قاسم علي
09-01-2008, 08:28 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أظلّكم شهر كريم
.
عبادَ الله، إنّ مِن آثار الإيمان الصّادق فرحَ المسلم بطاعة ربّه، فرحَه بعبادةِ ربّه وطمأنينة نفسه لذلك وانشراح صدره، إنّه كلّما تأمّل العبادات التي افترضها الله عليه يعلمُ حقًّا أنّ هذه العبادةَ التي افتُرضت عليه نعمةٌ من نعمِ الله عليه، وفضلٌ من فضل الله عليه، فهو يحمَد الله على هذا الفضلِ وعلى هذه النّعم. لماذا؟ لأنّه يرى حقًّا أنّ هذه العبادةَ شُرعت له لتقوّيَ صلتَه بربّه، وتجعله دائمًا على صلةٍ بربّه، وتلك غايةُ أمنيّةِ المسلم، مع ما يحصل له فيها من الأجرِ العظيم والعطاءِ الجزيل.
أيّها المسلم، هكذا حال المؤمن الصّادق، محبّةُ الإيمان، محبّة الأعمال الصّالحة، الفرحُ بها، الانبساط بها، كلّما أدّى ركنًا من أركان دينِه فهو فرحٌ مسرور به.
في الصّلاة قلبُه معلّق بالمسجد، يفارقه وهو يحنّ إليه ويشتاق إليه، متى ما سمع: "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح"، قال: سمعًا وطاعة، فأتى المسجدَ عن رغبةٍ وطاعة وفرَحٍ ومحبّة لهذه الفريضة.
عندما يخرِج زكاةَ ماله فهو يفرَح بها، لأيّ شيء؟ يفرح بها لأنّه ينفّذ عبادةً أمَره الله بها، فهو يشكر الله على أدائها، كما يشكُره على فضلِه ونعَمه عليه.
إذا أدّى فريضةَ الحجّ فرِح بذلك لكونِه أدّى ركنًا من أركانِ إسلامه، فيحمَد الله أن أعانَه على ذلك.
عندما يقبِل عليه شهرُ الصّيام والقيام، ما هي حاله؟ حالُه استبشارٌ وفرَح واغتباط بمقدَم هذا الشّهر الكريم، فرح واستبشارٌ وانبساطٌ وسرور بمقدَم هذا الشّهر الكريم. يفرَح به فرحًا عظيمًا، ويهنِّئ نفسَه وإخوانَه المؤمنين بمقدَم هذا الشهر، ويقول: الحمد لله، أمدَّ في أجلِي حتّى أدركتُ رمضان، الحمد لله، عافاني في بدَني حتّى أتمكّن من صيامِ رمضان، الحمد لله الذي أقرّ عيني بإدراك شهرِ الصّيام.
ما هذا الفرحُ بالصّيام؟ فرحُه به لأنّه يؤدّي عبادةً افترضَها الله عليه، وتعبّد بها مَن قبله مِن الأمم، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
أيّها المسلم، والمؤمنُ حينما ينظر إلى رمضان، إلى هذا الشّهر المبارك الذي فضّله الله على سائر شهور العام، فجعله سيّدَ الشهور وأفضلَ الشّهور على الإطلاق، إذًا فالمؤمن يفرَح به، ويستبشِر به، ويعلم أنّ صومَه عبادة تُرضِي اللهَ عنه، يعلم أنّ صومَه عبادةٌ يرضى الله عنه بفعل تلك العبادة. إذًا فهو يفرَح بهذا الشهر، ثمّ يعلم حقًّا ما أودع الله في هذا الشّهر من الفضائلِ والمزايا التي لم تكن لشهرٍ غيره، فهو يشكر الله على هذه النّعمة ويفرح بها.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا خاطب المؤمنين بالأمر بالصّيام فقال لهم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ، وجّه الخطابَ لأهل الإيمان الصادقِ الملتزمين بالإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا، أولئك الذين آمنت قلوبهم، ونطقت ألسنتهم، وعملت جوارحُهم بمقتضى حقيقة الإيمان الصّادق، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ، فُرض عليكم الصيام، وجُعل فريضةً عليكم، وهو ركن من أركان دينكم، كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، فهو عبادة لم تكونوا أنتم [المخصوصين] بها، بل عبادة تُعبِّدتم بها كما تُعبِّد بها مَن قبلكم، وإن كان لهذه الأمّة مزيدُ فضل وإحسانٍ ومزيد مضاعفة للأجور. ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، هذه حكمتُه جلّ وعلا مِن افتراض الصّيام على المسلمين، لماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، إنّما فُرض الصيام عليكم ليتحقّق لكم جانب التقوى في هذا الصيام، وهذا التقوى يكون بامتثال هذا الأمرِ بصيام رمضانَ، هذا التّقوى يتجلّى في حال المسلم وهو يمسِك عن الطّعام والشّراب ومواقعَة النّساء مع تذكّره وقدرتِه، لكن يترك كلَّ ذلك لأجل الله، ويعلم أنّ الله يراقِبه ويطّلع عليه، فهي عبادة بين العبدِ وبين ربِّه، ((الصوم لي، وأنا أجزي به))
يذكّره نِعمَ الله عليه، ولا يعرف النّعمَ إلا من فقدها، ويذكّره حالَ المحتاجين، فيعود عليهم بالمواساة، ويذكّره طاعةَ ربّه قبلَ كلّ شيء والتقرّبَ إليه بما يرضيه، وإنّه لأيّام معدودَة، تسعة وعشرون يومًا أو ثلاثون يومًا.
