المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات/ إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء


كيف حالك ؟

هادي بن علي
07-21-2008, 09:49 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات/ إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

1 - التقدمة .

2 - مهمة التشريع .

3 - الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر .

4 - بدء ظهور المخدرات وانتشارها .

5 - جلب المصلحة ودفع المفسدة .

6 - الأدلة الشرعية على تحريم المخدرات .

7 - علاقات المخدرات بالخمر .

8 - نصوص الكتب الفقهية في مختلف المذاهب .

9 - فقه السنة .

10 - الدراسات الحديثة المؤيدة .

11 - الدخان .

اللهم لك الحمد خلقت الإنسان وفضلته على غيره من الأكوان ، بما ركبت فيه من قوى أعلاها العقل ، وأغلاها الإدراك والفهم ، ولكن كثيرا من عبادك نسوا ذلك التفضيل ، فتورطوا فيما يسلبهم نعمتك كلا أو بعضا ، ولم يكن لهم عزم يؤثرون به تلك المنة ، اللهم إنهم مساكين فاهدهم من ضلالهم وبصرهم بأمرهم ، لقد شربوا الإثم ، وأكلوا من الطعام الخبيث المفسد للعقل ؛ ظنا منهم أن ذلك يضاعف متعهم ، فارتد عليهم ذلك بعكس ما يريدون وقضى عليهم ، إن من عاش منهم يشقون ويتخبطون ، ومن مات منهم فقد خسروا دينهم ودنياهم ، ولم يفارقوا الحياة إلا بعد أن حقت عليهم كلمة الشقوة إلا من تاب .

هذا وإن تحريم الخبائث قد أصبح مما علم من الدين بالضرورة ، ولا سيما أم الخبائث " الخمر" على أن ما عداها من المخدرات لن يختلف عنها كثيرا في إقبال الناس عليه مع شدة ظهوره ، وقد يكون في بعض الطوائف والطبقات أكثر بحكم بيئاتهم ، وعلى مقتضى قدراتهم .

ولما طلب منا أن نكتب في نظرة الشريعة الغراء إلى هذه المخدرات في بحث متكامل ، رأينا أن ندرس فيه عدة نواح من الشريعة تتصل بهذا الأمر ، وتنتهي إلى تعرف الحكم الشرعي من وجهة نظر الفقهاء مع تعرف وجهات التشريع الإسلامي ، وتوجيه ما يصلح العباد ، ويأخذ بحجزهم عن الفساد ، وما يعزز ذلك من بحوث المصلحين ودراسات الأطباء والنفسيين ؛ فإن الإسلام هداية تفسرها شواهد الوجود ، وتثبتها وقائع الحوادث وأحوال الخلائق ، فمن كان سعيدا في عيشته فلأنه عرف سبيل الإسلام ، وأخذ نفسه بالعمل به ، ومن كان شقيا في حياته فلأنه تنكب عن جادته ، وصدق الله إذ يقول : سورة الأنعام الآية 153 وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ويقول سبحانه فيما يصور

الانحراف والمنحرفين : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

وقد اقتضت وجهة النظر في تسلسل البحث أن يكون على الوجه الآتي .

أولا : الفرق بين حقيقة كل من المسكر والمخدر والمفتر .

ثانيا : بدء ظهور المخدرات وانتشارها بين المسلمين .

ثالثا : مهمة التشريع الإسلامي في هذه الأمة في ناحيتين رئيسيتين هما : الرحمة بهم ، ورعاية مصالحهم حتى تطمئن النفوس إلى كل حكم من أحكام الشريعة ، وتفهم أنه لا بد أن يكون معقول المعنى ، وإن خفي أحيانا كما تتجه بالصبي وجهة الرفق به وإن لم يعلم ، واعتبار ما ينفعه وإن لم يفهم ؛ لضيق أفقه ونقص إدراكه سورة البقرة الآية 216 وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

والقصد بجانب الرحمة معنى اليسر في التشريع سهولة ووضوحا في التعبير ، وتخفيفا في التكليف ، ورفع الإصر الذي كان في الأمم السابقة مع الترخيص إذا طرأ عذر على المكلف يقتضي التخفيف في التكليف كالمرض والسفر والشيخوخة والكبر ، وبذلك ونحوه يجد الإنسان حبا لدينه ويأنس بشرع الله وتوجيهه مع تأييد ذلك بأدلة من الكتاب والسنة ، وصور من أحكامهما في ذلك .

والقصد بجانب المصلحة ما دل عليه الاستقراء من أن أحكام الله سبحانه موضوعة لمصالح العباد ، ولا بد من تحقيق الرحمة في هذا الجانب أيضا ولكن قد تختلف النواحي وضوحا وظهورا

وإن تجاوبت في مؤداها ، فبين الناحيتين تلازم وكمال ارتباط . )

رابعا : علاقة المصلحة الراجحة في التشريع الإسلامي بالتكاليف ، وكيف رجعت التكاليف إلى الأقسام الثلاثة ، الضروريات ، والحاجيات ، والتحسينيات ، وكيف كانت الأولى هي الأصل في الأحكام الشرعية ، وكانت الحاجيات والتحسينيات خادمة لها . ولعل في ذلك أيضا ما يزيد طمأنينة الإنسان إلى حكم ربه التكليفي ، كما يطمئن المؤمن بحكم إيمانه إلى حكم ربه الكوني وقضائه الحتمي الإلهي ، وفي هذا أيضا درس لمن يعرضون عن تشريع الله ، فينطلقون في شهواتهم حين يأخذ الشيطان بنواصيهم إلى حتوفهم ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ولا بد من بيان أن تحقيق المصالح التي قصد إليها التشريع من التكليف تتنافى مع تعاطي هذه المخدرات ، وإنها محاربة لله عز وجل في تشريعه ، وإيثار للفكر الجائر الخاطئ على تشريعه ، إذ كان المقصود هو نظرة التشريع الإسلامي إلى تلك الخبائث وحكمه فيها على مقتضى تلك المصالح .

خامسا : أدلة تحريم كل ما يزيل العقل وعلى رأسه تلك الخمر التي سماها الله سبحانه رجسا من عمل الشيطان ؛ لأنها هي التي كانت تتعاطى والقرآن ينزل ، فدخل في حكمها كل ما هو مثلها في القضاء على العقل ، وفهم الأئمة ذلك فلم يترددوا في الحكم به ، كما سيتبين ذلك في موضعه .

ويشمل هذا البحث أمرين ما يتعلق أولا بالخمر وحدها ، ونظرة الشارع في أمرها ، وما يتعلق بالمخدرات ثانيا ، ووجه الربط بين الأمرين ببيان ما بينهما من المعنى الذي لا فكاك منه ولا محيص عنه في نقل الحكم ، وللعلماء وجهات نظر في تحريم تلك

المخدرات مع إجماعهم عليه ، كما سيتجلى لك في هذه الدراسة إن شاء الله .

سادسا : نقول من كتب الفقه في المذاهب المختلفة ، والكتب الفقهية هي التي نقلت الفقه بالأمانة والدقة وتلقاها الناس بالقبول دون نكير ، ولعل في نقل تلك النقول ما يقطع الشغب ويقنع من لا يقنعه غير ذلك ، ولذلك كان لا بد من عرض عبارات تلك الكتب بأمانة ، ويكفي من ذلك ما يمكن أن يمثل المذهب الذي يبينه الكتاب دون استيعاب ، ويتصل بذلك عرض ما يتسنى عرضه من الفتاوى الحديثة المعاصرة التي هي صدى لذلك الماضي وأثر صالح له .

سابعا : عرض نظرة العلم الحديث والثقافة المعاصرة في الطب البدني والنفسي والعقلي والاجتماعي ، ونظرة القانون وما إلى ذلك مما يؤيد وجهة نظر الإسلام إلى ذلك الداء المجحف المخيف ، ونسأل الله أن يتداركنا بلطفه في القضاء عليه ، وتوجيه النفوس إلى ما يبدل سيئاتنا حسنات ، وكان الله غفورا رحيما .

ثامنا : خاتمة تجمع شتات الموضوع وتدعو إلى تضافر الجهود على تطهير المجتمع من كل رذيلة ، وخاصة هذا البلاء الذي إذا عرض لزم إن لم يرد الله خيرا بالناس فيردهم إلى الصراط المستقيم ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا ، وأنت تجعل الحزن إن شئت سهلا .
والحمد لله رب العالمين .
أولا : الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر

لا يليق بمن يريد أن يبين الحكم الشرعي في تعاطي شيء من هذه الأنواع الثلاثة أن يتكلم في ذلك إلا بعد أن يعرف من خواصها وآثارها في متعاطيها وفي المجتمع ما يسهل له الرجوع بها إلى نصوص الشريعة عامها وخاصها ، وينير له الطريق في الحكم عليها ، وإلا كان كمن يقتحم لجة البحر ليسبح فيها وهو لا يحسن السباحة ، وكان جريئا على القول على الله بغير علم ، وقد نهى سبحانه عن ذلك في عموم قوله : سورة الإسراء الآية 36 وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا

وفيما يلي بيان معانيها وخواصها : -

أ- الخمر : تطلق الخمر على معنى الستر والتغطية ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : خمروا آنيتكم واذكروا اسم الله وقوله للصحابة فيمن وقصته ناقته فمات وهو محرم : لا تخمروا رأسه ، ولا تمسوه طيبا ؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ، ومنه تسمية ما تغطي به المرأة رأسها وتلقيه على نحرها وصدرها خمارا ؛ لستره ذلك ، قال الله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ومنه الكلمة السائدة : " خمري أم عامري " ولذا سمي ما يغيب العقل ويغطيه خمرا في اللغة ، مائعا كان أم جامدا ؛ لسترها إياه ، وحجبه عما كان يدركه من الأمور قبل تناول الخمر .

