبير في عشر ذي الحجة من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق ، فسئل : إلى أي شيء تذهب ؟ قال(أصول مذهب الإمام أحمد:352-وعزاه للمسودة:315):"لإجماع عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس". بل جعل الإمام أحمد رحمه الله الخروج عن أقوالهم المختلفة من أقوال أهـل البدع حين سئل : هل لرجل أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا ؟ فقال(أصول مذهب الإمام أحمد:351-وعزاه للمسودة:315) : "أرأيت إن أجمعوا ؟ له أن يخرج من أقاويلهم !! هذا قول خبيث ، قول أهل البدع ، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا". فهل يقول عاقل بجواز الخروج عن قول نقل الإجماع فيه عن الصحابة أو ما يدل عليه ؟ إذا كان الخروج عن أقوالهم المختلفة من قول أهل البدع.
* وهنا ثلاثة تنبيهات مهمة :
(الأول) : الظاهر أن الأئمة المخالفين لم يبلغهم إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة أو لم يثبت عندهم ، لأنه لو بلغهم الإجماع لما وسعهم أن يخالفوه ، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله ، يقول(الرسالة:472):"ونعلم أن عامتهم [ يعني الصحابة رضي الله عنهم ]ـ لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا على خطأ إن شاء الله".
(الثاني) : أن الشافعي رحمه الله وإن لم يذهب لكفر تارك الصلاة لعدم ثبوت الإجماع عنده في المسألة ، فهو من كبار أئمة السنـة العارفين بمذاهب السلف ، ولـذا عصمـه الله من مخالفتهم في كفر تارك العمل ، حيث قال رحمه الله[ كما في شرح أصول الاعتقاد للالكائي:5/886): "وكـان الإجمـاع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر". ولما ذكر ابن رجب أن الإيمان :قـول وعمـل ونيـة قـال(جامـع العلــوم والحكـم:1/58):" وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم". وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/39) "قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً : أن الإيمان قول وعمل". وأنصح في هذه المسألة بالرجوع لكتابين أولهما : كتاب ابن القيم رحمه الله "الصلاة وحكم تاركها" ، والآخر كتاب "الخلاف في حكم تارك الصلاة" للدكتور الشيخ عبد الله بن إبراهيم الزاحم ، فهما كتابان نافعان يكمل كل منهما الآخر.
(الثالث) : وهو ينبني على الأمر السابق أن من ذهب من العلماء لعدم تكفير تارك الصلاة لم يذهب لهذا القول بحجة أنه لا يكفر تارك العمل ، بل الذين لا يقولون بكفر تارك الصلاة هم على طريقة الجماعة بتكفير تارك عمل الجوارح مطلقاً كما مر من قول الشافعي رحمه الله ، وسيأتي في فتاوي سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله لما سئل عمن لم يكفر تارك الصلاة من السلف ، أيكون العمل عنده شرط كمال ؟ أنه قال(جريدة الرياض - عدد 12506) : "لا ، بل العمل عند الجميع شرط صحة ، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه ؛ فقالت جماعة : إنه الصـلاة ، وعليـه إجماع الصحابـة رضـي الله عنهم ، كما حكاه عبـد الله بـن شقيـق. وقـال آخـرون بغـيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عنـدهم قـول وعمـل واعتقـاد ، لا يصح إلا بها مجتمعة)أ.هـ. ويأتي أيضاً أن سماحة الشيخ رحمه الله أقر ما قاله صاحب كتاب ’’التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد, حين قال في(المقدمة:19):"هاهنا مسألة مهمة ، وهي أن أصحاب الحديث الذين لم يكفروا تارك الصّلاة ، لا يعنون أنّ الصلاة عملٌ ، والعمل لا يكفّر تاركه أو فاعله بغير اعتقـاد أو استحـلال أو تكـذيـب ، فهــذه لَوثــةٌ إرجائيــة حاشاهــم منهــا ... ولم يُنقل عن أحد منهم أنّ الصّلاة عمل وليست اعتقاداً ولا يكفُر تارك العمل! كما أنّهم لم يعدّوا من يكفّر تاركها بمثابة الخوارج الذين يكفرون بالذّنوب ، وهذا إقرارٌ منهم أنّ تارك العمل قد يخرج من الملة ، لكن لم يترجّح عندهم ذلك في شأْن تارك الصّلاة".





(آثار سلفية)

في هذا الفصل أنقل أقوالاً لأئمة السلف من أهل السنة في بيان ما تقوله المرجئة في حكم ترك العمل الظاهر الواجب مخالفة أهل السنة في حكمهم ، وذلك توضيحاً وترسيخاً لكل ما سبق عن مذهب أهل السنة في ترك العمل الظاهر الواجب :

1)ـ قول الإمام سفيان بن عيينة بن أبي عمران أبي محمد الهلالي-رحمه الله-(ت 198هـ):
قال عبد الله بن أحمد في ((السنة)) [1/347-348] حدثنا سويد بن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان بن عيينـة عن الإرجاء، فقال : يقولون الإيمان قول، ونحن نقول الإيمان قول وعمل. والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض وسمّوا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليس بسواء لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر)) أهـ.
ج) ثبـوتــه :
قد يتكلم بعضهم فيه بسبب حال سويد فأجمل الجواب بمايلي:
1. وثقه أحمد والعجلي والخليلي والدارقطني، وقال أبو حاتم: ((صدوق)) ، وقال مسلمة بن القاسم: ثقة ثقة، وقال أبو القاسم البغوي: من الحفاظ . واحتج به مسلم كما في (الميزان)، وذكره الذهبي في ((معرفة الرواة المتكلم فيهم بـما لا يوجب الرد)).فانظر ترجمـة سويد في (( تهذيب الكمال)) بتحقيق الدكتور بشار عواد .
2. عماه وتلقينه: في رواية الخزاز عن ابن معين، قال: ((ما حدّثك فاكتب عنه وما حدّث به تلقيناً فلا)). وقال البخـاري في ((التاريخ الصغير)) [2/343] : ((فيه نظر كان عمي فلقن ما ليس من حديثه)). قال الحافظ ابن حجر في ((طبقات المدلسين)): ((وقد تغير في آخر عمره بسبب العمى فضعّف بسبب ذلك، وكان سماع مسلم منه قبل ذلك في صحيحه)) وكذا قال في ((التلخيص الحبـير)) عند حديث ماء زمزم، ونحوه قال السخاوي في ((فتح المغيث)) في ((من تقبـل روايته)).
3. تدليسـه: قال الإسماعيلي: ((في القلب شيء من جهة التدليس)) وقبله قال ذلك أبو حاتم.
4. روايته المناكير: الذي يظهر أن ذلك من شيخه سويد بن عبد العزيز فالكلام فيه أشد وبسبب تدليس سويد نفسه ، وفي ترجمة عبدالله بن صالح كاتب الليث من ((الميزان)) قال الذهبي: ((وفي الجملة ما هو دون نعيم بن حماد ولا إسماعيل بن أبي أويس ولا سويد بن سعيد وحديثهم في الصحيحين ولكل منهم مناكير تغتفر في كثرة ماروى)).أهـ
5. قول ابن الجوزي: قال أحمد : متروك، كما في (( الميزان ))، ردّه الذهبي نفسه في (( السير)) [11/416] قال: (( لم يقـله أحمد)).وقول أحمد هذا إنما هو في سويد بن عبدالعزيز شيخ سويد بن سعيد .