وإنّ هذا الصّومَ يُباح للمريض والمسافر الفطرُ إذا أتعبَهم الصّيام، وكان في أوّل الإسلام مخيّرًا المسلم بين أن يصومَ أو يطعِم، ثمّ إنّ الله رحِم الأمّة فأوجب الصيامَ على المسلم المقيم البالغ العاقل القادر السّالم من كلّ ما يمنَع الصّيام، وإنّ الله أراد بنا اليسرَ فيما فرضَ علينا، ولم يرد بنا العسر.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا كان يبشِّر أصحابَه بمقدَم رمضان، ويخبِرهم بذلك ليستعدّوا ويتأهّبوا.
هذا الشّهر العظيم له خصائصه وفضائله، فمن ذلك ـ يا معشر المسلمين ـ أنّ صيامَه مع الإيمانِ والاحتسابِ والإخلاصِ لله يكفّر ما مضى من الذّنوب، ((مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه))، ((الصّلوات الخَمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمَضان مكفّراتٌ لما بينهنّ إذا اجتنِبت الكبائر))، هكذا يقول .
قيامُ رمضان يمحو ما مضى من الذّنوب، كان نبيّنا يرغّب الأمّةَ في قيام رمضان من غير أن يأمرَهم بعزيمة، ثم يقول: ((من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)).
من خصائص هذا الشّهر أنّه عمَل أُضيفَ إلى الله واختصّ الله جلّ وعلا بالإثابة عليه، ((كلّ عمل ابن آدم له، قال الله: إلاّ الصيام، فإنّه لي وأنا أجزي به، والصوم جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يصخب ولا يغضَب، وإن سابّه أحد فليقل: إنّي امرؤ صائم، والذي نفس محمّد بيده لخلوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريح المِسك)).
الحسنات تُضاعَف بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف، أمّا الصّوم فإنّ مضاعفتَه لا يعلمها إلاّ الله؛ لأنّه من الصّبر، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وأضاف الصيامَ إليه لأنّها عبادة بين العبد وبين ربّه لا يطّلع عليها إلا الله، وهو جُنّة يقي المؤمن المعاصي، ويهذّب سلوكَه، ويقوّي ما اعوجّ من أخلاقه. والصّائم مطلوب منه الحِلم والصّبر والعفوُ والإِعراض عن الجاهلين.
نبيّكم أخبركم عن خمسِ خصائصَ خُصِصتم بها ـ يا معشر المسلمين ـ في هذا الشّهر: ((خلوف فمِ الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك ـ ما يتصاعد من أبخرةٍ في مشامّ النّاس كريهة عندَ خلوّ المعِدة من الطعام والشراب، ولكنّها عند الله أطيبُ من ريح المسك؛ لأنّها ناتجةٌ عن عبادة وطاعة لله ـ، ملائكة الرّحمن تستغفر لكم حتّى تفطروا وتدعو لكم بالمغفرة، الجنّة تتزيّن كلَّ ليلة، يقول الله: يوشِك عبادي الصّالحون أن يلقوا عنهم المؤونةَ والأذى ويصيروا إليك، مردَة الشّياطين يُصفَّدون في هذا الشهر فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلصون في غيره، يُغفَر لكم في آخر ليلة))، قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن إنّما يوفَّى العامل أجرَه إذا قضى عمله)).