ويطلق أيضا على النضج والإدراك ، ومنه خميرة العجين لما ترك منه حتى يتغير ، ومنه تخمرت الفكرة ، إذا تمادى الباحث عنها في بحثه حتى أدركها ومحصها وتمكنت من نفسه .

وتطلق أيضا على معنى الخلط والاختلاط ، وهو تابع للمعنى الأول والثاني ، ومنه " الخمر ما خامر العقل" سميت بذلك لمخامرتها العقل .
يقال منها : خمر الشراب يخمره ويخمره خمرا ، وخمره تخميرا إذا تركه حتى يصير خمرا ، وخمره الشراب يخمره وأخمره غيب عقله وستره .

وتطلق في عرف الفقهاء على ما أسكر أي غيب العقل مع نشوة وطرب ، فمعناه في عرفهم أخص وأضيق دائرة منه في اللغة ، فكل ما يسمى خمرا عند الفقهاء يسمى خمرا في اللغة دون العكس .

ب - المخدر : هو مأخوذ من الخدر ، وهو الضعف والكسل والفتور والاسترخاء ، يقال : خدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة ، وخدر الشارب كفرح خدرا إذا فتر وضعف ، ويطلق الخدر أيضا على ظلمة المكان وغموضه ، يقال : مكان أخدر وخدر ، إذا كان مظلما . ومنه قيل للظلمة الشديدة : خدرة ، وكل ما منعك بصرك عن شيء وحجبه عنه فقد أخدره . والخدر : كل ما واراك ، ومنه خدر الجارية وهو ما استترت فيه من البيت ، وخدر الأسد يخدر وأخدر لزم خدره وأقام به ، وخدره أكمته ، وأخدره عرينه واراه .

ويطلق الخدر أيضا على البرودة - يقال : ليلة خدرة إذا كانت باردة ، ويوم خدر إذا كان باردا .

ويطلق الخدور على التحير ، يقال : رجل خادر- إذا كان متحيرا .

من هذا يتبين أن المادة تدور على معنى الضعف والكسل والفتور ، ومعنى الظلمة والسير والغموض وعلى معنى البرودة ، ومعنى لزوم الشيء والإقامة به ، ويتبع ذلك الجبن والتأخر ، والحيرة والتردد والتبلد وعدم الغيرة ، وكل هذه المعاني متحققة فيمن يتعاطى المخدرات مائعها وجامدها .

ج- المفتر : هو مأخوذ من التفتير والإفتار وهو ما يورث ضعفا بعد قوة

وسكونا بعد حدة وحركة واسترخاء بعد صلابة ، وقصورا بعد نشاط ، يقال : فتره الأفيون مثلا يفتره وأفتره يفتره إفتارا إذا أصابه بما ذكر من الضعف والقصور والاسترخاء ، ففتر يفتر ويفتر لان بعد شدة ، واسترخى بعد صلابة ، وضعف بعد قوة ، وكسل بعد نشاط ، وكل هذه الآفات متحققة فيمن يتعاطى المخدرات على اختلاف أنواعها مائعها وجامدها .

ثانيا : بدء ظهور المخدرات وانتشارها بين المسلمين

ذكر بعض العلماء أن أول ظهور الحشيشة بين المسلمين كان في أواخر القرن السادس الهجري أيام الحرب التي نشبت بين المسلمين والتتار ، والتي تسلط فيها الكفار على المسلمين ، وأعملوا فيهم سيوفهم بما ارتكبوا من الذنوب والآثام ، فهي من الآفات والأدواء الفتاكة التي تخلفها الحروب والعادات الخبيثة التي تسري إلى الدول المغلوبة على أمرها من الدولة الغالبة الجبارة ، هذا هو شأن الحروب الطاحنة في جميع العصور وشأن الدول المغلوبة التي تعتصم بدينها الحنيف ومبادئه السامية مع الدول العاتية الظالمة .

قال ابن تيمية في بدء ظهور الحشيشة : ص 205 من جـ (34) من مجموع الفتاوى . فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة حين ظهرت دولة التتر ، وكان ظهورها مع ظهور سيف ( جنكيز خان ) ، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو . . اهـ المقصود من كلامه .
ثالثا : مهمة التشريع الإسلامي في جانب الرحمة وفي جانب المصلحة

هذا الدين رحمة للعباد . قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وواضح أن تلك الرحمة أول ما تتجلى

فيما بعث الله سبحانه هذا النبي الكريم بهذا الكتاب المبين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وينقذهم مما تورطوا فيه من جهل وضلال ، حتى كانوا كما يقول سبحانه : وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وفي الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : إنما أنا رحمة مهداة وعنه -صلى الله عليه وسلم- قال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الدين الذي أخرج الله سبحانه به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، فإنما هو رحمة من الله سبحانه مصداقا لقوله جل شأنه : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ وبناء على ذلك فمن زاغ عن قصده أو زل عن منهجه فإنما يخرج نفسه من حظيرة الرحمة ، كما تورط في ذلك الحمقى والجاهلون من المغرورين والمتخبطين الذين آثروا غضب الله وسخطه ، ولم يكونوا من الذين كتب الله لهم رحمته وهم الذين وصفهم بقوله : فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

فهو سبحانه كتب رحمته لأولئك الذين يتبعون نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- وكانت رحمة الله الأولى به -صلى الله عليه وسلم- أنه يأمر بالخير وينهى عن الشر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عن العباد الإصر والأغلال ، فليس في أحكامه

أمر لا طاقة به للعباد ولا ما يعجزون عنه ، وصدق سبحانه وله المنة فيما يقول :وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ولقد كان من رحمته جل شأنه أنه تدرج في تشريع التحريم ، كما عرف من شأنه في تحريم الخمر ، فلم يبدأ بالتكليف في أمرها بل أجاب السائلين عنها أول ما شرع فقال : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا حتى انتهى التشريع إلى البت في أمرهما استجابة لطلب عمر وغيره إذ يقول : أفتنا في الخمر ؛ فإنها مفسدة للعقل مضيعة للمال ، فلما قال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله جل شأنه : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ دعي عمر بن الخطاب فتليت عليه ، فقال : انتهينا انتهينا يا رب . وكان من تمام الرحمة في ذلك أن حال الله سبحانه بينهم وبين مفاسدهم ؛ لأنها رجس من عمل الشيطان ، في شربها تحصيل غرضه وفي تركها فلاح للعباد ، فلماذا يهجر الناس هذا الكتاب ، ولماذا لا يتلقون تعاليمه بكل رضا واطمئنان ، فلا يقربوا شيئا مما حرم عليهم ، وهو أرحم الراحمين بهم .

ومن تتبع وصايا القرآن العظيمة وأوامره الحكيمة في مثل الآيات التي في أواخر سورة الأنعام 151 - 155 والتي تنهى عن الشرك الذي هو فتك وكفر ، وتأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وتنهى عن قتل الأولاد بسبب الفقر وتؤمن على الرزق ، وتنهى عن الفواحش والقتل وقربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، وتأمر بإيفاء الكيل والميزان في حدود الطاقة لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
ما أبرك وأرحمك ولكن الناس عن هذا منك غافلون فهم في طغيانهم يعمهون ، وفي مثل الآية :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أليس ذلك ما يوقظ النفوس الراقدة ويرد القلوب الجامحة ؟

وكذلك المحرمات وما يتصل بالتحريم من الترخيص برفع الإثم والحرج في مثل قوله جل شأنه : قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ألست ترى أن الآية الكريمة حصرت المحرم فيما كان أذى أو رجسا أو فسقا لا يتفق مع شكر المنعم ، وبينت أن من اضطر إلى شيء من ذلك فإن ربك غفور رحيم .

ويذكر سبحانه نفسه الكريمة بوصف الربوبية ثم يصف نفسه بأنه غفور رحيم ، وفي هذا المجال يبيح الفقهاء الخمر ونحوهما بإباحة الله عند الاضطرار كإساغة اللقمة حين لا يجد غيرها ، ويصرح بعضهم بإباحة المخدر إذا كان في حد التداوي مع تعينه لذلك ، فالأصل فيه التحريم ؛ لما فيه من الفساد والله لا يحب الفساد ، أفلا يكون في هذا التشريع العظيم والذكر الحكيم ما يرد إلى نفوس المعرضين شيئا من الحياء الفطري فيرعووا عن الإصرار ويعودوا إلى حظيرة الأبرار ، اللهم أنت الموفق الرحيم .

ما أكثر صور الرحمة ومظاهرها في تشريع الله سبحانه حتى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض ما يروى عنه : إنكم تتقحمون في النار وأنا آخذ بحجزكم . . .