والظاهر أن الذهبي ذكره في (الديوان) و (المغني) لقول أحمد : ((متروك)) .
6. وهنا يروي عن شيخه ابن عيينة ، وقد أخرج لـه مسلم عنه وكما سبق ((روى مسلم عن سويد قبل عماه )) .
7. ويروي عن سويد ، عبدالله بن أحمد ، ومعلوم أن عبدالله يروي عَمْنْ يأذن لـه أبوه بالكتابة والرواية عنه .
8. ثم ما نقـله سويد هنا عن شيخه ابن عيينة هـو قول ومعتقد لشيخه وليس حديثاً نبويّاً، ثم منتفٍ فيه التلقين فهو يسأل وشيخه يجيب فيكون الأمر كما قال ابن معين. وكذا انتفى التدليس بتصريحه بسؤال شيخه؛ لهذا جزم الحافظ ابن عبد البر بهذه الحكاية في ((التمهيـد)) [9/254]، وكذا الحافظ ابن رجب الحنبلي في ((فتح الباري)) [1/23] وفي ((جامع العلوم والحكم)) [ص43]. وقال محقق ((السنة)) الدكتور القحطاني: ((إسناد حسن)) بخلاف روايات أخرى فضعّفها بسويد.
9. وما رواه سويد عن شيخه نقل غيره ما يلتقي مع ما رواه وذلك رواية قـول سفيان بن عيينة ((الإيمان يزيد وينقص حتى لا يبقى منه شيء)). كما في ((الشريعة)) للآجري [ص 103و117] و((الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية)) لابن بطة [2/855] . وغيرهما، وكذا قوله ((الإيمان قول وعمل أخذناه ممن قبلنا وأنه لا يكون قول إلا بعمل)) كما في ((السنة)) لعبد الله بن أحمد [1/346] و ((الإبانة)) [2/855] لابن بطة وغيرهما.
فقوله : (( أخذناه ممن قبلنا ))هو معنى ((ونحن نقول)).
قولـه: ((ينقص حتى لا يبقى منه شيء)) وقوله (( لا يكون قول إلا بعمل))، هما بمعنى قوله ((مصراً بقلبه على ترك الفرائض … وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر)).
د) فقه قول الإمام سفيان بن عيينة:
1. قول الإمام هو في بيان الفرق بين أهل السنة والمرجئة في معتقدهم في عمل الجوارح وترك الفرائض منه تعمداً وإصراراً فكلامه لا يتعلق بترك الصلاة بل هو بيان اعتقاد أهل السنة والفرق بينه وبين اعتقاد المرجئة.
2. المرجئة أوجبوا الجنة لمن نطق بالشهادتين وهو يترك الفرائض مصراً بقلبه متعمداً أيْ غير جاحد ولا مستحل.
3. المرجئة لم يفرقوا بين ترك الفرائض وفعل المحارم، فكله ذنب عندهم مادام بدون جحد ولا استحلال.
4. قولـه: ((ونحن نقول)) أيْ أهل السنة؛ فيكون معتقد أهل السنة نقيض ما سبق من معتقـد المرجئة فهو:
5. أهل السنة لا يوجبون الجنة لمن نطق بالشهادتين وهو يترك الفرائض مصراً أيْ غير جاحد ولا مستحل، ومتعمداً أي من غير جهل ولا عذر.
6. لأن تعمد ترك الفرائض من غير جهل ولا عذر ، يكون عن إصرار القلب على ترك فعل الفرائض، وبهذا الإصرار يكون انتفى عمل القلب، وبانتفاء عمل القلب ينتـفي الإيمان منه، وتوضيح هـذا:
7. وهذا مبني على أصل وهو: ((هل يقوم بالقلب تصديق وتكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟)) .
قال الإمام ابن تيمية في ((الفتاوى)) [14/120]: ((الذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح)). أهـ. وعلى هذا الأصل أقوال الأئمة التالية :
( أ ) قال الإمام محمد بن نصر المروزي في((تعـظيم قدر الصلاة))[2/695]: ((فأصل الإيمان هو التصديق بالله وما جاء من عنده، وعنه يكون الخضوع لله، لأنه إذا صدق بالله خضع له وإذا خضع أطاع)) .
وقال في[2/715-716]: (( لأن أصل الإيمان هو التصديق، وعنه يكون الخضوع، فلا يكون مصدقاً إلا خاضعاً،ولا خاضعاً إلاّ مصدقاً وعنهما تكون الأعمال.))أهـ.
(ب) قال الإمام الآجري في ((الشريعة)) [ص120/ الفقي] : (( فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه هذا، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً ولم تنفعه المعرفة والقول وكان تركه العمل بما ذكرنا تكذيباً منه لإيمانه وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه)) أهـ.
(ج) قال الإمام أبو عبد الله عبيدالله بن بطة العُكبري في((الإبانة))[2/795]: ((فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذباً وخارجاً من الإيمـان.)). أهـ.
(د) قال الإمام الخطابي في ((معالم السنن)) [7/49]: (( المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، وقد لايكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال لأن أصل الإسلام الاستسلام والانقياد، وأصل الإيمان التصديق،وقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر فإن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ))أهـ . ونقله عنه الإمام البغوي في ((شرح السنة))[1/11] كما هنا.وجـاء في ((شرح صحيح مسلم))[1/145] بلفظ مغاير وهو : ((وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر))أهـ.وهذا خطأ من الناسخ أو الطابع.
(هـ) قال ابن أبي العز الحنفي في ((شرح العقيدة الطحاوية)) [ص 341 تخريج الألباني]: ((ولاشك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً بخلاف العكس)) أهـ.
(و) وأئمة وعلماء أهل السنة في عصرنا هم على ما عليه سلفنا الصالح في هذا الأصل قال الإمام الألباني في ( وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة ) (ص25-26) : (( الوجه الحادي عشر :أن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية وإيجاب الأخذ بحديث الآحاد في هذه دون تلك ، إنما بني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل ، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة ، وكلا الأمرين باطل !)) اهـ .
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين في ((الشرح الممتع على زاد المستقنع ))[2/ 28-29] : (( 00فكيف يشهد أن لا إله إلاّ الله ، ويحافظ على ترك الصلاة إن شهادة كهذه تستلزم أن يعبده في أعظم العبادات فلا بد من تصديق القول بالفعل فلا يمكن للإنسان أن يدعي شيئاً وهو لا يفعله ، بل هو كاذب عندنا )) . أهـ .
(ز) وأكثر من أوضح هذا الأصل وبيّنه على مذهب السلف هو الإمام ابن تيمية، فقد قال في ((الفتـاوى)) [7/218]: ((فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئاً مما أُمِرَ به من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير الكعبة ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن بل لا يفعل ذلك إلاّ لعدم الإيمان الذي في قلبه)) أهـ.