أيّها الإخوة، رسولنا أخبَر الصّحابة يومًا وقد حضر رمضان فقال: ((أتاكم رمضانُ شهر بركةٍ يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمَة، ويحطّ الخطيئة، ويستجيب الدّعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فأروا الله من أنفسكم خيرًا))، وقال لهم وقد أظلّهم رمضان: ((أظلّكم شهركم هذا بمحلوفِ محمّد ، ما مرّ بالمؤمنين شهر خيرٌ لهم منه، ولا مرّ بالمنافقين شهرٌ شرّ لهم منه. إنّ الله يكتب أجرَه ونوافله قبل أن يُدخِله، ويكتب وزرَه وشقاءَه قبل أن يُدخِله، فالمؤمن يُعدّ فيه القوتَ من النفقة للتّقويّ على الطاعة، ويعدّ فيه المنافق تتبّعَ غفلاتِ النّاس وعوراتِهم، فهو غنمٌ للمؤمن يغتنِمه الفاجر))، وأخبرهم عن هذا الشّهر بقولِه: ((أظلّكم شهرٌ عظيم مبارَك))، وأخبرهم أنّ فيه ليلةً هي خير مِن ألف شهر، وأنّ الله افترضَ صيامَه وسنّ نبيّكم قيامَه، وأنّ النافلةَ في هذا الشّهر تعدل فريضة، والفريضة تعدِل سبعين فريضةً فيما سواه، وأنّه شهر الصّبر والصّبر ثوابه الجنّة، وشهر المواساة، وشهر يُزاد في رزق المؤمن فيه، وأنّ من فطّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبتِه من النّار، وكان له من الأجر مثلُ أجر الصّائم من غير أن ينقصَ من أجر الصائم شيء، وأخبرهم أنّه شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقٌ من النّار، وأخبرهم أنّ مَن خفّف عن مملوكِه غفر الله له وأعتقه من النّار، وأنّ من سقى فيه صائمًا شربةَ ماءٍ سقاه الله من حوضِ نبيّه، وأخبرهم أنّ هذا الثّواب يُعطى لمن فطّر صائمًا على تمرة أو مذقةِ لبَن أو شربة ماء، وأمرهم أن يستكثِروا فيه مِن أربَع خصال، فخصلتان يرضون بهما ربَّهم: شهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وخصلتان لا غناءَ بهم عنهما: يسألون اللهَ الجنة ويستعيذون به من النار.
فيا أيّها المسلم، وقد اقتربتَ من رمضان فاحمَد الله على هذه النعمة، واشكره على هذا الفضل، ولا تستثقل الصّيام، ولا تسأم الصّيام، ولا تملّنّ من الصيام، بل احمد اللهَ على هذه النّعمة.
سلفكم الصّالح كانوا يقولون: "اللهمّ سلِّمني لرمضان، اللهمّ سلّم لي رمضان، اللهمّ تسلَّم منّي رمضان متقبَّلاً"، يدعون الله نصفَ العام أن يبلِّغهم رمضان، فإذا صاموه دعَوا الله مثلَه أن يتقبّله منهم.
إنّه ميدان التّنافس في الخير وصالحِ العمل، فجِدّ أيّها المسلم، واجتهد في هذا الشّهر، وأحدث عملاً صالحًا، وتقرّب إلى الله بطاعته وما يرضيه.
أسأل الله أن يظلّه عليّ وعليكم وعلى جميع المسلمين بالأمن والإيمان والسّلامة والإسلام، وأن يرزقنا فيه الجدَّ والنّشاط، وأن يوفّقَنا فيه لصالح الأقوال والأعمال.
تذكّر ـ أخي المسلم ـ أقوامًا كانوا معك في مثلِ هذا العام، أتاهم أجلهم المكتوب، وانتقلوا من هذه الدّنيا إلى القبور، وهم يتمنّون لو كانوا معَكم ينافسون في صالح العمل.
فيا من طال عمره حتّى أدرك رمضان، اشكر الله على هذه النّعمة، وأحدِث لها طاعة وعبادةً، فإنّها نعمة عظيمة من الله.
أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم لصالح القول والعمل، وأن يرزقَنا جميعًا الفرحَ بهذه العبادة وانشراحَ الصدر والقيام بالواجب، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ [البقرة:185]، ترغيبٌ في هذا الشهر، وأنّ هذا الشهر ابتدِئ نزول القرآن فيه، فأوحَى الله إلى نبيّه محمّد بهذا القرآن في رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ، هذا الكتاب هدًى للنّاس، يهديهم من الجهل والضلال إلى العلمِ والهدى، وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ.
أيّها المسلم، إنّ صومَ رمضان أداءً يجِب على المسلم البالِغ العاقل المقيمِ القادِر السّالم من موانع الصّيام، فهَذا يجب عليه الصيام، وهو ركنٌ من أركان إسلامه، ولا يمكن لمسلم أن يتخلّى عن ذلك؛ لأنه الركن الرّابع من أركان الإسلام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]. كانوا في أوّل الإسلام يطعِمون، ثمّ إنّ الله رحمهم فافترض عليهم الصّيام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
أيّها المسلم، غيرُ المسلم لا يُطالَب به لأنّ الأصلَ التزام التّوحيد وعبادة الله وحدَه لا شريك له والإيمان بمحمّد والتزام الصلاة والزكاة.
الصغير غيرُ البالغ لا يطالَب به، لكن إن أمكنَ ترغيبُه في الصّيام بعد التمييز وترغيبه فيه ولو أيّامًا بعدَ أيام لكي ينشأ آلفًا للبعادةِ محبًّا لها فذاك حسن.