فهذا تصوير بالمحسوس يمثل حال الإنسان مع هداية الرحيم الرحمن ، إنه يرمي بنفسه في المهالك ولكن نبي الرحمة هو الذي وصفه الله سبحانه بقوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فكان من إحسان الله ورحمته أن بعث إلينا رسولا هذه صفته ، ونرجو أن نكون على نهجه في الرحمة ، ولعل من هذا أن نتطلف في دعوة الناس بالحسنى ؛ ليثوبوا إلى رشدهم وينقذوا نفوسهم من براثن هذه الخبائث . . وبالله التوفيق .

وأما تشريع هذا الدين لما فيه مصالح العباد ، وما يدرأ عنه الشر والفساد فإنه يرتبط برحمة الله ، ولا ينفك عنها ، ولكن المجال يقتضي أن نتناوله من الزاوية التي طرقها علماء الأصول وأئمة الفقه حتى تتجلى علاقته بموضوع البحث ، وقد صرحوا بأن أحكام الله سبحانه موضوعة لمصالح العباد ، وكلما كانت المصلحة في أمر مفيد طلب الشارع لذلك الأمر بقدر ما فيه من مصلحة خالصة أو راجحة ، وكلما كان في الفعل مفسدة خالصة أو راجحة تقع على المكلف في بدنه أو عقله أو ماله أو المجتمع الذي يعيش فيه أو غيره ، فهذا الفعل محظور في الشرع بقدر ما فيه من مفسدة ، وإن لم يرد نص من الشارع يطلب الفعل أو يمنعه ، فأما ما فيه نص فما في النص من الأمر بالشيء أو النهي عنه ففيه كفاية ؛ لأن الله سبحانه أعلم بعباده وما هو خير لهم ، ويكون البحث مقصودا لتعرف حكمة الله بعد معرفة حكم الله حتى ينشط المكلف أو يزداد نشاطه لتنفيذ التكليف ، ولهذا بعث الرسل إليهم يدعونهم إلى ما فيه خيرهم ويحولون دون ما فيه شرهم .

وأما ما لا نص فيه فهو محال اجتهاد المجتهد وهو مثوب بقدر اجتهاده ، ولو أخطأ في تعرف حكم الله مع شروط تقيده بالبحث وتلزمه ببذل الطاقة والجهد سورة البقرة الآية 286 لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وهذا مما يسير بالمكلف إلى الخير في الجملة ويذوده عن الشر ، كذلك مع ما تقتضيه طبيعة العقل إذا تجرد عن الهوى ولم يصرف عن الحق .

ومن عبارات الأصوليين في هذا المقام ما جاء في كتاب الموافقات للشاطبي ، قال رحمه الله : الموافقات ج 3 ، 4 وهو كتاب حافل بأصول التشريع وأسراره ، وطريق الاستنباط من نصوصه وتوجيهاته . " والمعتمد أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه أحد ؛ فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل : سورة النساء الآية 165 رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وقال في أصل الخلقة : سورة هود الآية 7 وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا سورة الذاريات الآية 56 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الملك الآية 2 الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى ، كقوله بعد آية الوضوء : سورة المائدة الآية 6 مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ وقال في الصوم : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وفي الصلاة : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وفي القبلة : فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وفي الجهاد : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وفي القصاص : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ وفي التقرير على التوحيد : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ والمقصود التنبيه ، وإذا دل الاستقراء على هذا ، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة . اهـ .

ولقد قدم لنا علماء الشريعة ما تدور التكاليف في فلكه وأوضح ذلك الإمام الشاطبي في موافقاته المسألة الأولى من النوع الأول في بيان قصد الشارع بالشريعة ج2 من الموافقات . قال رحمه الله : -

" تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق ، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام ، أحدها أن تكون ضرورية ، والثاني أن تكون حاجية ، والثالث أن تكون تحسينية .

فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ، والحفظ لها يكون بأمرين : أحدهما : ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود ، والثاني : ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم ، فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك ، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات ، وما أشبه ذلك ، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود ، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة العادات ، والجنايات - ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم ، والعبادات والعادات قد مثلت ، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض ، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع ، والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال ، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ، ويتلافى تلك المصالح كالقصاص والديات للنفس ، والحد للعقل وتضمين قيم الأموال للنسل ، والقطع ، والتضمين للمال وما أشبه ذلك .

ومجموع الضرويات خمسة ، وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ، وقد قالوا : إنها مراعاة في كل ملة .

وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق

المؤدي في الغالب إلى الحرج ، والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ، ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى الحقوق المشقة بالمرض والسفر ، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا ، وملبسا ومسكنا ، ومركبا وما أشبه ذلك ، وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم ، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر ومال العبد ، وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة ، وضرب الدية على العاقلة ، وتضمين الصناع وما أشبه ذلك .

وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان ففي العبادات كإزالة النجاسة ، وبالجملة الطهارات كلها ، وستر العورة ، وأخذ الزينة ، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك ، وفي العادات كآداب الأكل والشرب ، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات ، والإسراف والإقتار في المتناولات ، وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات ، وفضل الماء والكلأ ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة ، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها ، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما أشبهها ، وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد ، وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها ، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية ، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين" اهـ .

وإذا كان كذلك : فما موضع تعاطي المخدرات من هذه الخمس

الضرورية ، وهل يمكن المحافظة عليها مع الوقوع في شيء من هذه المخدرات ؟

إنك إذا تتبعت هذه الخمس واحدة واحدة وجدت المخدرات مما يقوض أركانها ويزلزل بنيانها على شيء من التفاوت : -

أ‌- وأقرب هذه الخمسة إلى التأثر بالمخدرات وأحقه بالمحافظة عليه في ظل هجران هذه الخبائث هو العقل ، والعقل هو تلك اللطيفة الربانية التي يبصر بها الإنسان وجوه الصواب وطرق الرشاد ويعبد بها ربه ، والتي ينوه الله سبحانه بها فيجعلها وقاية من الشرور وسلامة من العذاب يوم القيامة إذا سلمت من الهوى ، فيقول في الحديث عن بعض ما يصدر من أهل النار وهم في سعيرها : سورة الملك الآية 10 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ويقول سبحانه : سورة ق الآية 37 إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ

إن هذا العقل الذي استحق به الإنسان أن يكون خليفة في الأرض ، وسخر الله له جميع الكون لعرضة للتضحية به في شربة كأس أو مضغة حشيش أو أفيون أو غيرها من الخبائث ، فويل لمن خسر عقله ضحية متعة موهومة أو نشوة منقضية مذمومة ؛ لأن ورءاها آفات تفسد الحياة ، وترد الإنسان من شر ما خلق الله .

ألست ترى ذبول أبدانهم وصفرة ألوانهم ، وتعشيش الفقر في بيوتهم ولفظ المجتمع لهم ، وترحيب السجون بهم ، وهل سميت المخدرات إلا لأنها تغطي العقل ، والعقل إذا تغطى عبث الذئب بصاحبه ، وصار أطوع من الطفل لشيطانه ، فلم يستح من فعل يصدر منه ولم يفكر في كلمة تخرج من فمه ، والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ، أما قلب المتخدر فإنه في إجازة لا يدري متى يعود منها ، وأما لسانه فإنه ينطق بلا عقل يريه كيف ينطق ، ولهذا روي أن نصيبا الشاعر قال



لبعض الخلفاء - وقد سأله : لم لا تشرب ؟ - فقال له : يا أمير المؤمنين ما رشحني لمجلسي هذا إلا عقلي ، فكيف أجالسك بدونه فأكون من الخاسرين .

ولا فرق في إصابة العقل والجناية عليه بين المسكر والمخدر ، وما أكثر ضحايا المخدرات في مستشفيات الأمراض العقلية ، فإذا كان حفظ العقل من الضروريات الخمس التي تحرص عليها جميع الأديان السابقة ، فماذا عسى أن يكون حكم الإسلام ، وهو الدين الخاتم الذي وسع كل شيء بنصوصه خاصها وعامها ، هل يرضى للمنتسب إليه أن يكون مجنونا لا يفهم ، أو صائرا إلى الجنون ، حاشا لله وحاشا لدينه الذي رضيه للمسلمين ، وأكمله لهم فأتم نعمته عليهم أن يكون ذلك فيما يرضاه أو يحله لهم .

ب‌- وكما أن المخدرات تذهب بعقل الإنسان وتخل توازنه ، فهي تفسد عليه دينه ، وهو الذي خلق الله الإنس والجن لأجله ؛ لقوله سبحانه :وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ولهذا جعل الله سبحانه الخمر رجسا من عمل الشيطان ، وبين أن الشيطان - تحقيقا لمهمته - يغري الناس بشرب الخمر ولعب الميسر وأشباههما ؛ ليوقع العداوة بين الإخوة ، ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ، وطبق الفقهاء ذلك على ما لم يكن موجودا وقت نزول الآية كالحشيش والأفيون ، وحكم المحققون منهم بكفر مستحلها كما هو الشأن في الخمر ؛ لأنها رجس تصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر ، وفيها كثير من صفاتها التي اقتضت تحريمها .

وقد جعل الفقهاء من شرط صحة العمل العقل ، فلا يصح عمله إلا به ، فهو أساس الدين وهذه المخدرات مسلبة للدين ، وجناية عليه ، فهل ترى أن نظر الشريعة إليها نظرة تبيح شيئا منها للإنسان ،

هيهات ، ولهذا جاء الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : . الخمر أم الخبائث .