وقال أيضاً في [7/611] من ((الفتاوى)): ((ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته فهذا ممتنع ولا يصدر إلاّ مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح..)) أهـ.
وقال أيضاً في [7/621] منها: ((وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظـاهراً ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً ولا غير ذلك من الواجبات…)) أهـ. وانظر ((الفتاوى))[7/644] و [10/446] .
8. وملخص هذا الأصل الذي بيّنه أئمتنا فيما سبق نقله عنهم هو:
الإيمان قول وعمل، القـول : قول القلب واللسان، والعمـل : عمل القلب والجوارح:
أ - قـول القلب: معرفته وعلمه بالله وبما جاء عنه، إذا ارتبط قلبه وجزم بما عرفه وعلمه يكون تصديقاً، وقول القلب يرادف قولنا: توحيد الربوبية أو التوحيد العلمي الخبري أو توحيد المعرفة والإثبات.انظر((مدارج السالكين))[1/48، 3/417، تحقيق البغدادي] .
ب – وتحقق تصديق القلب الجازم ينتج عنه إذعانه وانقياده محبة وتعظيماً وخوفاً لمن عرفه وعَلِمه وهـو الله ، وهذا هو عمل القلب وذلك أن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه، ومعرفة المُعَّظم تقتضي تعظيمه، ومعرفة المخوف تقتضي خوفه، فمحبة الله ورسوله وتعظيم الله ورسوله والخوف من الله وخشيته مقتضى معرفته  ومعرفة رسوله ، وعمل القلب يرادف قولنا: توحيد الألوهية، توحيد العبادة ، توحيد الطلب والقصد، التوحيد الإرادي الطلبي.انظر((الفتاوى))[7/525و528-529و534و672]و[10/54و271]و((مدارج السالكين))[3/418].
ج _ وتحقق عمل القلب من الانقياد والإذعان يستلزم الإرادة الجازمة في طاعة مَنْ تعلق به وكراهية معصيته أو مخالفته. انظر ((الفتاوى))[7/186-188و645]و[10/63-64و192-193 و486-487 و752-753] .
د ـ وإرادة القلب الجازمة مع القدرة مع عدم المانع تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه فعلاً أو تركـاً، وذلك لأن الحـب والإرادة أصل كل فعل ومبـدؤه، والبغـض والـكراهية أصل كل ترك ومبدؤه .
انظــر ((الفتاوى)) [7/646] و[10/272و722و731-754] و[14/113-115] و((الجواب الكافي)) لابن القيم [ص278] و((جامع العلوم والحكـم)) لابن رجب [ص73-75] .
هـ ـ فتخلّف العمل جملة بدون مانع ومن غير عجز يستلزم زوال الإرادة الجازمة ، وزوال الإرادة الجازمة يستلزم زوال انقياد القلب وإذعانه، وبزوال الانقياد والإذعان يكون زال عمل القلب، وبزوال عمل القلب يزول التصديق الجازم أو الإذعاني. وبزوال التصديق الإذعاني يكون في القلب معرفة فقط، ومعرفة القلب فقط لا تـنجي صاحبها من الخلود في النار. انظر((الصارم المسلول))لابن تيمية [ص518-521و524] و((الفتاوى الكبرى)) لــه [5/568-569]و((كتاب الصلاة))لابن القيم [ص54] .
9. لهذا غلّط الإمام ابنُ عيينة المرجئة فقال: ((سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليس سواء)) أهـ.
أ ) لا يستوي ترك الفرائض وفعل المحارم عند أهل السنة وذلك:
ب ) أن فعل المحارم يستلزم تخلّف الإرادة الجازمة على الترك التي يستحيل معها وقوع الفعل، لهذا تخلّف الإرادة الجازمة على الترك يقابلها إرادة جازمة على الفعل ووجود الإرادة الجازمة على الفعل يستلزم ارتفاع عمل القلب ؛ فيكون كالظلة حال الفعل فقط كما قال : ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظلة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان)) عند أبي داود[4690] وهو في ((الصحيحة)) برقم (509)، وانظر(( فتح الباري)) لابن حجر [12/59 و61]. قال الإمام ابن تيميـة في ((الفتاوى)) [7/673-674] : ((لأن قوله ( خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة) دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية، فان الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط)) أهـ. لكن وجود قول القلب عنده وهو اعتقاده حرمة ما يفعله منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافاً للخوارج.انظر ((الفتاوى))[7/306و478و676و679] و [10/741-743].
ج ) وكذا ترك الواجبات التي هي دون الأركان الأربعة العملية عند أهل السنة كفعل المحرم المجرد مادام وجود قول القلب وهو اعتقاد وجوب ما تركه فوجوده يمنع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافاً للخوارج.انظر ((الفتـاوى)) [20/90-93] و((الصارم المسلول))[ص521].
د) أما الأركان الأربعة العملية أو الفرائض فتشترك مع ما دونها من الواجبات في اعتقاد وجوبها وفرضيتها أو تحقق قول القلب، وتتميز عنها بوجوب التزام فعلها والعزم على ذلك، وبزوال هذا الالتزام والعزم على فعلها يكون زال عمل القلب الركن الذي عنه ينشأ العمل الظاهر، وضعف العزم وانخرام الالتزام لا يزول به عمل القلب كلية ولكن يخشى من ذلك الوقوع في الكفر. انظر ((تعظيم قدر الصلاة)) [1/393]و((الفتاوى)) [7/218و267و611] و[20/97-99و102-103] و[22/16-17و47-49] ،وفقه الحديث رقم [94] من ((السلسلة الضعيفة)) للألباني.
وبهذا التفصيل يظهر مساواة المرجئة بين ترك الفرائض وفعل المحرم ولا يكون ذلك كفراً إلا بالاستحلال والجحد.
ويظهر أيضاً تفريق أهل السنة بين ترك الفرائض وفعل المحرم بدون جحد واستحلال. لذلك:
10 . قال الإمام ابن عيينة: ((لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر)).
11 . وقول الإمام ابن عيينة: ((مصراً بقلبه)) و ((ترك الفرائض متعمداً)) هما بمعني واحد أيْ : من غير جحد ولا استحلال ومن غير جهل ولا عذر وإصرار القلب به يزول الالتزام والعزم على الفعل، وبزوال الالتزام والعزم يزول عمل القلب الركن، لهذا قال: ((هو كفر)).
ولهذا قال الإمام ابن تيمية في ((الفتاوى)) [7/613-614] : (( وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها ؛ فليست لهم حجة إلاّ وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك ، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك ؛مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم )). أهـ. أي : أن النصوص لم تفرق فالتارك للظاهر تارك للباطن . فتارك الفرائض متعمداً لإصرار قلبه على ترك فعلها لذلك علقت النصوص الكفر بالتولي لا بالجحد . انظر المصر على ترك الصلاة فقط ((الفتاوى)) [22/49] والسطر الأخير من [ص47] في ((حكم تارك الصلاة)) للألباني .