المجنونُ لا يطالَب به لأنّه فاقدُ العقلِ مرفوعٌ عنه التكليف.
الذي يعجزه الصيامُ لمرض والمرض هنا على قسمين، فهناك أمراضٌ خطيرة، أمراض لا يمكن الصيامُ معها، أمراضٌ يقرّر الأطبّاء المختصّون أنّ الصومَ مع هذا المرضِ غيرُ ممكِن، وأنّ الصومَ يهدِّد حياةَ المسلم، فهؤلاء يفطِرون، وإذا كان المرَض مرضًا ملازِمًا وأمراضًا متّصلة ـ عافى الله الجميعَ من كلّ بلاء ـ فإنّه يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، أي: عن الشّهر كلِّه خمسة وأربعين كيلو من الأرز أو الحبّ عن الشّهر كلّه؛ لأنّ مرضَه مرض ملازمٌ لا ينفكّ عنه، كالمصابين بداءِ الكلى والأمراضِ المتعدّدة المتنوّعة، فإنّ صاحب هذا المرض الذي إذا صام تعِب، وربما أغمِيَ عليه، وربّما هدّد حياتَه، فإذا قرّر ذلك طبيبٌ مختصّ فإنّ المسلم يفطر، ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وإن كان هذا المرض مرضًا مؤلِمًا ومتعِبًا ولا يستطيع الصومَ معه، لكن هذا المرض يُرجَى شفاؤه في الغالب بإذن الله، فهذا يفطِر ويقضي أيّامًا آخر.
والمسافر إن أفطرَ في سفرِه فالله يقول: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وإن لم يشقَّ عليه الصومُ فصام فلا مانِع، وإن اطمأنّت نفسه فقبِل رخصةَ الله فالله يحِبّ أن تؤتَى رخصُه كما يكرَه أن يؤتى معصيتُه.
من بلغ مبلغًا من السّنّ يعجزه الصيام فصار كبيرًا لا يقدِر على الصّيام، فإنّه أيضًا يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وأمّا الذي فقد الذّاكرةَ وأصبَح لا يحسِن شيئًا ولا يعرِف مَن حوله، فاقدُ الذاكرة لكبرِ سنّه أو هرفٍ مبكِّر أفقده الذّاكرةَ، فهذا لا صومَ ولا إطعامَ عنه؛ لأنّه غير مطالب بالصّيام في تلك الحال.
والحائض تفطِر إذا جاءَها دمُ الحيضِ، ولو لم يبقَ من النّهار إلاّ جزء يسير فإنّها تفطر، وإن طهرت في أثناء اليومِ أمسكت بقيّةَ يومِها وتقضِيه، وهكذا النّفساء تفطر في نفاسها، ومتى انقطع الدّم عنها أمسكت وكمّلت يومَها وتقضيه، وإن طهُرت مِن نفاسها قبل الأربعين وزال عنها النّفاس كلّه فإنّها تصوم ويلزَمها الصّيام وإن لم تكمّل أربعين.
فاتّقوا الله ـ يا عباد الله ـ في صيامكم، واشكروا اللهَ على هذه النّعمة، وأحيوا سنّة التّراويح، فإنّها سنّة نبيّكم ، صلاّها ثلاث ليالٍ أو ليلتين، ثمّ خاف أن تُفرَض على النّاس فتركها رِفقًا بهم، فلمّا كان زمن عمر جمَع النّاسَ على إمام واحدٍ إحياءً لهذه السنّة فتلقّتها الأمّة بالقبول، فرضي الله عنه وأرضاه، وهو ثاني الخلفاءِ الرّاشدين الذين أمِرنا باتّباع سنّتهم، وهو أحد الرّجلَين اللذَين أمِرنا بالاقتداء بهم: ((اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر)) فهي سنّة مؤكّدة، و((من قام مع الإمام حتّى ينصرِف كتِب له قيام ليلة))، فحافِظوا عليها رحمكم الله، واعتنوا بها، ولا تفرّطوا فيها، فمَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه.
أخي المسلم، الذي أدرَك هذا الشّهرَ ولم يتمكّن من صيامه لمرضٍ ما فأذكِّره بقول النبيّ : ((إذا مرض العبد أو سافر كتَب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا)) فالمسلم إذا لم يتمكَن من الصيام لأجل المرض فإنّ الله يكتب له ثوابَ الصائمين، ويثيبه ثوابَ الصائمين، لأنّ الله يعلم من نيّته حرصَه على هذا الشّهر وحبَّه له لولا الحائل والعذرُ الذي منَعه، فإنّ الله لا يضيع أجرَه ونيّتَه، وذلك فضلُ الله، والله ذو الفضل العظيم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين
خطبة من جامع تركي بن عبدالله للشيخ المفتي عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله
لقد أظلّكم شهر كريم
.