ومن طريف ما يقال أن امرأة عربية تناولت بعض الشراب في مناسبة غير سعيدة ، فلما لعبت برأسها قالت : أيشرب هذا نساؤكم ؟ قالوا : نعم . قالت : زنيت ورب الكعبة . ومعنى هذا أنها سترت بشربه عقلها ، فكشفت عن بزتها ، واسترخت لما يريد الشيطان منها .

ج - ثم تجيء بعد ذلك المحافظة على المال الذي جعله الله سبحانه قياما للناس ، كما يقول جل شأنه في كتابه الكريم : سورة النساء الآية 5 وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ويمكن أن نشير في مناسبة الآية الكريمة إلى أن من يتعاطون المخدرات من أعرق الناس في السفه ؛ لأنهم ينفقون أموالهم فيما يضر عقولهم وأبدانهم ، ويسرفون في ذلك حتى ينتهي بهم تماديهم وإسرافهم إلى الفقر ، ويصبحون في أمس الحاجة إلى من ينفق عليهم ويتولى أمرهم ، وربما لا يجدون ذلك ، وصدق القائل :

ديــــة العقــــل بــــدرة فلمـــاذا يا خسيسا قد بعثه بحشيشة

فمن الآن فليشعر متعاطي هذه المخدرات أو من يفكر في صحبة متعاطيها أنها جناية على المال ، وتعريض به للضياع ؛ لأن قليلها يدعو إلى كثيرها والمضغة الواحدة منها طريق إلى التمادي فيها ، وإن فيها معصية لله سبحانه بإضاعة المال وحرمان مستحقه من الأهل والعيال ، وكيف ترضى شريعة الإسلام ذلك ، لا سيما أنها إضاعة تأخذ معها العقل وتسلب الدين .

د- وأما حفظ النسب : فإن مرجعه إلى التوقي من الزنا وحفظ الفرج من غير الزوج الشرعي ، وكيف يكون التوقي لمن طار عقله وطاش لبه وضعف دينه وذهب حياؤه ؟ على أنه قد نص العلماء كابن تيمية

وغيره أن متعاطي الحشيشة ديوث لا يغار على عرضه ولا يبالي أن يعتدي على حريمه وأهله لأنه فقد التقدير وخسر عقله وأعصابه .

هـ - وأما حفظ النفس : فإن مرجعه إلى المحافظة على البدن من الأمراض والحيلولة بينه وبين التهلكة ، والمخدرات لا تعرف المحافظة على البدن ولا تلتقي معها ، ولهذا كثرت ضحاياها التي استفاض أمرها ، وغصت المستشفيات العقلية بأصحابها ، وما أكثر من يموت من مدمنيها بالسكتة القلبية ، فهو أحوج ما يكون إلى أن يرعى نفسه أو من حوله من آباء وأبناء .

فهذه المخدرات محادة لله ولرسله ، وللأديان السماوية التي أمرت بحفظ الضروريات التي هي قوام الدين والدنيا ، فهل تجد مجالا في الإسلام لمن عرف السبيل إلى هذه السموم الفتاكة ؟ نسأل الله العافية والسلام .

إن الأمر فوق أن يقول فيه الفقيه هذا حلال أو حرام ، وإنه لمصدر فظيع من مصادر الجرائم التي يحاربها الدين والقانون والمنطق ، وقد رأينا أن نختم هذه الدراسة الموجزة في رعاية التشريع لمصالح العباد بما ذكره الإمام الفقيه الأصولي عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المتوفى سنة ( 665 ) في كتاب ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) يتجه به إلى أن تشريع الأحكام إنما هو لمصالح البشر ، قال رحمه الله تعالى : -

" ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد يخرج حكم منها عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته . إلى أن قال : وإنما يجلب سبحانه مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلا . اهـ . هذا هو منطق الفقهاء الذين حملوا أمانة تبليغ الأحكام ووجهوا أوجه الناس إليها ليقدروا

علم الدين والأحكام قدره ، على أنه لا بد لنا في هذا المجال أن نذكر الأدلة الشرعية التي سماها الأصوليون أدلة الأحكام على تحريم هذه الأشياء بعد ما عرف من مسلك الإسلام العام في خطر هذه الجرائم ومنعها .

والله ولي التوفيق .


يتبع

هادي بن علي
07-25-2008, 06:09 PM
الأدلة الشرعية على منع المخدرات

1 - تمهيد : لا بد من الحديث عن الخمر أولا ، لأنها أسبق ما عرف من المشروبات والمطعومات التي تغتال العقل ، وتفسد على من يتعاطاها دينه ، وتفتك ببدنه وتذهب بماله ، ولأن المخدرات تسمى كلها أو بعضها في نظر بعض الباحثين خمرا ، فتدخل في عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : كل مسكر خمر . وفي عموم ما جاء عن عمر رضي الله عنه ، وقد ذكر عدة أشياء وحكم أنها من الخمر ، ثم قال : والخمر ما خامر العقل . أي : غطاه ، فالربط قوي واضح بين هذه المخدرات والخمر ، وعلى تقدير أنها لم تدخل في عموم اسم الخمر على ما اتجه إليه بعض الفقهاء ، وستراه في هذه الدراسة إن شاء الله ، فإن الصلة بينها وبين الخمر قوية إذ لا أقل من أنها تحقيق قيام الوصف المقتضي للتحريم بها قياسا واضحا جليا ، ولهذا حكم ابن تيمية انظر مجموعة الفتاوى جـ \ 34 ص 204 وما بعدها . وغيره بأن للحشيش من المخدرات أحكام المسكرات الأساسية المتخذة من عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، وهذه الأحكام ثلاثة التحريم والنجاسة والحد على متعاطيها ، وذلك لأنه عندهم مسكر كالخمر .

على أن النظرة إلى الخمر في هذا المقام إنما هي نظرة إجمالية لا بد منها لتوضيح أحكام المخدرات في ضوئها فقط ، وليست نظرة تفصيلية تقسم

فيها المشروبات المسكرة من العنب والتمر ومن غير العنب والتمر ووجهة نظر الفقهاء في ذلك وبيان مستنداتهم .

ولهذا فإننا نجتزئ بالإشارة العابرة إليها ، وتغليظ الشارع أمرها بما جاء في النص القرآني الكريم من أنها رجس نجسة قذرة لا تأتي بخير ، وأنها من عمل الشيطان ؛ لأنه يتولى شاربها ، ويقتاده إلى حيث يريد من إيقاع العداوة بين الأحبة ، وصد الشارب عن ذكر الله وعن الصلاة التي هي أعظم القربات إلى الله بعد التوحيد ؛ لأن الخمر لهو ولعب كلعب الصبيان ، وشهوات ولذات حينا من الزمان ، وليست المخدرات بأقل منها فسادا وصدا عن الحق ونسيانا لكل واجب فلا عقل ولا تقدير ، والآية الكريمة صريحة في تلك المعاني مبينة لها أعظم بيان وأدقه ، وهي قوله تعالى ذلك القول الفصل بعد ما تدرج في التشريع حتى عرف المسلمون أذى الخمر ، وأنها لا تأتي بخير وأنها مفسدة للعقل مضيعة للمال ، فجاء هذا التشريع وهم إليه يتطلعون ويتمنون أن يكون : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ :91 إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

وجاء في الخبر أنه لما نزلت الآية الكريمة دعي عمر بن الخطاب ، وكان يلح في طلب الفصل في الخمر ، فلما تليت عليه قال : انتهينا انتهينا . فما أعظم التشريع وما أوضحه حين يرد وقد اتجه إليه العقل السليم والطبع الكريم ، ولهذا أريقت الآنية حين سمع بالآية من كانوا يديرون كاساتها بينهم ، فبرهنوا بالمسارعة إلى حكم الله على قوة إيمانهم وكمال وفائهم بما عاهدوا الله عليه من السمع والطاعة ؛ لأن الله وليهم ، وهو سبحانه أعلم بهم ، ولعل في الآية الكريمة لمن تأمل في أسرارها ما هو كفيل أن يردع كل عنيد ، فهذا الأمر الجازم الصارم وكونه من مادة الاجتناب دون الترك ونحوه ، وهذا الإيراد بين حكم


شارحة وردت قبله ، وهو وصفها بأنها رجس قذر ، وأنها من عمل الشيطان ، وهو شر عدو للإنسان ، ثم ما ذكره بعده من ربط الفلاح باجتنابها في الآية الأولى من الآيتين ، ثم الاستئناف الخصيب الذي بين أثرها المقصود للشيطان ، وهو إيقاع العداوة والبغضاء ومعهما الصرف عن ذكر الله وإقام الصلاة ، ثم هذا الاستفهام المروع ، كل ذلك أو بعضه كاف لمن عقل وفكر فيما يختار لنفسه . يتبع ذلك الحديث عن ما ورد من الآيات الأخرى قبل التحريم ولسنا في صدده ، ثم ما ورد من الأحاديث من التنفير منها والتحذير من آفاتها ، وهي أكثر من ستين حديثا جمعها ابن حجر الهيثمي في كتابه " الزواجر " على عادته في الاستيعاب ، وقد نقلها منها بعض المؤلفين المعاصرين ، ولكنه جعلها مجموعات تحت عناوين مختلفة ، مثل النصوص على تحريم كل مسكر ، والنهي عن المسكر والأمر باجتنابه ، والنصوص على تحريم القليل وغير ذلك مثل كتاب الدلائل الواضحات على تحريم الخمر والمفترات للشيخ حمود بن عبد الله التويجري . وفي الصحيحين منها عدة أحاديث وسنختار من المجموع ما نراه أجمع للمقصود .