2)ـ قول الإمام أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي (رحمه لله)(ت 219هـ):
‌أ) قـولــه:
قال أبوبكر الخلال في ((السنة)) [ص586-587] : أخبرني عبيدالله بن حنبل قال: حدثني أبي حنبل ابن إسحاق بن حنبل قال: قال الحميدي: أُخبرت أن قوما يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت أو يصلي مسند ظهره مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر بالفروض واستقبال القبلة؛ فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله  وفعل المسلمين)) أهـ.
ج) ثبـوتـــه :
1- حنبل بن إسحاق بن حنبل أبو علي الشيباني ابن عم الإمام أحمد.
( أ ) في ترجمة عبد الله بن الإمام أحمد من ((تهذيب التهذيب)): ((قال الدارقطني: عبد الله بن أحمد بن حنبل وحنبل بن إسحاق ثقتان نبيلان)) أهـ. وفي ((تاريخ بغداد)) [8/281]: ((قال الدارقطني: حنبل بن إسحاق بن حنبل كان صدوقا)) أهـ. وقال الخطيب في ((تاريخ بغداد)) [8/281]: ((كان ثقة ثبتاً)). قال ابن عبد الهادي في ((طبقات علماء الحديث)) [2/300] : ((الحافظ الثقة)) أهـ.
(ب) في ذكر مفاريد حرف الحاء من ((طبقات الحنابلة)) قال ابن أبي يعلى : ((وذكره أبوبكر الخلال فقال: قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية، وأغرب بشيء يسير)) أهـ. قـال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) [13/52]: ((له مسائل كثيرة عن أحمد وينفرد ويغرب)) أهـ. قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) [11/55-56]: ((أحد الرواة المشهورين عنه (أي : أحمد) على أنه قد اتهم في بعض ما يرويه ويحكيه)) أهـ.
من هذه النقولات ومثيلاتها تبين أن حنبلاً ثقة ثبتاً إلاّ في بعض مسائل رواها عن الإمام أحمد انفرد بها وأغرب، فبقية رواياته عن الإمام أحمد وغيره تبقى على أصل كونه ثقة، وهنا يروي عن الحميدي وسماعه من الحميدي معلوم؟ قال العلامة المعلمي في((التنكيل))[1/254] : ((والمقرر عند أهل العلم جميعاً أن الثقة الثبت قد يخطئ، فإن ثبت خطؤه في شيء فإنما يترك ذاك الشيء، فأما بقية روايته فهي على الصواب، ومن ادعى الخطأ في شيء فعليه البيان)) أهـ.
2- عبيد الله بن حنبل، في ترجمة أبيه حنبل من ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى و ((شذرات الذهب)) لابن العماد ((عبيدالله وقال قوم: عبـدالله)) أهـ. وترجم له الخطيب في ((تاريخ بغداد)) بـاسم عبدالله في [9/456] وباسم عبيدالله في [10/345]، وفي الموضعين ذكر أن أبا بكر أحمد بن هارون الخلال روى عنه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
3- ولكن تابعه على هذا عن أبيه حنبل أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السَّمَّاك عند ((اللالكائي)) في ((شرح أصول الاعتقاد)) [5/887] فقال اللالكائي: أخبرنا محمد بن أحمد البصير قال أنا عثمان بن أحمد، قال أنا حنبل بن إسحاق قال أنا الحميدي، به . وعثمان له ترجمة جيدة في ((تاريخ بغداد)) [11/300-302] وقال فيه الخطيب: ((وكان ثقة ثبتاً)) أهـ. وقال السمعاني في ((الأنساب)) في ((السَّمَّاك)) : ((… وأبو عمرو عثمان بن أحمد… كان ثقة صدوقاً مكثراً من الحديث)) أهـ. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) [15/444]: ((الشيخ الإمام المحدث المكثر الصادق مسند العراق)). وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية))[11/243/ في وفيات سنة 344]: ((.. وكان ثقة ثبتاً)) .أهـ. ولا يؤثر فيه ذكر الذهبي له في ((ميزان الاعتدال)) فقد بدأ ترجمته بقوله: ((صدوق في نفسه، لكن روايته لتلك البلايا عن الطيور كوصية أبي هريرة فالآفة من فوق)) وفي نسخة ((من بعده))، أما هو فوثّقه الدارقطني)) إلا أنه عاد، وقال في آخر الترجمة: ((وينبغي أن يغمز ابن السَّمَّاك لروايته هذه الفضائح)) أهـ. فتعقبه الحافظ ابن حجر في ((لسان الميزان)) فقال: ((ولو فتح المؤلف على نفسه ذكر من روى خبراً كذباً آفته من غيره ما سلم معه سوى القليل من المتقدمين فضلاً عن المتأخرين، وإني لكثير التألم من ذكره هذا الرجل الثقة في هذا الكتاب بغير مستند ولاسلف)) أهـ.
4- وشيخ اللالكائي الظاهر هو محمد بن أحمد أبو الحسن البزاز المعروف بابن رِزْقَويه فهو ممن حدث عن أبي عمرو عثمان بن أحمد بن السَّمَّاك كما في ترجمة ابن السَّمَّاك من ((سير أعلام النبلاء)) [15/445]، ووصفه اللالكائي بالإكثار من الحديث كما في ترجمته من ((تاريخ بغداد)) [1/369]، وقال الخطيب عنه: ((وكان ثقة صدوقاً كثير السماع والكتابة وقال: سمعت: أبا بكر البَرقاني يُسأل عنه فقال: ((ثـقة)).
5- وبهذا يثبت ما نقله حنبل عن الحميدي، ولذلك جزم الإمام ابن تيمية في ((الفتاوى)) [7/209] فقال: ((وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت …)) وفيه: ((وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين)) بدل ((وفعل المسلمين)).
وجزْم ابن تيميه بهذا النقل إلى الحميدي إما لاطلاعه على نقل حنبل عن الحميدي مباشرة وإما للمتابعة الصحيحة لابن حنبل بن إسحاق.
د) فقه قول الإمام الحميدي:
1) قول الإمام يلتـقي مع قول شيخه الإمام سفيان بن عيينة كيف لا والحميدي جالس سفيان بن عيينة تسع عشرة سنة أو نحوها، لذلك هو أثبت الناس في ابن عيينة ورئيس أصحاب ابن عيينة كما في ((الجــرح والتعديـل)) [5/57] لابن أبي حاتم وتأمل قول سفيان : ((نحن نقول )) وقول الحميدي : ((وعلماء المسلمين)) .
2) فقولـه: ((أخبرت أن قوماً يقولون)) هم الذين صرح بذكرهم شيخه ابن عيينة بقوله: ((المرجئة…)) .
3) وقولـه: (( يقولون إن من أقر بالصلاة و… ولم يفعل من ذلك شيئاً)) هو في قول شيخه: ((أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض )) أيْ غير جاحد بقلبه كما وضح ذلك الحميدي بقوله عنهم ((…مؤمن ما لم يكن جاحداً..)) وتوضيح الحميدي يؤكد ما قلناه سابقاً في قول ابن عيينة ((مصراً بقلبه)) أي بدون جحد .
4) وقولـه : (( هذا الكفر بالله الصراح )) هو عين قول شيخه ابن عيينة : (( وترك الفرائض متعمداً من غير جـهل ولا عذر هو كفر)) .
5) وقولـه: ((ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت)) هو بمعنى قول شيخه ((ترك الفرائض)) وليس بمعنى الذي لم . يفعـل آحاد الأركان الأربعة العملية وذلك:
أ – لأن بعض علماء أهل السنة لا يكفرون بترك آحاد الأركان الأربعة العملية.
ب- والحميدي نفسه في رسالته الوجيزة في أصـول السنة المطبوعة تلو مسنده قال [2/547-548] : ((.. وأما الزكاة فمتى ما أداها أجزأت عنه، وكان آثماً في الحبس، وأما الحج فمن وجب عليه ووجد السبيل إليه وجب عليه، ولا يجب عليه في عامه ذلك حتى لا يكون له منه بدٌّ… وإن مات وهو واجد مستطيع ولم يحج سأل الرجعة إلى الدنيا أن يحج ويجب لأهله أن يحجوا عنه ونرجو أن يكون ذلك مؤدياً عنه كما لو كان عليه دين فقضى عنه بعد موته.)) أهـ.
فلو كان مراد الإمام الحميدي: ((لم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت)) أي : آحاد الأركان الأربعة العملية، لدخل الحميدي نفسه في القوم الذين ينكر عليهم باعتباره لايكفر من مات ولم يحج وهو مستطيع ولأهله أن يحجوا عنه.
وبهـذا يظهر أن قول الحميدي إنما هو في ترك الفرائض، لا في ترك آحادها .

(3) قول الإمام إسحاق بن إبراهيم بن رَاهَوْيه أبي يعقوب الحنظلي ((رحمه الله)) ( ت 238هـ)
قال الحافظ ابن رجب في ((فتح الباري)) [1/23]: (نقل حرب الكرماني عن إسحاق قال: ((غَلَت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوماً يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها، لا نكفّره يرجى أمره إلـى الله بعــدُ إذ هو مقـرٌّ، فهؤلاء الذين لاشك فيهم يعني في أنهم مرجئة)) أهـ.
ج) ثبـوتــه:
حرب الكرماني هو الإمام العلامة الفقيه أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني تلميذ أحمد ورفيق أبي حاتم الرازي ، أخذ عن أبي الوليد الطيالسي والحميدي وأبي عبيد وسعيد بن منصور وأحمد وإسحاق بن رَاهَوْيه، له مسائل قال عنها الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء))[13/245]: ((مسائل حرب من أنفس كتب الحنابلة وهو كبير في مجلدين)) أهـ. وقال عنه ابن عبد الهادي في ((طبقات علماء الحديث)) : ((الفقيه الحافظ صاحب الإمام أحمد)) أهـ. وفي ترجمته من ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى : ((ذكره أبـو بكر الخلال فقال: ((رجل جليل القدر… وقال لي: هذه المسائل حفظتها قبل أن أقدم إلى أبي عبدالله وقبل أن أقدم إلى إسحاق بن راهويه، وقال لي: هي أربعة آلاف عن أبي عبدالله وإسحاق بن راهويه ولم أعدها)) أهـ.
د) فقه قول الإمام إسحاق:
1- قول الإمام هو في بيان معتقد وقول المرجئة، وإن كان الإمام إسحاق يكفّر بترك الصلاة إلاّ أن قوله هنا لا علاقة له بترك الصلاة، وإنما هو في ترك المباني الأربعة وسائر الفرائض وهو لا يخرج عن قول الإمامين ابن عيينة والحميدي، وإذا كان الحميدي تتلمذ على ابن عييـنة فإن إسحاق يعتـبر الحميدي من الأئمة كما في ((سير أعلام النبلاء)) [10/619] وهو لم يلق الحميدي ، فهذا يدل على أخذ هذا الاعتقاد طبقة عن طبقة.
2- أن المرجئة غلت قي قولها: ((إن ترك الأركان الأربعة وعامة الفرائض من غير جحود أمرٌ يُرْجى إلى الله للإقرار بها.)).
3- أن المرجئة غلت في قولها: ((إن ترك الأركان الأربعة وعامة الفرائض من غير جحود لا يعتبر كفراً.)).
4- ما الفرق بين قول المرجئة الذي غلت فيه كما وصفه الإمام إسحاق وبين قول القائل: ترك الفرائض والواجبات الظاهرة مع الإقرار بها أيْ : من غير جحود أمرٌ تحت مشيئة الله ؟
5- وبهذا يظهر الخلاف الحقيقي في مسألة ترك عمل الجوارح بين المرجئة وأهل السنة وهو في حكم ترك الفرائض وسائر الواجبات من غير جحود عند المرجئة ليس كفراً أيْ : يرجى الأمر إلى الله ، وعند أهل السنة: كفر مخرج من الملة وليس يرجى الأمر إلى الله أو ليس ناقص الإيمان لأن ناقص الإيمان يرجى أمره إلى الله أو هو تحت مشيئة المغفرة.
6- منه يظهر في أي نوع من نوعي الترك يقول أهل السنة كفر وهو ترك الأركان الأربعة وعامة الفرائض من غير جحود، ولا يقولون في هذا النوع من الترك ((نقصٌ في الإيمان)) وذلك:
7- أن نقص الإيمان بفعل الذنب، والذنب المتفق عليه عند أهل السنة هنا ليس كل ذنب وإنما هو فعل المعصية وليس ترك آحاد المباني الأربعة العملية فضلاً عن ترك المباني الأربعة العملية وسائر الواجبات، لذلك يقولون: ((هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته)) ولا يطلقون على تارك عمل الجوارح جملة ناقص الإيمـان. انظر ((الفتاوى))[7/302].
8- لذلك نتأمل جيداً هل إذا قلنا: إن الأعمال من الإيمان ويدخلها الزيادة والنقص وكذا الاستـثـناء نكون خالفنا المرجئة حقيقـة ؟ قـال ابن تيميـة في ((الفتاوى)) [13/38-39] : ((وحدثت المرجئة وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبد الله من المرجئة ولا إبراهيم النخعي وأمثاله فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب، فكان في الأعمال هي من الإيمان وفي الاستثـناء ونحو ذلك عامته نزاع لفظي)) أهـ.
9) أما ما جاء عن الإمامين ابن عيينة وإسحاق وكذا غيرهما من أن ترك الفرائض والواجبات الظاهرة جملة كفر مخرج من الملة فهو الخلاف الحقيقي اسماً وحكماً مع المرجئة خاصة بعد أن تغلظ أمرهم كما حكاه عنهم الإمامان، قال ابن تيمية في((الفتاوى))[3/357]: ((وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة وما كانوا يعدون إلاّ من أهل السنة؛ حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة)) أهـ.
10) لهذا علينا الانتباه جيداً لِمَ المرجئة وخاصة الفقهاء منهم قالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة والناس؟.
قالوا هذا كـله لأنهم اعتقدوا : لو أن الواجبات العملية الظاهرة دخلت في الإيمان لخرج منه من ترك بعضها كما قـالت الخوارج، قال ابن تيميـة في ((الفتاوى))[12/471]: ((ونكتة هؤلاء جميعاً توهمهم أن من ترك بعض الإيمان فقد تركه كله)) أهـ.
11) ومع الانتباه لما سبق من الفرق بين أهل السنة والخوارج وهو أن الخوارج شذت فكفّرت بالواجبات التي دون الأركان الأربعة العملية ،يظهر بجلاء أن توهُّم المرجئة غير صحيح ويظهر بجلاء أكثر أن القول: إن ترك الأعمال الواجبة الظاهرة جملة كفر مخرج من الملة لا يلتقي مع ما شذ به الخوارج ومخالف لقول المرجئة اسماً وحكماً.
12) وتوضيحاً للفرق بين ترك العمل جملة ونقصه أنقل قول الإمام ابن القيم في ((الفوائد)) [ص283/تحقيق علي الحلبي]: ((الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعُصم المال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلّف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل فساد الباطن وخُلُوّه من الإيمان، ونقصُه دليل نقصه، وقوته دليل قوته)) أهـ. وانظر نحو هذا القول من شيخه في ((الفتاوى)) [7/198و644] عن عدم العمل ونقصه وضعفه .
فصريح كلام الإمام كله يلتـقي مع كل ما سبق من أقوال الأئمـة:
أ) قَسَم الإيمان إلى قسمين باعتبار الظاهر وباعتبار الباطن، فالأول الإيمان الظاهر، والثاني الإيمان الباطن.
ب) قسم الإيمان الظاهر إلى قسمين: الأول: قول اللسان، والثاني: عمل الجوارح.
ج) قسم الإيمان الباطن إلى قسمين: الأول: تصديق القلب وهو ما يطلق عليه ((قول القلب))،والثاني: انقياد القلب ومحبته وهو ما يطلق عليه ((عمل القلب)).
د) الإيمان الظاهر بقسميه ((قول اللسان وعمل الجوارح)) بدون الإيمان الباطن ((قول القلب وعمله)) ينتفع به في الدنيا فيحقن به الدماء ويعصم المال والذرية، ولكن في الآخرة لا ينفعه من الخلود في النار.
هـ) والإيمان الباطن لا يغني ولا يكفي ولا يصح إذا لم يكن معه الإيمان الظاهر بقسميه ((قول اللسان وعمل الجوارح)) إلاّ إذا تعذر من إظهار الإيمان الظاهر بعجـز أو إكراه وخوف هلاك فينفعه إيمانه الباطن . وهذا من قوله ((لا يجزىء)).
و ) ثم تكلم على القسم الثاني من قسمي الإيمان الظاهر وهو عمل الجوارح فقال: ((فتخلّف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان)) أهـ.
فتخلّف العمل ظاهراً أيْ :ترك عمل الجوارح وذلك لـتقسيمه السابق الإيمان الظاهر إلى قول اللسان وعمـل الجوارح، وهنا ذكر العمل الظاهر فيكون ترك عمل الجوارح بدون عذر دليل على فساد الباطن أيْ : انتفاء قول القلب وعمله أو انتفاء عمل القلب كما سبق ذلك ، والفساد هنا ليس فساد نقص بل فساد زوال وانتفاء لقوله بعد ذلك : ((وخلوّه من الإيمان))، وإذا خلى الباطن من الإيمان حلّ محله الكفر وإذا زال الإيمان خلفه الكفر فيكون ترك عمل الجوارح كفراً كما سبق نـقل ذلك عن شيخه الإمـام ابن تيمية وغيره من الأئمة.انظر ((الفتاوى))[20/86و94] و((كتاب الصلاة)) لابن القيم [ص53] .
ز ) ويوضح ذلك ويجليه أن الإمام ابن القيم ذكر بعد حالة تخلّف العمل الظاهر حالة نقصه فقال: ((ونقصه دليــل نقصه وقوته دليل قوته))، فيكون تخلّف العمل الظاهر غير نقصه وذلك لأن تخلف العمل الظاهر يكون للكفر الذي في القلـب. ونقصـه يكون نقصاً في إيمان القلب.
ح) ويجلّي ذلك أكثر وأكثر أن الشهادتين اللتين هما قول اللسان يعتبران القسم الأول من قسمي الإيمان الظـاهر، والشهادتان لا تدخلهما الزيادة ولا النقصان ولا يكون الاستثـناء فيهما كما في ((الفتاوى)) [7/259] لابن تيميـة، فيكـون كـلام الإمام ابن القيـم على عمل الجوارح قطعاً في حالتي تركه ونقصه وكذا في حالة قوته .
ط ) وكلام الإمام ابن القيم هو من جملة أقوال لأئمة أهل السنة في تفصيل وبيان الأصل السابق الذي ذكر في الفقــرة رقـم (7) من بيان فقه قول الإمام ابن عيينـة.

(4) قول الإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360 هـ ) :

قال الآجري في ((الشريعة)) [ص120- 121 تحقيق حامد الفقي] : ((فالأعمال بالجوارح: تصديق للإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيباً منه لإيمانه وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه… وقد قال عز وجل في كتابه وبيّن في غير موضع: أن الإيمان لا يكون إلا بعمل وبيّنه رسوله  خلاف ما قالت المرجئة الذين لعب بهم الشيطان)) أهـ.
فقول الإمام الآجري هذا يطابق قول الأئمة ابن عيينة والحميدي وإسحاق؛ حيث اعتبر أن ترك العمل تكذيب من التارك لقوله ((مؤمن)) ، وذلك بخلاف المرجئة الذين يقولون مستكمل الإيمان، وأيضاً بخلاف الذين يقولون عمن هذا حاله إنه ناقص الإيمان، وبهذا يكون الإمام الآجري يقرر ما قرره الأئمة ابن عيينة والحميدي وإسحاق من أن ترك عمل الجوارح كفر بخلاف المرجئة الذين لا يكفّرون بترك العمل جملة.
وتأكيداً لهذا التقرير عاد الإمام الآجري فقال في [ص125]: (( كل هذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، ولا يجوز غير هذا، ردّاً على المرجئة الذين لعب بهم الشيطان، ميِّزوا هذا تفقهوا إن شاء الله تعالى)) أهـ.

(5) قول الإمام أبي عبدالله عُبيدالله بن محمد بن بطة العُكْبُري (رحمه الله)(ت 387هـ):

ذكر ابن بطة في ((الإبانة)) : ((الفرائض والواجبات الظاهرة )) ثم قال في [2/764/تحقيق رضا نعسان معطي] : ((ومن أقر بذلك وقاله بلسانه ثم تركه تهاوناً ومجوناً أو معتقداً لرأي المرجئة ومتبعاً لمذاهبهم فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله  فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة )) أهـ.
فالإمام ابن بطة يقرر ويؤكد ما قاله الأئمة ابن عيينة والحميدي وإسحاق والآجري من أن ترك الفرائض مع الإقرار بها ترك للإيمان الذي في القلب فيكون ليس في قلبه من الإيمان لا كثير ولا قليل، وهذا بخلاف المرجئة وبخلاف من يقول ترك الفرائض مع الإقرار بها ينقص الإيمان، فقول الإمام: ((ليس في قلبه منه قليل)) فيه ردّ على هذا القول.
ووصف الإمام ابن بطة من ترك الفرائض بالنفاق الأكبر أو النفاق الاعتقادي ؛وصفه بذلك أيضاً الإمام ابن تيمية حين قال في ((الفتاوى)) [7/611]: ((.. ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته؛ فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلاّ مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح.)) أهـ.
وهذا يؤكد اتفاق أئمتنا عقدياً ولفظيّاً الذي يدل على الأخذ من مشكاة واحدة .

(6) قول الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (رحمه الله) (ت 728هـ) :
قال الإمام ابن تيمية في ((الفتاوى)) [7/621]: ((..ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات سواء جعل فعل تلك الواجبات لازماً له أو جزءاً منه فهو نزاع لفظي؛ كان مخطئاً خطأً بيِّناً وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها وقالوا فيها من المقالات الغليظة ماهو معروف)) أهـ.
فكلام الإمام ابي العباس تقرير وتوكيد لما سبق نقله عن الأئمة :
1- فقد نسب الإمام القول بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات إلى الخطأ البَيِّن ووصفه بأنه بدعة الإرجاء.
2- والقول بعدم حصول الإيمان الواجب لترك فعل الواجبات هو القول الصواب وإن اختُلِف بعد ذلك في تسمية فعل الواجبات أهي من لازم الإيمان الواجب أم جزءٌ منه فهذا الاختلاف لفظي ما دام الكل يقول بعدم حصول الإيمان الواجب لترك فعل الواجبات.
3- والمراد بالإيمان الواجب هنا أصل الإيمان وليس مازاد على أصله ودليل ذلك :
أ ) أن الإمام ابن تيمية قبل قوله هذا بيّن بياناً شافياً هذا الأمر ولخص بيانه فقال : (( فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بايجابها محمد  )) بيانه: (( فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله)) أيْ انتفى عنه أصل الإيمان الذي هو ضد قوله ((..بحصول الإيمان الواجب)) وبيانه: ((مع عدم شيء من الواجبات)) أيْ ترك فعل الواجبات الذي يساوي قوله ((بدون فعل شيء من الواجبات)).
وهناك أقوال لـه توضح هذا وتؤكده كلها تصب في معنى واحد يلتقي مع أقوال الأئمة السابقين وغيرهم، وليس الأمر كما قال أحدهم إن لابن تيمية قولين في ترك العمل. وليس الأمر كما قال أحد الذين لا يفقهون والذي من شدة تعصبه وأسْرِه لما لُقِّنْـه قال: ((ابن تيمية تناقض في مسألة عمل الجوارح)) وهنيئاً له فقد سبقه الفخر الرازي ورمى الإمام الشافعي بالتناقض في الإيمان، كما في كتابه ((مناقب الإمام الشافعي)) (ص846/ تحقيق الدكتور أحمد حجازي) ونقله عنه الإمام ابن تيمية في( الفتاوى)[7/511]. والرازي يقول بقول جهم والصالحي في الإيمان، لذا استشكل قول الشافعي ورآه متناقضاً، وهذا الذي لايعقل الخلل عنده فرمى الإمام بما رمى.
ب) قال الإمام ابن تيمية في ((الفتاوى)) [7/142]: ((… والتولي هو التولي عن الطاعة.. فعُلم أن ((التولي)) ليس هو التكذيب بل التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر. وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي… وقد قال تعالى: ((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)) فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول… ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق.)) أهـ.
فقوله: ((لم يأت بالعمل)) يساوي قوله: ((بدون فعل شيء من الواجبات)). وقوله ((كما نفى فيها الإيمان عن المنافق)) ضد قوله: ((حصول الإيمان الواجب)) والمنفي عن المنافق هو أصل الإيمان فيكون من لم يأت بالعمل منفي عنه أصل الإيمان، فيكون ترك فعل الواجبات لا يحصل به الإيمان الواجب أي :ْ لا يحصل به أصل الإيمان.
ج) قال الإمام في (الفتاوى)) [7/198]: ((… وذلك لأن أصل الإيمان هو مافي القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب)) أهـ.
تأمل قوله: ((أصل الإيمان هو مافي القلب)) و ((وجود إيمان القلب الواجب)) وتعلق العمل الظاهر بهما وجوداً وعدماً ونقصاً .
فقد فرَّق الإمام بين زوال إيمان القلب الواجب وبين نقصه، فزواله يكون مع عدم جميع أعمال الجوارح، ونقصه يكون بنقص الأعمال الظاهرة، فيكون إيمان القلب الواجب هنا يرادف أصل الإيمان، لأن:
د) قال الإمام في ((الفتاوى)) [7/218]: ((وإنما قال الأئمة بكفر هذا، لأن هذا فرض ما لايقع فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة ونكاح الأمهات وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه)) أهـ.
فقولـه : ((لايفعل شيئاً مما أمر به 000)) هو قوله السابق : ((بدون فعل شيء من الواجبات )) فماذا يكـون قوله : (( لعدم الإيمان الذي في قلبه )) ؟ أليس يكون في (( انتفاء أصل الإيمــــان )) ؟. وعليه ماذا يكون ((بحصول الإيمان الواجب)) ؟ وانظر لعدم الإيمان هو الكفر ((الفتاوى)) له[20/86و94].
هـ) عند شرحه قول الإمام الحسن البصري : ((ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال))[7/293-294] فمما قاله: ((ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال،فالعمل يصدّق أن في القلب إيماناً،وإذا لم يكن عمل كذَّب أن في قلبه إيماناً…)) أهـ.
فترك العمل الذي يرادف ((بدون فعل شيء من الواجبات)) يُظهِر أنه ((كذَّب أن في قلبه إيماناً)) الذي يضاد ((حصول الإيمان الواجب)) فيكون ترك فعل الواجبات تكذيباً أن في قلبه إيماناً، والتكذيب أن في القلب إيماناً يكون لزوال أصل الإيمان، فيكون الإيمان الواجب هنا يرادف أصل الإيمان.
و) تكلم الإمام في ((الفتاوى)) [7/610-620] عن التكفير بترك شيء من الأركان الأربعة مع الإقرار بوجوبها فقال [7/611]: ((وهذه المسألة لها طرفان (أحدهما) في إثبات الكفر الظاهر، و(الثاني) في اثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلاّ مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح..)) أهـ.
فقوله: ((لا يسجد لله سجدة و.. و.. و..)) يدخل في((دون فعل شيء من الواجبات)) وقوله ((إلاّ مع نفاق… )) ضد ((حصول الإيمان الواجب)) ؛ فيكون الإيمان الواجب هنا يرادف ((أصل الإيمان)) ، لأن مع ((النفاق والزندقة)) ينتفي أصـل الإيمان)).وهذا عين قوله في الفقرة (ب) السابقة .
ز) قال الإمام في ((الفتاوى)) [7/621]: ((وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً ولا غير ذلك من الواجبات…)) أهـ.
بهذا يتضح أن المراد من قول الإمام هنا ((… بحصول الإيمان الواجب..)) أي أصل الإيمان وليس الإيمان الواجب الذي بمعنى ما زاد من واجبات الإيمان على أصله والذي يرادف قولنا ((كمال الإيمان الواجب)) أو ((كمال الإيمان)) الذي بزواله يزول كماله الواجب ولايزول أصله .
ومما يؤيد أن الإمام يستعمل الإيمان الواجب بمعنى ((أصل الإيمان)) قوله في ((الفتاوى)) [7/188]: ((فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه)) أهـ. فهل الإيمان الواجب هنا ما زاد على أصل الأيمان؟ انظر الإجابة في (( الصارم المسلول )) [ص 523] له ، حيث جعل النطق بالشهادتين على القادر شرطاً لصحة الإيمان .
ح) قال الإمام في (الفتاوى) (7/17) : (( ... فإذا وجد الإيمان انتفى ضده ، وهو موالاة أعداء الله ، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه ؛ كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب.)) اهـ .
هل موالاة أعداء الله بالقلب تنفي منه الإيمان الواجب أي : ما زاد على أصله ؟.
ك) وأختم بأن هذا هو استعمال السلف ، قال الإمام في (الفتاوى) (7/148) : (( ..؛ فالسلف يقولون : ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب ، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب – الذي هو حب الله ورسوله وخشية الله ، ونحو ذلك – لا يستلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء، ..))اهـ .
أي : عند السلف : ترك الواجبات الظاهرة ينتفي بها الإيمان الواجب من القلب ، وذلك بزوال عمل القلب ، وإن بقى فيه التصديق غير الإذعاني .
فهل زوال عمل القلب يزول به الإيمان الواجب من القلب ، أي : يزول به ما زاد على أصله ؟.
هذا كله دليل من فعل الإمام ابن تيمية نفسه ونقله عن السلف وإلاَّ فإن المتتبع لاستعمالات أهل العلم يجد أنهم يطلقون الوجوب على أعلى أنواع الوجوب وهو الفريضة وعلى ما دون الفريضة وذلك أًنَّ مرادهم أَنْ يبينوا حكم هذا الأمر وأنه ليس من التطوع أو النوافل بل هو من جنس الواجب ، وذلك لأن الواجب هو الذي لزم وثبت وكذا الفرض هو الذي حكم به وجوباً بل النقل الأخير عن الإمام ابن تيمية فيه (( .. الإيمان الواجب الذي فرضه الله .. )) فلم يفرق بين الواجب والمفروض ، وكذا في [7/190] لم يفرق فقال : (( .. كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب )) أهـ . وأصل الإيمان يدخل قطعاً في الإيمان الواجب أو المفروض لهذا عندما يطلق على أصل الإيمان الإيمان الواجب أو الإيمان المفروض فهو اطلاق صحيح كما هو هنا في استعمال الإمام ابن تيمية . انظر (( الشرح الممتع على زاد المستقنع ))[2/7] للشيخ محمد بن صالح العثيمين .
وبهذا يكون قول الإمام ابن تيمية يلتقي ويؤكد قول الأئمة ابن عيينة والحميدي وإسحاق والآجري وابن بطة من أن ترك فعل الواجبات الظاهرة كفرٌ مخرج من الملة.
وهذه النقولات عن هؤلاء الأئمة توضح أن معتقد أهل السنة في هذا الأمر هو ما قالوه وأن التالي أخذه عمّن قبله . وهي تكفي إن شاء الله في بيان أن قول القائل: ((إن ترك الفرائض والواجبات الظاهرة ينقص الإيمان)) هو قول مخالف لما قرره هؤلاء الأئمة – وغيرهم – من أئمة أهل السنة.
وأشير بإجمال لعباراتٍ لأئمةٍ من أهل السنة ومن علمائهم في بيان أن ترك عمل الجوارح كفرٌ مخرج من الملة وليس نقصاً في الإيمان فضلاً عن قول المرجئة: ((مستكمل الإيمان)):
1- عبارات في نسبة عدم التكفير بترك الفرائض والواجبات الظاهرة للمرجئة خلافاً لأهل السنة، كما سبق في نقولات الأئمة ابن عيينة والحميدي وإسحاق والآجري وابن بطة.
2- عبارات فيها: أن ترك الاعمال الظاهرة والاتيان بالقول والاعتقاد لا يجزئ ، لا ينفع، لا يستقيم، لايكون، لا يتم، لايصلح، لا يتصور، يمتنع، وغيرها، كما هو في قول الإمام الزهري والشافعي والآجري وابن تيمية وغيرهم.
3- عبارات فيها التصريح بأن عمل الجوارح ركن في الإيمان عند أهل السنة كما هو في قول الإمام ابن القيم في ((عدة الصابرين))[ص141 ، تحقيق الخشت] والإمام الألباني في ((مقدمة شرح العقيدة الطحاوية))[ص57-58] ، وفي قول الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في ((درء الفتنة عن أهل السنة)) [ص21] وغيرها.
4- عبارات فيها التصريح بأن ترك عمل الجوارح تكذيب للإيمان ، كما في قول الأئمة الآجري وابن بطة وابن تيمية والشيخ ابن عثيمين في ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) [2/28-29].
5- عبارات فيها التصريح بأن ترك عمل الجوارح كفرٌ مخرج من الملة، كما في قول الأئمة ابن عيينة والحميدي وإسحاق والآجري وابن بطة وغيرهم.
6- عبارات فيها وصْف ترك العمل بالنفاق في القلب، كما في قول الأئمة ابن بطة وابن تيمية وغيرهما.

وغير ذلك من الآثار والعبارات في بيان أن ترك عمل الجوارح ليس نقصاً في الإيمان بل هو كفر مخرج من الملة عندهم، ومما تؤكده هذه العبارات أن حكم ترك الصلاة لا يرتبط بحكم ترك عمل الجوارح جملة حيث لم يقتصر الحكم على ترك الصلاة فقط، بل بعضٌ ممن لا يكفّرون بترك الصلاة قال بعض هذه العبارات.


و في الختام و الآن ننتظر من هؤلاء القوم الموقف النهائي من هذه النصوص العظيمة من القرآن والسنة النبوية ومن إجماع علماء الأمة و آثارهم السلفية هل سينقادون لها كما يدعون أنهم أصحاب دليل، أو سيعاملونها كمعاملة أقوال وفتاوى وأحكام علماء السنة في رموزهم الإرجائية .
نسأل الله لهم الهداية إلى إدراك الحق وتعظيم هذه النصوص الربانية والنبوية والسلفية والانقياد لها.
إن ربنا لسميع الدعاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه جمعا و إعداداً
المعتز بالله وحده المنتصر للحق و أهله
عبد الغني السلفي
في 17/شعبان/1429هـ

أبو سفيان
09-24-2008, 05:20 PM
جزاك الله خيرا على مجهودك و على هذا البيان

12d8c7a34f47c2e9d3==