عبادَ الله، إنّ مِن آثار الإيمان الصّادق فرحَ المسلم بطاعة ربّه، فرحَه بعبادةِ ربّه وطمأنينة نفسه لذلك وانشراح صدره، إنّه كلّما تأمّل العبادات التي افترضها الله عليه يعلمُ حقًّا أنّ هذه العبادةَ التي افتُرضت عليه نعمةٌ من نعمِ الله عليه، وفضلٌ من فضل الله عليه، فهو يحمَد الله على هذا الفضلِ وعلى هذه النّعم. لماذا؟ لأنّه يرى حقًّا أنّ هذه العبادةَ شُرعت له لتقوّيَ صلتَه بربّه، وتجعله دائمًا على صلةٍ بربّه، وتلك غايةُ أمنيّةِ المسلم، مع ما يحصل له فيها من الأجرِ العظيم والعطاءِ الجزيل.
أيّها المسلم، هكذا حال المؤمن الصّادق، محبّةُ الإيمان، محبّة الأعمال الصّالحة، الفرحُ بها، الانبساط بها، كلّما أدّى ركنًا من أركان دينِه فهو فرحٌ مسرور به.
في الصّلاة قلبُه معلّق بالمسجد، يفارقه وهو يحنّ إليه ويشتاق إليه، متى ما سمع: "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح"، قال: سمعًا وطاعة، فأتى المسجدَ عن رغبةٍ وطاعة وفرَحٍ ومحبّة لهذه الفريضة.
عندما يخرِج زكاةَ ماله فهو يفرَح بها، لأيّ شيء؟ يفرح بها لأنّه ينفّذ عبادةً أمَره الله بها، فهو يشكر الله على أدائها، كما يشكُره على فضلِه ونعَمه عليه.
إذا أدّى فريضةَ الحجّ فرِح بذلك لكونِه أدّى ركنًا من أركانِ إسلامه، فيحمَد الله أن أعانَه على ذلك.
عندما يقبِل عليه شهرُ الصّيام والقيام، ما هي حاله؟ حالُه استبشارٌ وفرَح واغتباط بمقدَم هذا الشّهر الكريم، فرح واستبشارٌ وانبساطٌ وسرور بمقدَم هذا الشّهر الكريم. يفرَح به فرحًا عظيمًا، ويهنِّئ نفسَه وإخوانَه المؤمنين بمقدَم هذا الشهر، ويقول: الحمد لله، أمدَّ في أجلِي حتّى أدركتُ رمضان، الحمد لله، عافاني في بدَني حتّى أتمكّن من صيامِ رمضان، الحمد لله الذي أقرّ عيني بإدراك شهرِ الصّيام.
ما هذا الفرحُ بالصّيام؟ فرحُه به لأنّه يؤدّي عبادةً افترضَها الله عليه، وتعبّد بها مَن قبله مِن الأمم، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
أيّها المسلم، والمؤمنُ حينما ينظر إلى رمضان، إلى هذا الشّهر المبارك الذي فضّله الله على سائر شهور العام، فجعله سيّدَ الشهور وأفضلَ الشّهور على الإطلاق، إذًا فالمؤمن يفرَح به، ويستبشِر به، ويعلم أنّ صومَه عبادة تُرضِي اللهَ عنه، يعلم أنّ صومَه عبادةٌ يرضى الله عنه بفعل تلك العبادة. إذًا فهو يفرَح بهذا الشهر، ثمّ يعلم حقًّا ما أودع الله في هذا الشّهر من الفضائلِ والمزايا التي لم تكن لشهرٍ غيره، فهو يشكر الله على هذه النّعمة ويفرح بها.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا خاطب المؤمنين بالأمر بالصّيام فقال لهم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ، وجّه الخطابَ لأهل الإيمان الصادقِ الملتزمين بالإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا، أولئك الذين آمنت قلوبهم، ونطقت ألسنتهم، وعملت جوارحُهم بمقتضى حقيقة الإيمان الصّادق، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ، فُرض عليكم الصيام، وجُعل فريضةً عليكم، وهو ركن من أركان دينكم، كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، فهو عبادة لم تكونوا أنتم [المخصوصين] بها، بل عبادة تُعبِّدتم بها كما تُعبِّد بها مَن قبلكم، وإن كان لهذه الأمّة مزيدُ فضل وإحسانٍ ومزيد مضاعفة للأجور. ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، هذه حكمتُه جلّ وعلا مِن افتراض الصّيام على المسلمين، لماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، إنّما فُرض الصيام عليكم ليتحقّق لكم جانب التقوى في هذا الصيام، وهذا التقوى يكون بامتثال هذا الأمرِ بصيام رمضانَ، هذا التّقوى يتجلّى في حال المسلم وهو يمسِك عن الطّعام والشّراب ومواقعَة النّساء مع تذكّره وقدرتِه، لكن يترك كلَّ ذلك لأجل الله، ويعلم أنّ الله يراقِبه ويطّلع عليه، فهي عبادة بين العبدِ وبين ربِّه، ((الصوم لي، وأنا أجزي به))
يذكّره نِعمَ الله عليه، ولا يعرف النّعمَ إلا من فقدها، ويذكّره حالَ المحتاجين، فيعود عليهم بالمواساة، ويذكّره طاعةَ ربّه قبلَ كلّ شيء والتقرّبَ إليه بما يرضيه، وإنّه لأيّام معدودَة، تسعة وعشرون يومًا أو ثلاثون يومًا.