أخرج الشيخان وغيرهما ، عن أبي هريرة ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن وفي رواية للنسائي : . فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، فإن تاب تاب الله عليه وفي ذلك فتح لباب التوبة وإطماع في الرحمة .

وروى أبو داود بسنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- : لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ، ومبتاعها وبائعها ، وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وروى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي :كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو لم يتب منها لم يشربها في الآخرة .

وروى ابن حبان أيضا : . من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن ، وروى الحاكم وصححه : الخمر ؛ فإنها مفتاح كل شر .

وهذه الأحاديث ونظائرها رادعة حق الردع لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، والله سبحانه ما يريد ليعنت العباد ، ولكن العباد يعنتون أنفسهم ويؤثرون متاعا ولذائذ تحول بينهم وبين الاستقامة ، وتوقعهم في الخسران والشقوة في الدنيا والآخرة ، ونسأل الله العافية .

وبعد هذا يمكن أن يقال : إن الاستدلال على التحريم بالكتاب والسنة الصحيحة وإجماع الأئمة ، فما كان ليقع خلاف في أمر ينطق القرآن الكريم بتحريمه ، فلا مجال فيه للتأويل ونطقت السنة بما ينادي على أنه من الكبائر ، وأن فاعله مسلوب الإيمان حين يفعله ، كما أن قواعد الإسلام والضرورات الخمس تقضي بحرمتها تحريما لا مجال فيه للريب ، وسترى شأن المخدرات وبيان علاقتها بالخمر فيما يقتضي التحريم المؤكد في هذه الدراسة إن شاء الله .

2 - علاقة المخدرات بالخمر :

ليس هناك ما يدعو إلى الاهتمام بأمر تصوير المخدرات ، وبيان الوصف الجامع المشترك بينها ، فمن البين أنها جميعا تشترك في تخدير العقل وإحداث فتور عام في البدن ، ويتصل بذلك تخيلات فاسدة وأفكار غير حقيقية قد يترتب عليها بعض الجرائم والجنايات ، كما قرر ذلك الواقع لجان البحوث المختلفة حول هذه المخدرات وطرق مقاومتها ، ولعلها تتفاوت في ذلك المعنى .

وقد أورد الفقهاء الإسلاميون الأسماء التي عرفت منذ ظهرت في الأفق وهي : الحشيشة والأفيون والشيركان وهو البنج - بفتح الباء - والعنبر وجوزة الطيب التي أوردها ابن حجر في كتاب الزواجر الزواجر عن الكبائر لابن حجر الهيثمي . وهؤلاء لم يذكروا ما عرف

بعد وما لم يطلعوا عليه في عهدهم ، مثل الكوكايين والهروين وغيرها مما ذكره القانون المصري مفصلا ، وجعل عقوبتها مشتركة لا فارق بين واحد وآخر بعد ظهور الخصائص والمميزات المشتركة ، وقد ذكر بعض الفقهاء السابقين المعاصرين الدخان من بينها ، وحكم عليه بحكمها وخالف بعضهم في ذلك ، كما سنبينه إن شاء الله .

وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في كتاب 179 \ 2 . الزواجر تلك المخدرات التي أوردناها وقال : إنها مسكرة ، كما صرح بها النووي في بعضها يريد الحشيشة . : وفسر الإسكار بتغطية العقل لا مع الشدة المطربة ؛ لأنها من خصوصيات المسكر المائع على أن ذلك خال من التحقيق ، وإلا لما خصت به الحشيشة من بين المخدرات ، ثم قال : إن ذلك لا ينافي أنها تسمى مخدرة . وهو يرى أنها من المسكر الطاهر ، كما أورده في عنوانها في الكبيرة السبعين بعد المائة ، وسترى أن كون الحشيشة طاهرة موضع خلاف بين الفقهاء ، كما أن خلوها من الشدة المطربة مما يخالف فيه أيضا بعض الفقهاء ، ولا شيء من هذا يمانع من أنها كلها تؤثر على العقل - الذي أمر الشارع بحفظه - أسوأ تأثير ، وأن القليل منها مما يدعو إلى الكثير ، فإذا اختلفت وجهة النظر عند بعضهم فأجاز القليل منها فإنه مذهب ضعيف يشبه القول بإباحة القليل من بعض الأشربة المسكرة ، مخالفا لقوله صلى الله عليه وسلم : ما أسكر كثيره فقليله حرام ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ، وكان هذا منه صلى الله تعالى عليه وسلم سدا لباب الفساد وإغلاقا لمقدمة الشر ، وقد تجلت حكمته -صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فما شرب أحد من أي شراب محظور إلا وجد فيه الرغبة التي تغري بالمتابعة ، ولا أخذ من الحشيشة قطعة إلا تركت فيه أثرا منها يدعوه إلى معاودتها إلا من عصم ربك ، ولكن الأحكام الشرعية تناط بالغالب من أحوال الناس ، ولهذا

فإننا نرى تحريم القليل والكثير ، ومما أورده صاحب ( عون المعبود شرح سنن أبي داود ) في هذا المقام نقلا عن العلامة أبي بكر بن قطب القسطلاني في كتابه ( تكريم المعيشة ) عون المعبود 321 \ 3 . : أن الحشيشة ملحقة بجوزة الطيب والأفيون والبنج ، وهذه من المسكرات المخدرات . وهو تصريح يمثل ما أورده ابن حجر الهيثمي في هذا المقام كما رأيته .

وكان إلحاق القسطلاني إياها بجوزة الطيب ونحوها ناشئ عن أنه سبق له حكم هذه الأشياء قبل حكم الحشيشة أو نحو ذلك . ثم نقل شارح السنن عن الزركشي أنه قال : ( إن هذه المخدرات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي يدخله في حد السكران ، وذكر عدة تعريفات مما أورده الفقهاء للسكران في كتب الفقه منها : أنه الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم ، ومنها : أنه الذي لا يعرف الأرض من السماء .

وهذا المعنى ينقله الحنفية عن الإمام أبي حنيفة في بعض كتبهم ، ثم انتقل إلى بيان وجه اعتبارها مسكرة أو غير مسكرة ، فإن أريد بالإسكار تغطية العقل فهي مسكرة ، وإن أريد تغطية العقل مع الطرب فهي غير مسكرة ، وسترى أن بعض فقهاء الحنابلة ذهب إلى أن في بعضها وهو الحشيش النشوة والطرب كالخمر ، ولهذا أعطى الحشيش أحكام الخمر الثلاثة وهي الحد والنجاسة وتحريم القليل . دون بقية المخدرات فإن فيها الحرمة والتعزير فقط ، وقد أطال صاحب عون المعبود النقل عن الزركشي في هذا المقام بما ليس من جوهره عندنا ، فليراجعه من شاء .

ثم نقل عن القاموس ما يفسر الفتور الوارد في حديث أبي داود ، ). أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر فقال : فتر جسمه فتورا : لانت مفاصله وضعف ، والفتار كغراب : ابتداء النشوة . ونقل عن المصباح في التخدير خدر العضو خدرا من باب تعب : استرخى فلا يطيق الحركة .

ومن هذه النقول وأشباهها يتضح لك أن كون هذه المخدرات تعتبر

مسكرة موضع بحث الفقهاء ، ومع ذلك سترى في النقول الآتية إجماعهم على حرمة الكثير المفسد للعقل ، وإن أجاز بعضهم القليل منها للتداوي فقط من وجهة نظره التي سنزيدها بيانا مع البحث والتحقيق الفقهي ، ومن تتمة النظر في هذا أن نضيف أن بعض الفقهاء لم يكتف في بعض هذه المخدرات باعتباره مسكرا بل سماه خمرا منهم شيخ الإسلام الفقيه المحقق الإمام أحمد ابن تيمية ، وكانت فيه غيرة دينية عجيبة وسعة أفق كما سترى في رأيه الفقهي مع أراء الفقهاء من مختلف المذاهب ، وكذلك الحافظ الذهبي كما جاء في كتاب ( الزواجر ) :

والواقع أن دراسة العلاقات بين هذه العناصر المخدرة وبين الخمر دراسة لها شأنها في صميم موضوعنا ؛ لأنها هي التي بنى الفقهاء حكمهم في الجملة عليها ، ولقد استبان ذلك في الرابط المحقق بينها ، وهو حصول المفسدة في تناولها وهي في محيط المفسدة في شرب الخمر ، فكيف لا تقرن بها في مناسبة الأحكام الشرعية ؟ ولقد وضح ذلك المعنى في التصويرات النبوية لمن يعقل مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- :كل مسكر خمر وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ، ونحو ذلك ، كما أنه وضح في آثار هذه المخدرات التي جعلت الناس تتساءل وترجع إلى رجال الفقه من علماء الإسلام ؛ لتعرف حكم الشرع في تعاطيها على وجهه ، فإذا كان القرآن الكريم قد اتجه بحكمه الواضح الصريح في الخمر التي شربت في الجاهلية ، ثم استمر شربها حتى حكم الإسلام بحرمتها فذلك لأنها هي التي كانت ، فورد الحكم بشأنها ، وإذا كانت السنة قد شنعت كل التشنيع على الخمر وبائعها وعاصرها ، فإنها لم تترك البيان في المسكرات الأخرى ولا في المفتر كما أشرنا ، وكما نبين إن شاء الله ، وكان من حكمة الإسلام أن لا يذكرها بأسمائها .

كما كان الشأن في غيرها مما أحدث الناس من الفجور حتى لا يخاطب الناس بما لا يعرفون ، ولكن الإسلام نهى عن الضرر والضرار ، ونهى عن الخبائث

كلها ما ظهر منها وما بطن ، حتى يطبق الفقيه كل ذلك في كل ما يظهر بعد ذلك . . .

إن هذه المخدرات ظهرت كما صرح ابن تيمية في نهاية القرن السادس وأوائل السابع مع ظهور التتار ، وذكر صاحب تهذيب الفروق هذا المعنى صريحا في قوله تهذيب الفروق ج1 ص216 بهامش كتاب الفروق للقرافي . : مسألة : اعلم أن النبات المعروف بالحشيشة لم يتكلم عليه الأئمة المجتهدون ولا غيرهم من علماء السلف ؛ لأنه لم يكن في زمنهم ، وإنما ظهر في أواخر المائة السادسة ، وانتشر في دولة التتار .

نقول : وهذه المخدرات لما لها من الارتباط الشديد بالخمر وقربها منها في كثير من معانيها قل أن تقرأ كتابا من كتب الفقه التي ظهرت بعد ظهورها إلا وهو يذكرها مع ذكر الخمر ، إما في حد الشرب وإما في كتاب الأشربة ، وإما في بيان نجاسة الخمر وسائر النجاسات ، وإما مع المباح والمحرم من الأطعمة والأشربة .

ولعله يسعنا بعد ذلك أن نذكر نصوص الفقه وعباراته فيما تناوله من تلك المخدرات بحسب الأهمية والاستيعاب للأدلة فنقول :

أقوال الفقهاء في الخمر والمخدرات

أولا : الفقه الحنبلي :

هذا الفقه هو أقوم ما عرفناه كتابة في هذا الموضوع ، وبيان الحكم الشرعي فيه بقوة وخصوبة واستيعاب الأدلة ، يتمثل ذلك في كتابة شيخ الإسلام ابن تيمية وإن كان في نقول بعض الشافعية نقل عن الغزالي يفيد وجوب التعزير دون الحد على آكل الحشيشة ، إلا أنه مقتضب غير مستوعب ، وقد استوعب كتابه مجموع الفتاوى صفحات كثيرة جوابا على

استفتاءات عديدة ، نجتزئ منها بما يأتي فيما يختص بالمخدرات ، أو يمهد لها تمهيدا قريبا .

ورد في هذه الفتاوى تحت عنوان باب حد المسكر ج34 ص186 مجموع فتاوى شيخ الإسلام . :

" أما الأشربة المسكرة فمذهب جمهور العلماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام ، وهذا مذهب مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه ، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ، وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، واختيار طائفة من المشايخ " .

وأورد أسماء كثير منهم ، ثم قال : وذهب طائفة من العلماء من أهل الكوفة كالنخعي والشعبي وأبي حنيفة وشريك وغيرهم إلى أن ما أسكر من غير الشجرتين النخل والعنب كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل ، ولبن الخيل وغير ذلك ، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر ، وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم .

وأما عصير العنب الذي إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر يحرم قليله وكثيره بإجماع المسلمين .

وأصحاب القول الثاني قالوا : لا يسمى خمرا إلا ما كان من العنب . وقالوا : إن نبيذ التمر والزبيب إذا كان منها مسكرا حرم قليله وكثيره ولا يسمى خمرا ، فإن طبخ أدنى طبخ حل ، وأما عصير العنب إذا طبخ وهو مسكر لم يحل إلا أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، فأما بعد أن يصير خمرا فلا يحل ، وإن طبخ إذا كان مسكرا بلا نزاع .

والقول الأول الذي عليه جمهور علماء المسلمين هو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ؛ فإن الله تعالى قال في كتابه :

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ سورة المائدة الآية 91 إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

واسم الخمر في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره ، ولا يختص المسكر من العنب ؛ فإنه قد سبق بالنقول الصحيحة أن الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية ، وكان تحريمها بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة لم يكن من عصير العنب من شيء ؛ فإن المدينة ليس فيها شجر عنب ، وإنما كانت خمرهم من التمر ، فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل وكسروا أوعيتها وشقوا ظروفها وكانوا يسمونها ( خمرا ) فعلم أن اسم ( الخمر ) في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب .

فروى البخاري في صحيحه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب . وفي الصحيحين ، عن أنس رضي الله عنه : إن الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر . وفي لفظ مسلم : لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر وما بالمدينة شراب إلا من تمر وبسر . وفي لفظ للبخاري : وحرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا ، وعامة خمرنا البسر والتمر . وفي الصحيحين ، عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال : إن الخمر قد حرمت . فقال أبو طلحة : يا أنس ، قم إلى هذه الجرار فأهرقها . فأهرقتها .

وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم : أن الخمر يكون من الحنطة والشعير كما يكون من العنب ، ففي الصحيحين ، عن ابن عمر ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال على منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- : أما بعد أيها

الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير . والخمر ما خامر العقل . وروى أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجه ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :إن من الحنطة خمرا ، ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ، ومن التمر خمرا ، ومن العسل خمرا زاد أبو داود : . وأنا أنهى عن كل مسكر .

وقد استفاضت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن كل مسكر خمر ، وهو حرام كما في الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البتع ، وهو نبيذ العسل ، وكان أهل اليمن يشربونه فقال : كل شراب أسكر فهو حرام ، وفي الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن : البتع ، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد ؟ والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد ؟ قال : وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه ، فقال : " كل مسكر حرام ، وفي صحيح مسلم ، عن جابر أن رجلا من جيشان - وجيشان من اليمن - سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له : المزر ، قال : أمسكر هو ؟ قال : نعم . قال : كل مسكر حرام ، إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال . قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار- أو عصارة أهل النار- كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، وفي رواية له :كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وعن ابن عمر ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام . رواه ابن ماجه ، والدارقطني وصححه ، وقد روى أهل السنن مثله من حديث جابر ، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده . والأحاديث كثيرة صحيحة في هذا الباب .

ولكن عذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم ، وسمعوا أن من الصحابة من شرب النبيذ وبلغتهم في ذلك آثار ، فظنوا أن الذي شربوه كان

مسكرا ، وإنما كان الذي تنازع فيه الصحابة هو ما نبذ في الأوعية الصلبة ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الانتباذ في الدباء -وهو القرع - وفي الحنتم -وهو ما يصنع من التراب من الفخار- ونهى عن النقير -وهو الخشب الذي ينقر- ونهى عن المزفت -وهو الظرف المزفت- وأمرهم أن ينتبذوا في الظروف الموكاة وهو أن ينقع التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو ، فيشرب حلوا قبل أن يشتد ، فهذا حلال باتفاق المسلمين . ونهاهم أن ينتبذوا هذا النبيذ الحلال في تلك الأوعية ؛ لأن الشدة تدب في الشراب شيئا فشيئا ، فيشربه المسلم وهو لا يدري أنه قد اشتد فيكون قد شرب محرما ، وأمرهم أن ينتبذوا في الظرف الذي يربطون فمه ؛ لأنه إن اشتد الشراب انشق الظرف فلا يشربون مسكرا .

والنهي عن " نبيذ الأوعية القوية " فيه أحاديث كثيرة مستفيضة ، ثم روي عنه إباحة ذلك ، كما في صحيح مسلم ، عن بريدة بن الحصيب قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : . كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم ، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا - مسكرا وفي رواية : نهيتكم عن الظروف ، وإن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه ، وكل مسكر حرام ، فمن الصحابة والتابعين من لم يثبت عنده النسخ فأخذ بالأحاديث الأول . ومنهم من اعتقد صحة النسخ فأباح الانتباذ في كل وعاء ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي . والنهي عن بعض الأوعية قول مالك . وعن أحمد روايتان .

فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر : فقال طائفة منهم : الشافعي ، والنخعي وأبي حنيفة ، وشريك وابن أبي ليلى ، وغيرهم يحل ذلك ، كما تقدم وهم في ذلك مجتهدون ، قاصدون للحق ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر .

وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة . وهذا هو الثابت عن الصحابة وعليه دل القياس الجلي ؛ فإن الله تعالى قال :

:إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فإن المفسدة التي لأجلها حرم الله سبحانه وتعالى الخمر ، هي أنها تصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء . وهذا أمر تشترك فيه جميع المسكرات ، لا فرق في ذلك بين مسكر ومسكر ، والله سبحانه وتعالى حرم القليل ؛ لأنه يدعو إلى الكثير ، وهذا موجود في جميع المسكرات . إلى أن قال :

وأما الحشيشة الملعونة المسكرة : فهي بمنزلة غيرها من المسكرات ، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء ، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرا : كالبنج ، فإن المسكر يجب فيه الحد ، وغير المسكر يجب فيه التعزير .