وإنّ هذا الصّومَ يُباح للمريض والمسافر الفطرُ إذا أتعبَهم الصّيام، وكان في أوّل الإسلام مخيّرًا المسلم بين أن يصومَ أو يطعِم، ثمّ إنّ الله رحِم الأمّة فأوجب الصيامَ على المسلم المقيم البالغ العاقل القادر السّالم من كلّ ما يمنَع الصّيام، وإنّ الله أراد بنا اليسرَ فيما فرضَ علينا، ولم يرد بنا العسر.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا كان يبشِّر أصحابَه بمقدَم رمضان، ويخبِرهم بذلك ليستعدّوا ويتأهّبوا.
هذا الشّهر العظيم له خصائصه وفضائله، فمن ذلك ـ يا معشر المسلمين ـ أنّ صيامَه مع الإيمانِ والاحتسابِ والإخلاصِ لله يكفّر ما مضى من الذّنوب، ((مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه))، ((الصّلوات الخَمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمَضان مكفّراتٌ لما بينهنّ إذا اجتنِبت الكبائر))، هكذا يقول .
قيامُ رمضان يمحو ما مضى من الذّنوب، كان نبيّنا يرغّب الأمّةَ في قيام رمضان من غير أن يأمرَهم بعزيمة، ثم يقول: ((من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)).
من خصائص هذا الشّهر أنّه عمَل أُضيفَ إلى الله واختصّ الله جلّ وعلا بالإثابة عليه، ((كلّ عمل ابن آدم له، قال الله: إلاّ الصيام، فإنّه لي وأنا أجزي به، والصوم جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يصخب ولا يغضَب، وإن سابّه أحد فليقل: إنّي امرؤ صائم، والذي نفس محمّد بيده لخلوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريح المِسك)).
الحسنات تُضاعَف بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف، أمّا الصّوم فإنّ مضاعفتَه لا يعلمها إلاّ الله؛ لأنّه من الصّبر، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وأضاف الصيامَ إليه لأنّها عبادة بين العبد وبين ربّه لا يطّلع عليها إلا الله، وهو جُنّة يقي المؤمن المعاصي، ويهذّب سلوكَه، ويقوّي ما اعوجّ من أخلاقه. والصّائم مطلوب منه الحِلم والصّبر والعفوُ والإِعراض عن الجاهلين.
نبيّكم أخبركم عن خمسِ خصائصَ خُصِصتم بها ـ يا معشر المسلمين ـ في هذا الشّهر: ((خلوف فمِ الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك ـ ما يتصاعد من أبخرةٍ في مشامّ النّاس كريهة عندَ خلوّ المعِدة من الطعام والشراب، ولكنّها عند الله أطيبُ من ريح المسك؛ لأنّها ناتجةٌ عن عبادة وطاعة لله ـ، ملائكة الرّحمن تستغفر لكم حتّى تفطروا وتدعو لكم بالمغفرة، الجنّة تتزيّن كلَّ ليلة، يقول الله: يوشِك عبادي الصّالحون أن يلقوا عنهم المؤونةَ والأذى ويصيروا إليك، مردَة الشّياطين يُصفَّدون في هذا الشهر فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلصون في غيره، يُغفَر لكم في آخر ليلة))، قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن إنّما يوفَّى العامل أجرَه إذا قضى عمله)).