وأما قليل الحشيشة المسكرة فحرام عند جماهير العلماء ، كسائر القليل من المسكرات ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام يتناول ما يسكر ، ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولا ، أو مشروبا ، أو جامدا أو مائعا فلو اصطبغ الخمر كان حراما ، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراما ، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- بعث بجوامع الكلم ، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها ، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن . . إلى أن قال :

وهذه الحشيشة فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة ، حيث ظهرت دولة التتر ، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكيزخان لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو ، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم

المسكرات ، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه ، والمسكر شر منها من وجه آخر ؛ فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولا تورث التخنيث والديوثة وتفسد المزاج ، فتجعل الكبير " كالإسفنجة " وتوجب كثرة الأكل ، وتورث الجنون وكثير من الناس صار مجنونا بسبب أكلها .

ومن الناس من يقول : إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج ، وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر ، وهذا هو الداعي إلى تناولها ، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر ، ولهذا قال الفقهاء : إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر .

وتنازعوا في نجاستها على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره . فقيل : هي نجسة . وقيل : ليست بنجسة . وقيل : رطبها نجس كالخمر ويابسها ليس بنجس . والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع . كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها . فمن سكر من شرب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو ، ولا تصح صلاته حتى يعلم ما يقول ، ولا بد أن يغسل فمه ويديه ، وثيابه في هذا وهذا ، والصلاة فرض عليه لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يوما كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يوما ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال . قيل : وما طينة الخبال ؟ قال : عصارة أهل النار . أو : عرق أهل النار .

وأما قول القائل : إن هذه ما فيها آية ولا حديث : فهذا من جهله ؛ فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة . وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها ، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام ، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص ، فإن الله بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الخلق وقال : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ،

وقال : 28 وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ وقال تعالى : سورة الفرقان الآية 1 تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا وقال : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فاسم الناس والعالمين يدخل فيها العرب وغير العرب من الفرس والروم والهند والبربر . فلو قال قائل : إن محمدا ما أرسل إلى الترك والهند والبربر ؛ لأن الله لم يذكرهم في القرآن كان جاهلا ، كما لو قال : إن الله لم يرسل إلى بني تميم وبني أسد وغطفان وغير ذلك من قبائل العرب ؛ فإن الله لم يذكر هذه القبائل بأسمائها الخاصة ، وكما لو قال : إن الله لم يرسله إلى أبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم من قريش ؛ لأن الله لم يذكرهم بأسمائهم الخاصة في القرآن .

وكذلك لما قال : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ . دخل في الميسر الذي لم تعرفه العرب ولم يعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم- كاللعب بالشطرنج وغيره بالعوض ؛ فإنه حرام بإجماع المسلمين ، وهو الميسر الذي حرمه الله ، ولم يكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ، والنرد أيضا من الميسر الذي حرمه الله ، وليس في القرآن ذكر النرد والشطرنج باسم خاص ، بل لفظ الميسر يعمها وجمهور العلماء على أن النرد والشطرنج محرمان بعوض وغير عوض ، وبعد أن ذكر نظائر أخرى من النصوص يعتمد على عمومها في الاستدلال بها على إثبات الحكم لكل ما اندرج تحته من الأفراد دون حاجة إلى تعينها قال :

ولو قدر بأن اللفظ لم يتناوله ، وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار والقياس ، كما دخل اليهود والنصارى والفرس في عموم الآية ، ودخلت المسكرات في معنى خمر العنب ، وأنه بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالكتاب

والميزان ليقوم الناس بالقسط ، والكتاب القرآن ، والميزان العدل ، والقياس الصحيح هو من العدل ؛ لأنه لا يفرق بين المتماثلين بل سوى بينهما ، فاستوت السيئات في المعنى الموجب للتحريم ، لم يخص أحدها بالتحريم دون الآخر بل من العدل أن يسوي بينهما ولو لم يسو بينهما كان تناقضا ، وحكم الله ورسوله منزه عن التناقض .

ولو أن الطبيب حمى المريض عن شيء لما فيه من الضرر وأباحه له لخرج عن قانون الطب ، والشرع طب القلوب ، والأنبياء أطباء القلوب والأديان ، ولا بد إذا أحل الشرع شيئا منه أن يخص هذا بما يفرق به وبينه وبين هذا ، حتى يكون فيه معنى خاص بما حرمه دون ما أحله والله أعلم .
وسئل رحمه الله تعالى عمن يأكل الحشيشة ، ما يجب عليه ؟

فأجاب : الحمد لله ، هذه الحشيشة الصلبة حرام ، سواء سكر منها أو لم يسكر ، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين ، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل مرتدا ، لا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، وأما إن اعتقد ذلك قربة وقال : هي لقيمة الذكر والفكر ، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن ، وتنفع في الطريق ، فهو أعظم وأكبر ؛ فإن هذا من جنس دين النصارى الذين يتقربون بشرب الخمر ، ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة ، قال الله تعالى : سورة الأعراف الآية 28 وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

ومن كان يستحل ذلك جاهلا وقد سمع بعض الفقهاء يقول :

حرموها من غير عقل ونقل وحرام تحريم غير الحرام

فإنه ما يعرف الله ورسوله ، وإنها محرمة ، والسكر منها حرام بالإجماع .

وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك فإنه يكون كافرا مرتدا ، كما تقدم ، وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب ، فإن تغيب

العقل حرام بإجماع المسلمين . وأما تعاطي " البنج " الذي لم يسكر ولم يغيب العقل ففيه التعزير ، وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة وإنما يتناولها الفجار ؛ لما فيها من النشوة والطرب ، فهي تجامع الشراب والمسكر في ذلك ، والخمر توجب الحركة والخصومة ، وهذه توجب الفتور والذلة ، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل ، وفتح باب الشهوة ، وما توجده في الدياثة ، مما هي من شر الشراب المسكر ، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار " إلى أن قال في حكم أكل الغبيراء للإعانة على العبادة ، والغبيراء شراب مسكر يؤخذ من الذرة . : نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر ، هؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله ، وكفى برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم ، وأنه معصية لله ولرسوله ، ثم يقول : أنه تطيب له العبادة ، وتصلح له حاله ، ويح هذا القائل ، أيظن أن الله سبحانه وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- حرم على الخلق ما ينفعهم ، ويصلح لهم حالهم ؟ نعم قد يكون في الشيء منفعة وفيه مضرة أكثر من منفعته فيحرمه الله سبحانه وتعالى ؛ لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة .

وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل : خذ مني هذا الدرهم وأعطني دينارا ، فجهله يقول له : هو يعطيك درهما فخذه ، والعقل يقول : إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار ، وهذا ضرر لا منفعة له بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلا بد أن يكون ضرره أكثر .

فهذه " الحشيشة الملعونة " هي وآكلها ومستحلوها الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين ، المعرضة صاحبها لعقوبة الله ، إذا كانت كما يقوله الضالون من أنها تجمع الهمة ، وتدعو إلى العبادة ، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير ، ولا خير فيها ، ولكن هي تحلل الرطوبات ، فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ ، وتورث خيالات فاسدة ، فيهون على المرء ما يفعله من عبادة ،

ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس ، وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ؛ ليطيعوه فيها ، بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش ، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المال ، ولا يبارك لصاحبها فيها ، وإنما هذا نظير السكران بالخمر ، فإنها تطيش عقله حتى يسخوا بماله ، وبتشجيع على أقرانه ، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل ، وإنما أورثته عدم العقل ، ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال ، فيجود بجهله ، لا عن عقل فيه .

وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل ، وفتحت باب الخيال ، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل ودين النصارى ، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف ، فإن دينه باطل ، والباطل خفيف ، ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق مما لا تجود به في الحق ، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم ، أو يدعو المؤمن إلى فعله ؛ لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ، ولم يبال بما بذله عوضا عن ذلك ، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه ، وإنما ذلك لذة ساعة ، بمنزلة لذة الزاني حال الفعل ، ولذة شفاء الغضب حال القتل ، ولذة الخمر حال النشوة ، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلا وذنوبه محيطة به ، وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه .

وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة ، وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثا وإما مأبونا ، وإما كلاهما ، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقا كثيرا مجانين وتجعل الكبد بمنزلة الإسفنج ، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل ، ولو صحا منها فإنه لا بد أن يكون في عقله خبل ، ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم ، فكفى بالرجل شرا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها ، وقليلها وإن لم

يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر ، ثم إنها تورث من مهانة آكلها ، ودناءة نفسه ، وانفتاح شهوته ما لا يورثه الخمر ، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر ، وإن كانت في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة ، فهي بالتحريم أولى من الخمر ، ولأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر ، وضرر شارب الخمر على الناس أشد إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر ، وإنما حرم الله المحارم ؛ لأنها تضر أصحابها ، وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها ، إذ الحاسد يضره حال المحسود ، ولم يحرم الله اكتساب المعالي لدفع تضرر الحاسد ، هذا وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، وهذه مسكرة ، ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها مفاسد الخمر توجب تحريمها . اهـ .

هذا وإن مسلك شيخ الإسلام هنا لمسلك فقهي إسلامي عظيم يعطي صورة من الصور التي تؤكد أنه رجل الإسلام والشريعة ، وأنه غاص في أسرارها ووصل إلى أغوراها ، ولقد رد ردا مسهبا يرجع إلى ما أوردنا من رعاية الإسلام في تشريعه للمصالح ودرء المفاسد ، ولقد أفاض في بيان مفاسدها الفظيعة التي لا تدع مجالا لغير تحريمها ، وإنها كانت كما تقدم تتنافي مع الضروريات الخمس التي ترعاها جميع الديانات ، وقد لجأ إلى الاستدلال بالمصلحة ودرء المفسدة على تحريم المخدرات ، بعد أن استدل على تحريمها بعموم نصوص الكتاب والسنة والاعتبار ؛ لأن سائله يتذرع بخرافات يحتمي بها ، فيقول : إن نشوتها تأمر المتعاطين بالعبادة ، ولا تأمرهم بسوء ولا فاحشة فبين أن ذلك وهم ، وأن مضارها لا تعادلها أي مصلحة تتوهم فيها ، ولقد أحسن في بيان أنه ينطبق عليها قياس الأولوية على فرض أنه لا يشملها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98). كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام بعد أن بين في فتاواه المختلفة أن النص يشملها ؛ لأنها مسكرة وقياس الأولوية يعتد به الأصوليون ، ويمثلون له بقياس الضرب على التأفيف في التحريم ، واعتبار كل منهما عقوقا بالنسبة إلى

الوالدين في قوله تعالى : فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ، فلله در شيخ الإسلام ، لقد انفعل في هذه الفتوى انفعالا يقتضيه فأقنع وأروى ، ولقد أصاب في قوله فيها : إن قليلها كقليل الخمر ؛ فإنه حق لأنه قل أن يتعاطى أحد شيئا من هذه المخدرات إلا اعتاده ، والقليل يدعو إلى الكثير ، ولا بد أن ننتفع بهذه النوعية في رد قول من أباح القليل من علماء المذاهب الأخرى ، وسترى في هذا المقام انفعالا آخر للفقيه المحدث ابن حجر الهيثمي ، وبالله التوفيق . هذه الفتاوى التي أفتى بها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - صريحة واضحة في حرمة هذه المخدرات حشيشها وغير حشيشها والقليل منها والكثير ؛ لأنها كالخمر وإن كان بعضها كالأفيون والبنج طاهرا ، أو لا حد فيه وإنما فيه التعزير ، وقد جرى اعتبارها والأخذ بها ومسايرة الفقه لها منذ عهد ابن تيمية إلى يومنا هذا ، ولقد ورد في موضع من فتاواه التصريح بأن الحشيشة الملعونة كالمسكرة بمنزلة غيرها من المسكرات ، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء ، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرا مجموع الفتاوى 204 \ 34 . .

وجاء الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب ومن سلك مسلكه - رحمهم الله - فأبرزوا ذلك وأفتوا به ، وبالرجوع إلى كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، رأينا في الجزء السادس ص 452 - سؤالا موجها إلى ابنه الشيخ عبد الله بن محمد - رحمهما الله - عن التنابك الذي عمت البلوى به ، فأجاب إجابة طويلة يقول فيها بعد الديباجة : إذا تقرر هذا فاعلم أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان ؛ أحدهما : ما كان فيه لذة وطرب . قال العلماء : وسواء كان المسكر جامدا أو مانعا وسواء كان مطعوما أو مشروبا ، وسواء كان من حب أو تمر أو لبن أو غير ذلك ، وأدخلوا في ذلك

الحشيشة التي تعمل من ورق ( القنب) في المطبوعة ( العنب ) بدل ( القنب ) وهو خطأ مطبعي واضح . وغيره مما يؤكل لأجل لذته وسكره .

الثاني : ما يزيل العقل ويسكره ولا لذة فيه ولا طرب كالبنج ونحوه ، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره ، يرون حد شارب ما يسكر كثيرا وإن اعتقد حله متأولا ، وهو قول الشافعي وأحمد ، ثم قال : وبهذا تبين لك تحريم ( التتن ) الدخان الذي كثر في هذا الزمان استعماله وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات خصوصا إذا أكثر منه ، وتركه يوما أو يومين فإنه يسكر ويزيل العقل حتى أن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك .

وسئل أيضا - رحمه الله- ما حكم التنباك الذي اختلفت آراء العلماء فيه ، منهم من أفتى بحله ، ومنهم من أفتى بحرمته بقيد وتعليق ، ومنهم من أفتى بتحريمه مطلقا ، ولما أفتيتم فيه بأنه من المسكرات اعتمدنا على قولكم ، فكان في إجابته :

والذي يشرب التنباك إن كان شربه له بعد ما عرف أنه حرام فيضرب ثمانين جلدة ضربا خفيفا ما يضره ، فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه ، ويؤمر بالندم والاستغفار " .

ومما يدخل في الفقه الحنبلي تلك الفتوى التي كتبها المرحوم الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة العربية السعودية جوابا عن استفتاء ورد إليه بشأن النبات الذي يسمى " القات " وقد شاع أمره بين أهل اليمن حتى شغل كثيرا منهم عن جل شئونهم ومهمات أمورهم . يقول الشيخ- رحمه الله- الفتوى مطبوعة في رسالة وهي بمكتبة الرياض برقم 80 \ 25 . : هذه المسألة حادثة الوقوع ، والحكم عليها يتوقف على معرفة خواص هذه الشجرة وما فيها من المنافع والمضار ، وأيهما أغلب ، وقد تتبعنا ما أمكن

العثور عليه من كلام العلماء فظهر بعد البحث وسؤال من يعتد بقولهم من الثقات أن المتعين فيها المنع من تعاطي زراعتها وتوريدها واستعمالها ؛ لما اشتملت عليه من المفاسد والمضار في العقول والأديان والأبدان ، ولما فيها من إضاعة المال وافتنان الناس بها ، ولما اشتملت عليه من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو شر ووسيلة لهذه الشروط ، والوسائل لها أحكام الغايات ، وقد ثبت ضرها وتفتيرها وتخديرها بل وإذكارها ولا التفات لمن نفى ذلك ثم قال : إنها مقيسة على الحشيشة المحرمة لاجتماعهما في كثير من الصفات ، ثم استدل على ما قال بالآتي :

1 - قول الله عز وجل :: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ثم قال : فنصوص الكتاب والسنة كفيلة ببيان ما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم ، ومن حكمة الله سبحانه أنه أحل الطيبات وكل ما فيه منفعة خالصة أو راجحة وحرم الخبائث ، وكل ما فيه مفسدة خالصة أو راجحة ، ثم أورد الآية الكريمة : سورة البقرة الآية 219 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وقال : إن الله حرم الخمر والميسر مع ما فيهما من المصالح للناس ، وذلك لما اشتملا عليه من الإثم الكبير الذي تربو مفسدته على ما فيهما من المنافع . ثم استدل بحديث أحمد وأبي داود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل مسكر ومفتر .

وقد قال العلماء أن المفتر ما يترك الفتور في البدن والخدر في الأطراف ، وهذا القات لو فرضنا فيه بعض النفع فإن ما فيه من المضار والمفاسد المحققة يربو ويزيد على ما فيه من المنافع أضعافا مضاعفة ، ولهذا حكم بتحريمه جملة من العلماء ، واستدلوا بما ظهر لهم منه ، ومن هؤلاء الشيخ ابن حجر الهيثمي ، وقاسه على الحشيشة وجوزة الطيب ، وعد استعمال ذلك من كبائر الذنوب .

ثم قال : إن ابن حجر ألف كتابا سماه ( تحذير الثقات من استعمال الكفته والقات ) ، وذكر فيه أن ممن قالوا بتحريم القات الفقيه أبو بكر بن إبراهيم

المقري الشافعي في مؤلفه في تحريم القات ، وذكر من مضارها أن آكلها يرتاح ويطرب ، وتطيب نفسه ويذهب حزنه ، ثم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة ، وغموم متزاحمة وسوء أخلاق ، وذكر الشيخ المقري أنه جرب ذلك في نفسه أيام شبابه وكان يعتقد أولا حلها ، وذكر المقري من مضار هذه الشجرة أنها تذهب بشهوة الطعام ، وتطرد النوم ونعمته ، وأنه يخرج من أكلها شيء بعد البول كالودي ولا ينقطع إلا بعد حين ، وإنه طالما كان يتوضأ يحس بشيء منه فيعيد الوضوء وهكذا ، وتارة كان يحس به في الصلاة فيعيدها بعد إعادة الوضوء ، وإنه سأل كثيرا ممن كان يأكلها فقرروا ذلك ، ثم نقل عن العلامة يونس المقري أنه كان يقول : ظهر القات في زمن قوم لا يجسرون على تحريم ولا تحليل ، ولو ظهر في زمن الفقهاء المتقدمين لحرموه . . اهـ - بتصرف .

12d8c7a34f47c2e9d3==