أيّها الإخوة، رسولنا أخبَر الصّحابة يومًا وقد حضر رمضان فقال: ((أتاكم رمضانُ شهر بركةٍ يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمَة، ويحطّ الخطيئة، ويستجيب الدّعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فأروا الله من أنفسكم خيرًا))، وقال لهم وقد أظلّهم رمضان: ((أظلّكم شهركم هذا بمحلوفِ محمّد ، ما مرّ بالمؤمنين شهر خيرٌ لهم منه، ولا مرّ بالمنافقين شهرٌ شرّ لهم منه. إنّ الله يكتب أجرَه ونوافله قبل أن يُدخِله، ويكتب وزرَه وشقاءَه قبل أن يُدخِله، فالمؤمن يُعدّ فيه القوتَ من النفقة للتّقويّ على الطاعة، ويعدّ فيه المنافق تتبّعَ غفلاتِ النّاس وعوراتِهم، فهو غنمٌ للمؤمن يغتنِمه الفاجر))، وأخبرهم عن هذا الشّهر بقولِه: ((أظلّكم شهرٌ عظيم مبارَك))، وأخبرهم أنّ فيه ليلةً هي خير مِن ألف شهر، وأنّ الله افترضَ صيامَه وسنّ نبيّكم قيامَه، وأنّ النافلةَ في هذا الشّهر تعدل فريضة، والفريضة تعدِل سبعين فريضةً فيما سواه، وأنّه شهر الصّبر والصّبر ثوابه الجنّة، وشهر المواساة، وشهر يُزاد في رزق المؤمن فيه، وأنّ من فطّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبتِه من النّار، وكان له من الأجر مثلُ أجر الصّائم من غير أن ينقصَ من أجر الصائم شيء، وأخبرهم أنّه شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقٌ من النّار، وأخبرهم أنّ مَن خفّف عن مملوكِه غفر الله له وأعتقه من النّار، وأنّ من سقى فيه صائمًا شربةَ ماءٍ سقاه الله من حوضِ نبيّه، وأخبرهم أنّ هذا الثّواب يُعطى لمن فطّر صائمًا على تمرة أو مذقةِ لبَن أو شربة ماء، وأمرهم أن يستكثِروا فيه مِن أربَع خصال، فخصلتان يرضون بهما ربَّهم: شهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وخصلتان لا غناءَ بهم عنهما: يسألون اللهَ الجنة ويستعيذون به من النار.
فيا أيّها المسلم، وقد اقتربتَ من رمضان فاحمَد الله على هذه النعمة، واشكره على هذا الفضل، ولا تستثقل الصّيام، ولا تسأم الصّيام، ولا تملّنّ من الصيام، بل احمد اللهَ على هذه النّعمة.
سلفكم الصّالح كانوا يقولون: "اللهمّ سلِّمني لرمضان، اللهمّ سلّم لي رمضان، اللهمّ تسلَّم منّي رمضان متقبَّلاً"، يدعون الله نصفَ العام أن يبلِّغهم رمضان، فإذا صاموه دعَوا الله مثلَه أن يتقبّله منهم.
إنّه ميدان التّنافس في الخير وصالحِ العمل، فجِدّ أيّها المسلم، واجتهد في هذا الشّهر، وأحدث عملاً صالحًا، وتقرّب إلى الله بطاعته وما يرضيه.
أسأل الله أن يظلّه عليّ وعليكم وعلى جميع المسلمين بالأمن والإيمان والسّلامة والإسلام، وأن يرزقنا فيه الجدَّ والنّشاط، وأن يوفّقَنا فيه لصالح الأقوال والأعمال.
تذكّر ـ أخي المسلم ـ أقوامًا كانوا معك في مثلِ هذا العام، أتاهم أجلهم المكتوب، وانتقلوا من هذه الدّنيا إلى القبور، وهم يتمنّون لو كانوا معَكم ينافسون في صالح العمل.
فيا من طال عمره حتّى أدرك رمضان، اشكر الله على هذه النّعمة، وأحدِث لها طاعة وعبادةً، فإنّها نعمة عظيمة من الله.
أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم لصالح القول والعمل، وأن يرزقَنا جميعًا الفرحَ بهذه العبادة وانشراحَ الصدر والقيام بالواجب، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ [البقرة:185]، ترغيبٌ في هذا الشهر، وأنّ هذا الشهر ابتدِئ نزول القرآن فيه، فأوحَى الله إلى نبيّه محمّد بهذا القرآن في رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ، هذا الكتاب هدًى للنّاس، يهديهم من الجهل والضلال إلى العلمِ والهدى، وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ.
أيّها المسلم، إنّ صومَ رمضان أداءً يجِب على المسلم البالِغ العاقل المقيمِ القادِر السّالم من موانع الصّيام، فهَذا يجب عليه الصيام، وهو ركنٌ من أركان إسلامه، ولا يمكن لمسلم أن يتخلّى عن ذلك؛ لأنه الركن الرّابع من أركان الإسلام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]. كانوا في أوّل الإسلام يطعِمون، ثمّ إنّ الله رحمهم فافترض عليهم الصّيام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
أيّها المسلم، غيرُ المسلم لا يُطالَب به لأنّ الأصلَ التزام التّوحيد وعبادة الله وحدَه لا شريك له والإيمان بمحمّد والتزام الصلاة والزكاة.
الصغير غيرُ البالغ لا يطالَب به، لكن إن أمكنَ ترغيبُه في الصّيام بعد التمييز وترغيبه فيه ولو أيّامًا بعدَ أيام لكي ينشأ آلفًا للبعادةِ محبًّا لها فذاك حسن.
المجنونُ لا يطالَب به لأنّه فاقدُ العقلِ مرفوعٌ عنه التكليف.
الذي يعجزه الصيامُ لمرض والمرض هنا على قسمين، فهناك أمراضٌ خطيرة، أمراض لا يمكن الصيامُ معها، أمراضٌ يقرّر الأطبّاء المختصّون أنّ الصومَ مع هذا المرضِ غيرُ ممكِن، وأنّ الصومَ يهدِّد حياةَ المسلم، فهؤلاء يفطِرون، وإذا كان المرَض مرضًا ملازِمًا وأمراضًا متّصلة ـ عافى الله الجميعَ من كلّ بلاء ـ فإنّه يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، أي: عن الشّهر كلِّه خمسة وأربعين كيلو من الأرز أو الحبّ عن الشّهر كلّه؛ لأنّ مرضَه مرض ملازمٌ لا ينفكّ عنه، كالمصابين بداءِ الكلى والأمراضِ المتعدّدة المتنوّعة، فإنّ صاحب هذا المرض الذي إذا صام تعِب، وربما أغمِيَ عليه، وربّما هدّد حياتَه، فإذا قرّر ذلك طبيبٌ مختصّ فإنّ المسلم يفطر، ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وإن كان هذا المرض مرضًا مؤلِمًا ومتعِبًا ولا يستطيع الصومَ معه، لكن هذا المرض يُرجَى شفاؤه في الغالب بإذن الله، فهذا يفطِر ويقضي أيّامًا آخر.
والمسافر إن أفطرَ في سفرِه فالله يقول: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وإن لم يشقَّ عليه الصومُ فصام فلا مانِع، وإن اطمأنّت نفسه فقبِل رخصةَ الله فالله يحِبّ أن تؤتَى رخصُه كما يكرَه أن يؤتى معصيتُه.
من بلغ مبلغًا من السّنّ يعجزه الصيام فصار كبيرًا لا يقدِر على الصّيام، فإنّه أيضًا يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وأمّا الذي فقد الذّاكرةَ وأصبَح لا يحسِن شيئًا ولا يعرِف مَن حوله، فاقدُ الذاكرة لكبرِ سنّه أو هرفٍ مبكِّر أفقده الذّاكرةَ، فهذا لا صومَ ولا إطعامَ عنه؛ لأنّه غير مطالب بالصّيام في تلك الحال.
والحائض تفطِر إذا جاءَها دمُ الحيضِ، ولو لم يبقَ من النّهار إلاّ جزء يسير فإنّها تفطر، وإن طهرت في أثناء اليومِ أمسكت بقيّةَ يومِها وتقضِيه، وهكذا النّفساء تفطر في نفاسها، ومتى انقطع الدّم عنها أمسكت وكمّلت يومَها وتقضيه، وإن طهُرت مِن نفاسها قبل الأربعين وزال عنها النّفاس كلّه فإنّها تصوم ويلزَمها الصّيام وإن لم تكمّل أربعين.
فاتّقوا الله ـ يا عباد الله ـ في صيامكم، واشكروا اللهَ على هذه النّعمة، وأحيوا سنّة التّراويح، فإنّها سنّة نبيّكم ، صلاّها ثلاث ليالٍ أو ليلتين، ثمّ خاف أن تُفرَض على النّاس فتركها رِفقًا بهم، فلمّا كان زمن عمر جمَع النّاسَ على إمام واحدٍ إحياءً لهذه السنّة فتلقّتها الأمّة بالقبول، فرضي الله عنه وأرضاه، وهو ثاني الخلفاءِ الرّاشدين الذين أمِرنا باتّباع سنّتهم، وهو أحد الرّجلَين اللذَين أمِرنا بالاقتداء بهم: ((اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر)) فهي سنّة مؤكّدة، و((من قام مع الإمام حتّى ينصرِف كتِب له قيام ليلة))، فحافِظوا عليها رحمكم الله، واعتنوا بها، ولا تفرّطوا فيها، فمَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه.
أخي المسلم، الذي أدرَك هذا الشّهرَ ولم يتمكّن من صيامه لمرضٍ ما فأذكِّره بقول النبيّ : ((إذا مرض العبد أو سافر كتَب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا)) فالمسلم إذا لم يتمكَن من الصيام لأجل المرض فإنّ الله يكتب له ثوابَ الصائمين، ويثيبه ثوابَ الصائمين، لأنّ الله يعلم من نيّته حرصَه على هذا الشّهر وحبَّه له لولا الحائل والعذرُ الذي منَعه، فإنّ الله لا يضيع أجرَه ونيّتَه، وذلك فضلُ الله، والله ذو الفضل العظيم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين
خطبة من جامع تركي بن عبدالله للشيخ المفتي عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله