المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سبب كفر بني آدم هو الغلو في الصالحين


كيف حالك ؟

البلوشي
07-07-2008, 10:22 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

سبب كفر بني آدم هو الغلو في الصالحين

قال شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتابه العظيم التوحيد باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) .
وفي (الصحيح) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت).
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) [أخرجاه].
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً.

قال الشيخ العلامة الإمام عبدالرحمن السعدي رحمه الله

والغلو هو مجاوزة الحد بأن يجعل للصالحين من حقوق الله الخاصة به شيء , فإن حق الله الذي لا يشاركه فيه مشارك هو الكمال المطلق , والغنى المطلق , والتصرف المطلق من جميع الوجوه , وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه , فمن غلا بأحد من المخلوقين حتى جعل له نصيبا من هذه الأشياء فقد ساوى به رب العالمين وذلك أعظم الشرك , ومن رفع أحدا من الصالحين فوق منزلته التي أنزله الله بها فقد غلا فيه وذلك وسيلة إلى الشرك وترك الدين .
والناس في معاملة الصالحين ثلاثة أقسام : أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة لهم والتوقير والتبجيل , وأهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها , وأهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية ولكنهم يبرأون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم , والصالحون أيضا يتبرأون من أن يدعوا لأنفسهم حقا من حقوق ربهم الخاصة , كما قال الله عن عيسى صلى الله عليه وسلم :
( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) واعلم أن الحقوق ثلاثة : حق خاص لله لا يشاركه فيه مشارك وهو التأله له وعبادته وحده لا شريك له , والرغبة والإنابة إليه وحده حبا وخوفا ورجاء , وحق خاص للرسل وهو توقيرهم وتبجيلهم والقيام بحقوقهم الخاصة : وحق مشترك وهو الإيمان بالله ورسله , وطاعة الله ورسله , ومحبة الله , ومحبة رسله : ولكن هذه لله أصلا وللرسل تبعا لحق الله , فأهل الحق يعرفون الفرقان بين هذه الحقوق الثلاثة فيقومون بعبودية الله وإخلاص الدين له ويقومون بحق رسله وأوليائه على اختلاف منازلهم ومراتبهم والله أعلم .

قال الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله

فهذه الآثار مع الآية الكريمة تدل على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: تحريم الغلو في الصالحين؛ بمعنى ما ذكرناه في الغلو، وأنه يئول إلى الشرك، فإن غلو قوم نوح في الصالحين آل بهم إلى الشرك- والعياذ بالله- فهذا شاهد للترجمة: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " وهذا ظاهر، فإن ما وقع في قوم نوح كان سببه الغلو في الصالحين .
وفيه رد على عباد القبور اليوم، الذين يقولون: البناء على القبور من باب المحبة للصالحين، وكوننا نستغيث بهم، ونستشفع بهم، ونذبح لهم، وننذر لهم، ونتبرك بتربتهم، هذا ليس من الشرك، هذا من باب محبة الصالحين، ويقولون: للذين ينكرون هذا أنتم تبغضون الصالحين . هكذا فسروا المحبة والبغض، بأن المحبة: عبادتهم، والبغض: ترك عبادتهم، هذا من انتكاس الفطر، والعياذ بالله .
فالآية والأثر يردان عليهم، لأن هذا ليس من محبة الصالحين، وإنما هو من الغلو فيهم الذي يئول إلى الشرك، والعياذ بالله .
المسألة الثانية: في هذه الآثار دليل على أن الغلو في الصالحين من سنة اليهود والنصارى، قال الله تعالى: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فالغلو في الصالحين من سنة اليهود والنصارى، وليس من سنة المسلمين، فهؤلاء القبوريون سلفهم اليهود والنصارى، وبئس السلف .
المسألة الثالثة: فيه التحذير من التصوير، ونشر الصور لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، فأول شرك حدث في الأرض هو بسبب الصور المنصوبة، وهذه إحدى علتي تحريم التصوير؛ لأن التصوير ممنوع لعلتين:
العلة الأولى: أنه وسيلة إلى الشرك .
العلة الثانية: أن فيه مضاهاة لخلق الله عز وجل .
وقد قال تعالى كما في الحديث القدسي: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة فالمصور يحاول أن يضاهي خلق الله تعالى بإيجاد الصورة، فلذلك يجعل لها أعضاء، ويجعل لها عينين، ويجعل لها أنفا، ويجعل لها شفتين، ويجعل لها وجها، ويجعل لها يدين، ويجعل لها رجلين، يضاهي خلق الله، إلا أنه لا يقدر على نفخ الروح فيها، ويجعل الصورة على شكل ضاحكة، أو على شكل باكية، أو شكل مقطبة الجبين، أو مسرورة، كل هذا مضاهاة لخلق الله، وإن كانوا يسمون هذا من باب الفنون، وهي فنون شيطانية، والجنون فنون، فتسميته من باب الفنون لا يسوغ عمله، والتصوير ملعون من فعله، ففيه: التحذير من التصوير ونصب الصور؛ لأن ذلك يئول إلى الشرك بالله -عز وجل- وهذا أعظم العلتين في النهي عن التصوير ونصب الصور، لا سيما صور المعظمين من الملوك والرؤساء ومن الصالحين والمشايخ إذا نصبت، فإن هذا يئول إلى عبادتها، ولو على المدى البعيد؛ لأن الشيطان حاضر ويستغل الجهل والعواطف .
المسألة الرابعة: في الآية والآثار دليل على تحريم البدع في الدين وأنها تئول إلى الشرك؛ ولذلك قال العلماء: البدعة توصل إلى الشرك ولو على المدى البعيد، وهذه بدعة قوم نوح وصلت إلى الشرك، وهذا شيء واضح .
المسألة الخامسة : فيه دليل على أن حسن النية لا يسوغ العمل غير المشروع لأن قوم نوح نيتهم حسنة، عندما صوروا الصور يريدون النشاط على العبادة، وتذكر أحوال هؤلاء الصالحين، ولا قصدوا الشرك أبدا، وإنما قصدوا مقصدا حسنا، لكن لما كان هذا الأمر بدعة صار محرما لأنه يفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد، فالنية الحسنة لا تسوغ العمل غير المشروع .
المسألة السادسة: وهي عظيمة جدا: فيه بيان فضيلة وجود العلم والعلماء في الناس ومضرة فقدهم؛ لأن الشيطان ما تجرأ على الدعوة إلى الشرك مع وجود العلم ووجود العلماء، إنما تجرأ لما فقد العلم ومات العلماء، فهذا دليل على أن وجود العلم ووجود العلماء فيه خير كثير للأمة، وأن فقدهم فيه شر كثير .
المسألة السابعة: فيه التحذير من مكر الشيطان وأنه يظهر الأشياء القبيحة بمظهر الأشياء الطيبة حتى يغرر بالناس، هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى أنه يتدرج بالناس شيئا فشيئا؛ لأنه تدرج بقوم نوح من تذكر العبادة والنشاط والمقصد الحسن، تدرج بهم إلى المقصد السيئ والشرك بالله -عز وجل- وليس هذا مقصورا على شيطان الجن، بل وشيطان الإنس كذلك، يعمل هذا العمل، فدعاة السوء ودعاة الضلال- أيضا- يمكرون بالأمة الإسلامية مثلما يمكر الشيطان: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا .
المسألة الثامنة: فيه دليل على تحريم الغلو في قبور الصالحين فقول ابن القيم : "لما ماتوا عكفوا على قبورهم" فيه: التحذير من الغلو في قبور الصالحين، وذلك بالعكوف عندها، أو البناء عليها، أو غير ذلك من أي مظاهر الغلو، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من البناء على القبور، وحذر -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة عند القبور ، والدعاء عند القبور ؛ لأن 8 ذلك وسيلة إلى الشرك، وحذر -صلى الله عليه وسلم- من إسراج القبور فقال: لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج لأن هذا يغر العوام، ويقولون: ما عمل به هذا العمل إلا لأنه يضر أو ينفع؛ ولذلك أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-
قال: لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته المشرف: هو المرتفع بالبناء، "إلا سويته" يعني: هدمت البناء الذي عليه، وكذلك نهى -صلى الله عليه وسلم- عن تجصيص القبور، وطلائها بالجص، أو بالنورة، أو بالبويات أو الألوان المزخرفة؛ لأن هذا يغر العوام، ويظنون أنه ما عمل به هذا العمل إلا لأن له خاصية، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن الكتابة على القبور فلا يكتب على القبور اسم الميت، ولا تاريخ وفاته، ولا مكانته، فلا يقال: هذا قبر العالم الفلاني الذي عمل كذا وكذا، كل هذا لا يجوز؛ لأن هذا يغرر بالناس فيما بعد، ويقولون: ما كتبت هذه الكتابة إلا لأن هذا الميت له خاصية، كل هذه الأمور نهى عنها الشارع؛ لأنها وسائل إلى الشرك .
والمشروع في القبور أن تدفن كما كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- تدفن بترابها، وترفع عن الأرض قدر شبر بالتراب من أجل أن تعرف أنها قبور فلا تداس، ويجعل عليها نصائب من طرفيها لتحديد القبر، لأجل أن لا يوطأ، وما زاد عن ذلك فهو ممنوع . هكذا كانت القبور في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دفن الأموات .
المسألة التاسعة: فيه أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وهذه قاعدة مشهورة؛ لأن عمل قوم نوح فيه مصلحة جزئية وهي: تذكر حالة الصالحين، لكن المفسدة أكبر من هذا، وهو أن ذلك يئول إلى الشرك، والعياذ بالله .

البلوشي
07-14-2008, 06:20 PM
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

وقول الله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) .
وفي (الصحيح) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت).
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) [أخرجاه].
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً.
قال الشيخ -رحمه الله- " باب ما جاء " يعني: ما ورد من الأدلة من أن " سبب كفر بني آدم " السبب في اللغة : ما يتوصل به إلى الشيء؛ ولذلك سمي الحبل سببا، قال تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ يعني: فليمدد بحبل إلى السماء . أما السبب عند الأصوليين فهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته .
" كفر بني آدم " يعني: كفرهم بالله عز وجل . " وتركهم " بالجر عطفا على كفر المضاف إليه؛ لأن المعطوف على المجرور مجرور . " دينهم " دينهم منصوب على المفعولية؛ لأن المصدر إذا أضيف أو دخلت عليه "أل" فإنه يعمل عمل فعله .
" هو الغلو في الصالحين " الغلو في اللغة : هو الزيادة عن الحد، يقال: غلى القدر إذا زاد، ومنه يقال: غلى السعر؛ إذا زاد في الأسواق، فالغلو في اللغة: هو الزيادة عن الحد أما في الشرع: هو الزيادة عن الحد المشروع، يسمى غلوا، ويسمى طغيانا . والغلو في الصالحين هو الزيادة في مدحهم، ورفعهم فوق مكانتهم، بأن يجعل لهم شيء من العبادة .
قال: " وقول الله": قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ المراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، سموا بأهل الكتاب؛ لأن الله -سبحانه- أنزل على أنبيائهم الكتب . اليهود أنزل الله على نبيهم موسى -عليه السلام- التوراة، والنصارى أنزل الله على نبيهم عيسى -عليه الصلاة والسلام- الإنجيل، فلذلك سموا أهل الكتاب فرقا بينهم وبين الأميين والوثنيين الذين لا كتاب لهم .
وهذا فيه تنبيه على أن المطلوب منهم أن يتقيدوا بالكتاب الذي أنزل عليهم، وعدم مجاوزته، وهو تنبيه لكل عالم بأن يلتزم الاعتدال لَا تَغْلُوا هذا نهي من الله تعالى لهم عن الغلو؛ لأن الغلو إما أن يكون في شخص، أو يكون في دين والغلو في الشخص هو: المبالغة في مدحه، ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها وأما الغلو في الدين فهو: الزيادة عن الحد المشروع في العبادات، في مقاديرها، أو في كيفيتها، كما في قصة الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، ولكنهم قالوا: أين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، قال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء، يعني: يتبتل، وفي رواية: لا آكل اللحم (من باب التقشف وحرمان النفس) . هذا غلو أيضا، فلما بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأرجو أن أكون أعرفكم بالله -عز وجل- وأخشاكم لله، وإني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني هذا غلو نهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمر بالتوسط وعدم الغلو ولما لقطت له -عليه الصلاة والسلام- حصى الجمار أمثال حصى الخذف - يعني: أكبر من الحمص بقليل- أخذها -صلى الله عليه وسلم- في كفه وقال: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو واليهود والنصارى غلوا في أنبيائهم، وغلوا في دينهم- أيضا- غلوا في أنبيائهم حيث قالت النصارى للمسيح: ابن الله، فرفعوه فوق منزلة البشرية إلى منزلة الربوبية، ويسمونه الرب، وأما اليهود فقد غلوا في عزير، قالوا: هو ابن الله وكذلك النصارى غلوا في دينهم فابتدعوا الرهبانية، وهي: التبتل والتعبد، ولزوم الصوامع، وعدم الخروج منها، رهبانية ابتدعوها، كما قال الله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ هذا من الغلو في الدين، قال تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وفي الآية الأخرى في سورة النساء يقول: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا فكذلك الذين غلوا في الصالحين من هذه الأمة حتى عبدوهم مع الله -سبحانه وتعالى- وجعلوا لهم شيئا من الربوبية والألوهية سواء بسواء .
قال: "في الصحيح " يعني: صحيح البخاري .
"عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول الله تعالى" يعني: في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح . . إلخ" .
قوم نوح لما نهاهم نبي الله نوح -عليه الصلاة والسلام- عن الشرك، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ تواصوا فيما بينهم بهذه الوصية الكافرة:

وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ يعني: لا تطيعوا نوحا -عليه السلام- لا تتركوا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله .

وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا هذه أسماء رجال صالحين، وكان هذا في الأول؛ لأن الناس كانوا بعد آدم -عليه السلام- على دين التوحيد- كما قال ابن عباس - كانوا على دين التوحيد دين أبيهم آدم -عليه الصلاة والسلام- عشرة قرون- وكان هؤلاء الصالحون في هذا العهد- عهد التوحيد- فلما ماتوا - ويروى: أنهم ماتوا في سنة واحدة- حزنوا عليهم حزنا شديدا، وبكوا عليهم، فاستغل الشيطان -لعنه الله- هذه العاطفة فيهم، وأشار عليهم بمشورة ظاهرها النصح، وباطنها الخديعة والمكر، أشار عليهم بأن يصوروا تماثيلهم؛ يعني: يجعلوا لهم صورا على شكل تماثيل، كل واحد له صورة، وأن ينصبوا هذه التماثيل على مجالسهم؛ من أجل أن ينشطوا على العبادة، إذا رأوهم تذكروا حالتهم فنشطوا على العبادة، فهو جاءهم من باب النصح، وأشار عليهم بمشورة ظاهرها الخير، وأن هذه وسيلة للنشاط على العبادة والتقوى والصلاح، والاقتداء بهؤلاء، إذا رأوا صورهم تذكروا صلاحهم وحالتهم فاقتدوا بهم، هذا ظاهر نصيحته، ولكنه في الباطن يمكر بهم؛ لأنه يرمي إلى مرمى بعيد- لعنه الله- ينظر إلى العواقب، إلى الأجيال القادمة، يؤسس هذا الأساس للأجيال القادمة، وإلا فإنه يعرف أن هؤلاء- ما دام العلم موجودا، وما دام أنهم على التوحيد- لن يتركوا عبادة الله -عز وجل- فقبلوا هذه المشورة لأن ظاهرها أنها خير، وابتدعوا هذه البدعة .

وهذا دليل على أن البدع لا تجوز وإن كان ظاهرها الخير وإن كانت نية أصحابها الخير .

ابتدعوا هذه البدعة، وصوروا هذه التماثيل على مجالس هؤلاء الصالحين، ولم تعبد في هذا الجيل؛ لأنهم على علم وعلى دين، لكن لما مات هذا الجيل، ونسي العلم -وفي رواية: نسخ العلم بموت العلماء- لأن الشيطان لا يتسلط- في الغالب- مع وجود العلماء؛ لأن العلماء يكافحونه ويردون كيده، إنما يتسلط عند عدم العلماء .

"حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم" يعني: بموت العلماء الذي يحذرون من الشرك، "عبدت" هذه الصور؛ لأن الشيطان قال لهم: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا من أجل أن يتقربوا إليها، ويسقون بها المطر، فصدقوه في هذا .

ومقالته لهذا الجيل المتأخر تخالف مقالته للجيل السابق، هذا من باب المكر، فصدقوه في هذا فعبدوهم، ومن حينها حدث الشرك في الأرض، وغير دين آدم -عليه الصلاة والسلام- فبعث الله نبيه نوحا -عليه السلام- أول الرسل .

وهذا أول شرك حدث في الأرض، وسببه هو الغلو في الصالحين ثم بعث الله نبيه نوحا -عليه السلام- ينهى عن ذلك، ويريد ردهم إلى التوحيد، ولكن لم يؤمن معه إلا القليل كما قال الله -سبحانه وتعالى- وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ كما قال كفار قريش لما نهاهم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الشرك: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ لا تطيعوا محمدا فدين المشركين واحد من قديم الزمان وحديثه .

"قال ابن القيم " ابن القيم هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ، الإمام الجليل، الحافظ، صاحب المصنفات المشهورة في التوحيد والأصول والفقه ومختلف العلوم، وهو أكبر تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله- علما وقدرا .

قال: "لما ماتوا" يعني: لما مات هؤلاء الصالحون، وهذا تفسير وتوضيح لما قاله ابن عباس رضي الله عنه .

"عكفوا على قبورهم" العكوف هو: طول البقاء في المكان، ومنه: الاعتكاف في المساجد، كما عرفه الفقهاء بأنه: لزوم مسجد لطاعة الله .

"ثم صوروا تماثيلهم" هذه خطوة ثانية .

"ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" هذه خطوة ثالثة .

فهذه الآثار مع الآية الكريمة تدل على مسائل عظيمة:

المسألة الأولى: تحريم الغلو في الصالحين؛ بمعنى ما ذكرناه في الغلو، وأنه يئول إلى الشرك، فإن غلو قوم نوح في الصالحين آل بهم إلى الشرك- والعياذ بالله- فهذا شاهد للترجمة: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " وهذا ظاهر، فإن ما وقع في قوم نوح كان سببه الغلو في الصالحين .

وفيه رد على عباد القبور اليوم، الذين يقولون: البناء على القبور من باب المحبة للصالحين، وكوننا نستغيث بهم، ونستشفع بهم، ونذبح لهم، وننذر لهم، ونتبرك بتربتهم، هذا ليس من الشرك، هذا من باب محبة الصالحين، ويقولون: للذين ينكرون هذا أنتم تبغضون الصالحين . هكذا فسروا المحبة والبغض، بأن المحبة: عبادتهم، والبغض: ترك عبادتهم، هذا من انتكاس الفطر، والعياذ بالله .

فالآية والأثر يردان عليهم، لأن هذا ليس من محبة الصالحين، وإنما هو من الغلو فيهم الذي يئول إلى الشرك، والعياذ بالله .

المسألة الثانية: في هذه الآثار دليل على أن الغلو في الصالحين من سنة اليهود والنصارى، قال الله تعالى: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فالغلو في الصالحين من سنة اليهود والنصارى، وليس من سنة المسلمين، فهؤلاء القبوريون سلفهم اليهود والنصارى، وبئس السلف .

المسألة الثالثة: فيه التحذير من التصوير، ونشر الصور لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، فأول شرك حدث في الأرض هو بسبب الصور المنصوبة، وهذه إحدى علتي تحريم التصوير؛ لأن التصوير ممنوع لعلتين:

العلة الأولى: أنه وسيلة إلى الشرك .

العلة الثانية: أن فيه مضاهاة لخلق الله عز وجل .

وقد قال تعالى كما في الحديث القدسي: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة فالمصور يحاول أن يضاهي خلق الله تعالى بإيجاد الصورة، فلذلك يجعل لها أعضاء، ويجعل لها عينين، ويجعل لها أنفا، ويجعل لها شفتين، ويجعل لها وجها، ويجعل لها يدين، ويجعل لها رجلين، يضاهي خلق الله، إلا أنه لا يقدر على نفخ الروح فيها، ويجعل الصورة على شكل ضاحكة، أو على شكل باكية، أو شكل مقطبة الجبين، أو مسرورة، كل هذا مضاهاة لخلق الله، وإن كانوا يسمون هذا من باب الفنون، وهي فنون شيطانية، والجنون فنون، فتسميته من باب الفنون لا يسوغ عمله، والتصوير ملعون من فعله، ففيه: التحذير من التصوير ونصب الصور؛ لأن ذلك يئول إلى الشرك بالله -عز وجل- وهذا أعظم العلتين في النهي عن التصوير ونصب الصور، لا سيما صور المعظمين من الملوك والرؤساء ومن الصالحين والمشايخ إذا نصبت، فإن هذا يئول إلى عبادتها، ولو على المدى البعيد؛ لأن الشيطان حاضر ويستغل الجهل والعواطف .

المسألة الرابعة: في الآية والآثار دليل على تحريم البدع في الدين وأنها تئول إلى الشرك؛ ولذلك قال العلماء: البدعة توصل إلى الشرك ولو على المدى البعيد، وهذه بدعة قوم نوح وصلت إلى الشرك، وهذا شيء واضح .

المسألة الخامسة : فيه دليل على أن حسن النية لا يسوغ العمل غير المشروع لأن قوم نوح نيتهم حسنة، عندما صوروا الصور يريدون النشاط على العبادة، وتذكر أحوال هؤلاء الصالحين، ولا قصدوا الشرك أبدا، وإنما قصدوا مقصدا حسنا، لكن لما كان هذا الأمر بدعة صار محرما لأنه يفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد، فالنية الحسنة لا تسوغ العمل غير المشروع .

المسألة السادسة: وهي عظيمة جدا: فيه بيان فضيلة وجود العلم والعلماء في الناس ومضرة فقدهم؛ لأن الشيطان ما تجرأ على الدعوة إلى الشرك مع وجود العلم ووجود العلماء، إنما تجرأ لما فقد العلم ومات العلماء، فهذا دليل على أن وجود العلم ووجود العلماء فيه خير كثير للأمة، وأن فقدهم فيه شر كثير .

المسألة السابعة: فيه التحذير من مكر الشيطان وأنه يظهر الأشياء القبيحة بمظهر الأشياء الطيبة حتى يغرر بالناس، هذا من ناحية .

ومن ناحية أخرى أنه يتدرج بالناس شيئا فشيئا؛ لأنه تدرج بقوم نوح من تذكر العبادة والنشاط والمقصد الحسن، تدرج بهم إلى المقصد السيئ والشرك بالله -عز وجل- وليس هذا مقصورا على شيطان الجن، بل وشيطان الإنس كذلك، يعمل هذا العمل، فدعاة السوء ودعاة الضلال- أيضا- يمكرون بالأمة الإسلامية مثلما يمكر الشيطان: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا .

المسألة الثامنة: فيه دليل على تحريم الغلو في قبور الصالحين فقول ابن القيم : "لما ماتوا عكفوا على قبورهم" فيه: التحذير من الغلو في قبور الصالحين، وذلك بالعكوف عندها، أو البناء عليها، أو غير ذلك من أي مظاهر الغلو، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من البناء على القبور، وحذر -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة عند القبور ، والدعاء عند القبور ؛ لأن 8 ذلك وسيلة إلى الشرك، وحذر -صلى الله عليه وسلم- من إسراج القبور فقال: لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج لأن هذا يغر العوام، ويقولون: ما عمل به هذا العمل إلا لأنه يضر أو ينفع؛ ولذلك أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-

قال: لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته المشرف: هو المرتفع بالبناء، "إلا سويته" يعني: هدمت البناء الذي عليه، وكذلك نهى -صلى الله عليه وسلم- عن تجصيص القبور، وطلائها بالجص، أو بالنورة، أو بالبويات أو الألوان المزخرفة؛ لأن هذا يغر العوام، ويظنون أنه ما عمل به هذا العمل إلا لأن له خاصية، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن الكتابة على القبور فلا يكتب على القبور اسم الميت، ولا تاريخ وفاته، ولا مكانته، فلا يقال: هذا قبر العالم الفلاني الذي عمل كذا وكذا، كل هذا لا يجوز؛ لأن هذا يغرر بالناس فيما بعد، ويقولون: ما كتبت هذه الكتابة إلا لأن هذا الميت له خاصية، كل هذه الأمور نهى عنها الشارع؛ لأنها وسائل إلى الشرك .

والمشروع في القبور أن تدفن كما كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- تدفن بترابها، وترفع عن الأرض قدر شبر بالتراب من أجل أن تعرف أنها قبور فلا تداس، ويجعل عليها نصائب من طرفيها لتحديد القبر، لأجل أن لا يوطأ، وما زاد عن ذلك فهو ممنوع . هكذا كانت القبور في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دفن الأموات .

المسألة التاسعة: فيه أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وهذه قاعدة مشهورة؛ لأن عمل قوم نوح فيه مصلحة جزئية وهي: تذكر حالة الصالحين، لكن المفسدة أكبر من هذا، وهو أن ذلك يئول إلى الشرك، والعياذ بالله .
قوله: "وعن عمر " المراد به: عمر بن الخطاب بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي ثاني الخلفاء الراشدين، وأفضل هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق ، رضي الله تعالى عن الجميع .

فهو عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام والمسلمين، وفتح الله على يديه الفتوحات في المشرق والمغرب، حتى اتسعت رقعة الإسلام في الأرض، وله من الفضائل الشيء الكثير، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن جميع صحابة رسول الله والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .

"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تطروني " ، هذا نهي منه -صلى الله عليه وسلم- عن الإطراء في حقه، والإطراء هو: زيادة المدح والمبالغة فيه، كما هي عادة بعض المداحين من الشعراء وغيرهم ، وهذه صفة ذميمة، فإن كثرة المدح والزيادة في ذلك منهي عنها في حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي حق غيره، ولكن في حق الرسول أعظم؛ لأن ذلك يؤدي إلى الشرك والكفر ، فإن الغلو في مدح الأنبياء يؤدي إلى الشرك، كما حصل للنصارى واليهود حينما غلوا في الأنبياء .

فمعنى قوله: " لا تطروني " يعني: لا تزيدوا في مدحي .

كما أطرت النصارى ابن مريم النصارى المراد بهم: أتباع عيسى -عليه السلام- قيل: سموا نصارى نسبة إلى البلد: الناصرة في فلسطين أو من قوله تعالى: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وهم أهل ملة من الملل الكتابية، ويسمون بالنصارى، أما أن يسموا بالمسيحيين- كما عليه الناس الآن- فهذا غلط؛ لأنه لا يقال: المسيحيون إلا لمن اتبع المسيح -عليه السلام- أما الذي لم يتبعه فإنه ليس مسيحيا، وإنما هو نصراني، فاسمهم في الكتاب والسنة: النصارى .

كما أن اليهود نفروا من الاسم الخاص بهم في الكتاب والسنة وهو اليهود فسموا أنفسهم إسرائيل ، وإسرائيل هو نبي الله يعقوب -عليه الصلاة والسلام- فليسوا هم إسرائيل ، وإنهم هم اليهود . هذا هو اللفظ الموضوع لهم الذي ربطت به اللعنة والغضب من الله جمعه بسبب كفرهم بالله وعنادهم وتعنتهم، فهم اليهود .

نعم، يقال: بنو إسرائيل - كما سماهم الله بذلك-؛ لأنهم من ذرية يعقوب -عليه السلام- في الغالب، وفيهم أناس يهود ليسوا من ذرية إسرائيل ، لكن الغالب عليهم أنهم من بني إسرائيل

وعلى كل حال لا يجوز أن يقال: إسرائيل ، وإنما يقال: اليهود، أو يقال: بنو إسرائيل

"كما أطرت النصارى" أي: كما غلت النصارى في مدح المسيح عليه السلام .

"ابن مريم " ينسب إلى أمه -عليه السلام- لأنه ليس له أب؛ لأن الله خلقه من أم بلا أب بقوله: (كن)، فهو تكون بالكلمة من قوله: (كن)؛ ولذلك يقال: (كلمة الله)؛ لأنه تكون بها من غير أب، فتكون بأمر الله -سبحانه وتعالى- حين قال له: (كن) فكان بأمر الله، هذا سبب تسميته كلمة الله، "والله قادر على كل شيء، فالله خلق آدم من غير أب ولا أم، خلقه من تراب بشرا سويا، وخلق حواء من غير أم، خلقها من آدم : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وخلق عيسى من أم بلا أب، وخلق سائر البشر من أم وأب؛ ولهذا يقول الله -جل وعلا- إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ فإذا كنتم تعجبون من خلق عيسى من أم بلا أب، فآدم -عليه السلام- أولى بالعجب؛ لأن الله خلقه من تراب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلا غرابة في قدرة الله -عز وجل - فالله قادر على كل شيء، لا تتحكم فيه الأسباب، وإنما هو -سبحانه- يتحكم في الأسباب والمخلوقات: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ -سبحانه وتعالى- ولا حجر على قدرته سبحانه وتعالى .

وكيف أطرت النصارى ابن مريم ؟ قالوا: إنه ابن الله، أو هو الله، أو ثالث ثلاثة، ولا يزالون على هذه المقالة إلى الآن في إذاعتهم وفي كتاباتهم .

فسبب وقوعهم في هذا الكفر هو الغلو- والعياذ بالله-؛ لأنهم لم يرتضوا أن يصفوا عيسى بأنه عبد الله ورسوله، وإنما زادوا وقالوا: إنه ابن الله جاء ليخلص الناس من الخطيئة، وقتل وصلب من أجل أن يخلص الناس من الخطيئة، ثم بعد قتله وصلبه قام وصعد إلى السماء .

وهذا كذب محض، كذبه الله ورده بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ فالذي قتل وصلب هو شخص غير المسيح ، ألقى الله شبه المسيح عليه، فقتل وصلب؛ لأنه خان ودل الكفرة على مكان المسيح ، أما المسيح فإنه رفعه الله إليه؛ ولهذا لم يجزموا أن الذي قتلوه هو المسيح: قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ فالحاصل؛ أن هذا هو غلو النصارى، أنهم مدحوا المسيح ورفعوه فوق منزلته حتى عبدوه من دون الله، وادعوا فيه الربوبية بسبب الغلو، وعيسى -عليه السلام- يقول: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وفي يوم القيامة يتبرأ من هؤلاء: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فالعبادة حق الله ليست حقا لمخلوق مَا يَكُونُ لِي ما ينبغي ولا يليق ولا يصح أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ لأن العبادة حق لله به، ثم رد ذلك إلى الله إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ والله يعلم سبحانه وتعالى أن عيسى لم يقل هذه المقالة، وإنما هذا من باب التوبيخ لهؤلاء، ثم قال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ .

هذا تصديق للمسيح -عليه السلام- على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، حينما يجتمع الأولون والآخرون يوم القيامة، فهذا مآلهم- والعياذ بالله- وهذا موقف المسيح -عليه الصلاة والسلام- في الدنيا والآخرة أنه عبد الله ورسوله، ليس له من الربوبية شيء، ولا يستحق من العبادة شيئا، وإنما العبادة حق لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك، وإذا كان المسيح ليس له حق في العبادة، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ليس له حق في العبادة، وجميع الرسل، فكيف بغيرهم من الأولياء والصالحين .

ففي هذا الحديث دليل على ما ساقه المصنف من أجله، وهو أن الغلو في الصالحين يسبب كفر بني آدم وتركهم دينهم .

وفي هذا شفقته -صلى الله عليه وسلم- بأمته، حيث حذرهم مما وقعت فيه النصارى .

وفيه: النهي عن التشبه بالكفار

ثم قال -صلى الله عليه وسلم- إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله "إنما" هذه كلمة حصر، أي: إن شأني ومكانتي أنني عبد الله -سبحانه وتعالى- ليس لي من الربوبية شيء، والعبد لا يغلى فيه ويطرى، ويرفع فوق منزلته .

"فقولوا: عبد الله ورسوله، أرشدنا -صلى الله عليه وسلم- إلى أن نقول فيه الكلام الواقع واللائق به -صلى الله عليه وسلم- وهو أنه عبد الله ورسوله . فدل هذا على أنه يمدح -صلى الله عليه وسلم- بصفاته من غير زيادة ومن غير نقص، وهي: العبودية والرسالة، والله -جل وعلا- وصف محمدا بأنه عبد في كثير من الآيات، في مقام التنزيل قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا .

وفي مقام الإسراء قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى والمعراج في قوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى .

وفي مقام التحدي وصفه الله بالعبودية قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

ففي قوله: "عبد الله" رد على الغلاة الذين يغلون في حقه صلى الله عليه وسلم .

وفي قوله: "رسوله" رد على المكذبين الذين يكذبون برسالته -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون يقولون: هو عبد الله ورسوله .

هذا وجه الجمع بين هذين اللفظين، أن فيهما ردا على "الإفراط وأهل التفريط في حقه صلى الله عليه وسلم .

وفيه: رد على الذين غلوا في مدحه -صلى الله عليه وسلم- من أصحاب القصائد، كقصيدة البردة والهمزية وغيرهما من القصائد الشركية التي غلت في مدحه -صلى الله عليه وسلم- حتى قال البوصيري :

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سـواك عند حلول الحادث العمم



فنسي الله سبحانه وتعالى .

ثم قال:

إن لم تكن في معادي آخذا بيدي فـــضلا وإلا قـــل يـــا زلـــة القــدم



يعني: ما ينجيه من النار يوم القيامة إلا الرسول .

ثم قال:

فـإن مـن جـودك الدنيـا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم



الدنيا والآخرة كلها من جود النبي -صلى الله عليه وسلم- أما الله فليس له فضل، هل بعد هذا الغلو من غلو؟

واللوح المحفوظ والقلم الذي كتب الله به المقادير هذا بعض علم النبي -صلى الله عليه وسلم- ونسي الله تماما، والعياذ بالله .

وكذلك من نهج على نهج البردة ممن جاء بعده، وحاكاه في هذا الغلو، هذا كله من الغلو في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن الإطراء .

أما المؤمنون فيمدحون الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما فيه من الصفات الحميدة والرسالة والعبودية، كما أرشد إلى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عليه شعراء الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذين مدحوه وأقرهم، مثل: حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير ، وعبد الله بن رواحة ، وغيرهم من شعراء الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذين مدحوه بصفاته -صلى الله عليه وسلم- وردوا على الكفار والمشركين، هذا هو المدح الصحيح المعتدل، الذي فيه الأجر وفيه الخير وهو وصفه -صلى الله عليه وسلم- بصفاته الكريمة من غير زيادة ولا نقصان .

ثم قال المصنف -رحمه الله- وقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو هكذا ذكره المصنف -رحمه الله- من غير أن يذكر راويه، ومن غير أن يعزوه إلى مخرج من أصحاب الكتب، بل جعل مكان ذلك بياضا .

والحديث رواه ابن عباس ، وخرجه أحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه ، وابن ماجه في سننه ، وهذا حصل في منصرفه -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى من أجل رمي جمرة العقبة، ولما كان في الطريق بين مزدلفة ومنى قال لابن عباس : " التقط لي الحصى " ، فلقط له سبع حصيات مثل حصى الخذف، وهي الصغار التي تخذف على رؤوس الأصابع، وهي أكبر من الحمص بقليل، فأخذها -صلى الله عليه وسلم- بيده الكريمة، ثم نفضها والناس ينظرون إليه، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو وهذا يدل على أن الواجب علينا أن نتقيد بالعبادة كما جاءت .

ف"إياكم" هذه كلمة تحذير .

"والغلو" تقدم معناه، وهو: الزيادة على الحد المشروع ، وهذا لا يجوز، وهو مردود وهلاك، بل نتقيد بضوابط العبادة كما جاءت في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس لنا تدخل في تحديد العبادة ومواقيتها وصفاتها، وهيئاتها، وإنما يتبع في هذا ما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- علينا الامتثال فقط .

" فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " مثل النصارى غلوا في عيسى -عليه السلام- يعني: فأخرجهم الغلو من الدين إلى الكفر- والعياذ بالله- فهلكوا، وهم يريدون النجاة، لكن لما كانت طريقتهم غير مشروعة لم تحصل لهم النجاة، وإنما حصل لهم الهلاك، فكل أحد يريد النجاة من غير أن يسلك طريقها فإنه هالك، لا نجاة إلا باتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهما كلف الإنسان نفسه إذا خالف منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه غال وهالك، وهو مشابه لمن كان قبلنا من الغلاة .

ففي هذا: التحذير من الغلو في العبادات، والغلو في الأشخاص والغلو في كل شيء، فالغلو في كل شيء ممنوع، والمثل يقول: "كل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده "كل غلو فهو طريق هلاك، وإنما طريق النجاة هو الاعتدال والاستقامة: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا .

وما هلكت الخوارج والمعتزلة وعلماء الكلام إلا بسبب غلوهم .

فالخوارج عندهم عبادة عظيمة، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم إلى صلاتهم، وعندهم قراءة للقرآن كثيرة، لكنهم لم يقتصروا على المشروع زادوا - والعياذ بالله - حتى هلكوا، وكل من فعل هذا فإنه يهلك، والتجربة موجودة، وما وصل أحد من المتنطعين والغلاة إلى النتيجة المطلوبة أبدا، وإنما يكون سبيلهم الهلاك في الدنيا والآخرة .

فهذا مما يحذر منه في هذا الزمان؛ لأن ظاهرة الغلو والتنطع كثرت إلا من رحم الله -عز وجل- وذلك لما فشا الجهل في الناس جاء الغلو وجاءت المخالفات بتزيين شياطين الإنس والجن .

فالواجب علينا أن نحذر من هذا، وأن نلزم طريق الاستقامة في كل شيء .

أما المعتزلة فغلوا في تنزيه الله، حتى نفوا صفات الله التي وصف بها نفسه .

والممثلة غلوا في إثبات الصفات، حتى شبهوا الخالق بالمخلوق، فغلوا في ذلك، فضلوا- والعياذ بالله- .

وأهل السنة والجماعة توسطوا؛ فأثبتوا لله الأسماء والصفات كما جاءت تنزيها بلا تعطيل، هذا نفي للغلو في التنزيه، وإثباتا بلا تمثيل، هذا نفي للغلو في الإثبات، فهم توسطوا .

أما المعتزلة فهم غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات .

والممثلة غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، تعالى الله عما يقولون . والخوارج والمعتزلة غلوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى خرجوا على أئمة المسلمين، ومن أصولهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى الخروج على الأئمة .

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب، ولكن في حدود الشريعة، قال -صلى الله عليه وسلم- من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب حسب الاستطاعة ولم يأمر بالخروج على الولاة، ونقض البيعة، والتفريق بين المسلمين، وهذه طريقة المعتزلة والخوارج

والخوارج خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وانتهى بهم الأمر إلى أن قتلوه رضي الله عنه، هذا كله بسبب الغلو، بزعمهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فسبب لهم هذا الهلاك، وهذا مصداق قوله قيل: " فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " .

فالغلو هلاك في الدنيا، وهلاك في الآخرة، ولا يأتي بخير أبدا، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، دين الله وسط: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا وسط بين الغلو وبين الجفاء، وهذه الأمة عدول خيار، ليس فيهم غلو، وليس فيهم جفاء، وإنما فيهم الاعتدال، هذا هو طريق النجاة دائما وأبدا .

قال: " ولمسلم " يعني: روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه .

"عن ابن مسعود " عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي ، الصحابي الجليل، والعالم الكبير، الذي يعد من أكابر علماء الصحابة، وإليه المرجع في الفتوى، ورواية الحديث، وغير ذلك، فهو من أكابر الصحابة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام -رضي الله تعالى عنه- وكان -أيضا- من أشد الناس تحذيرا من البدع والغلو، ومواقفه من المبتدعة مشهورة، وكلماته -رضي الله تعالى عنه- في ذلك مأثورة .

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هلك المتنطعون قالها ثلاثا . المتنطعون: جمع متنطع، وأصل التنطع هو التقعر في الكلام إظهارا للفصاحة، هذا هو أصل التنطع في اللغة، والمراد هنا: التنطع في الكلام والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة .

والتنطع في الكلام معناه: أن يتكلم الإنسان بالكلمات الغريبة من اللغة التي لا يفهمها الناس، فيأتي بأسلوب وألفاظ من وحشي اللغة لا يعرفها الناس .

وكذلك من التنطع في الكلام: أن يخاطب الحاضرين بأشياء لا يفهمونها، فالناس بحاجة إلى أن يبين لهم عقيدتهم وعبادتهم وطهارتهم ومعاملاتهم ثم يذهب يتكلم في أشياء بعيدة عنهم، بل بعيدة من مجتمعهم، يتكلم في أمور السياسة، والأمور البعيدة، وأمور الدول، وأمور وسائل الإعلام وأمور بعيدة العوام لا يعرفون منها شيئا، ولا يستفيدون منها شيئا، ويخرجون من عنده بجهلهم، لا يعرفون أمور دينهم، بل منهم من لا يعرف كيف يصلي، منهم من لا يعرف كيف يتوضأ، ومنهم من لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة، فيخرجون بجهلهم وما انتفعوا بهذا الكلام البعيد الغريب عن أسماعهم، هذا من التنطع .

وغرض المتكلم أن يبين للناس أنه فاهم وأنه مثقف، ولو على حساب الحاضرين، ولو ما فهموا، ولو ما عرفوا شيئا .

وهذا من التنطع .

والمطلوب من الخطيب والمحاضر والمتكلم والمدرس أن يتكلم في حدود ما يفهمه الحاضرون، وما هم بحاجة إليه في أمور دينهم، وفي أمور معاملاتهم وأخلاقهم، هذا هو المطلوب .

وأن يكون قصده نفع الحاضرين، وتعليم الحاضرين، لا يكون قصده إظهار شخصيته، وإظهار فصاحته، فهذا هالك كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- هلك المتنطعون .

فلنحذر من هذا حينما نتكلم في درس، حينما نخطب في جمعة، أو عيد أو استسقاء، حينما نلقي محاضرة، علينا أن نراعي حالة الحاضرين، وأن نأتي من الكلام بما يفهمونه، وما يستفيدون منه، وأيضا يكون بأسلوب سهل، لا نتعمد المجيء بأساليب لا يفهمونها، وكلمات لا يفهمونها، بل يختار الموضوع المناسب، والأسلوب المناسب، واللغة التي يفهمونها، هذا الذي يريد الخير للناس، ويريد تعليم الناس .

أما الذي يريد أن يظهر نفسه على حساب الناس، فهذا هو المتنطع، وهذا لا يفيد شيئا، ويخرج كما دخل من غير فائدة .

فعلينا أن نتنبه لذلك؛ لئلا نكون من المتنطعين في الكلام .

وأمير المؤمنين " علي بن أبي طالب يقول: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ .

أما التنطع في الاستدلال فهو: طريقة أهل الكلام وأهل المنطق الذين عدلوا عن الاستدلال بالكتاب والسنة إلى الاستدلال بقواعد المنطق، ومصطلحات المتكلمين .

والمنطق هذا من أين جاء؟ وقواعد المنطق من أين جاءت، جاءت من اليونان استجلبوها واستعملوها في الإسلام، وتركوا الاستدلال بالكتاب والسنة، وقالوا: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، وإنما الذي يفيد اليقين هو الأدلة العقلية -بزعمهم- فبذلك هلكوا .

الواجب أن يكون الاستدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين والقياس الصحيح كما عليه علماء أهل السنة والجماعة ؛ ولهذا يقول الإمام الشافعي -رحمه الله- حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في القبائل، وأن يقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة واشتغل بعلم الكلام .

فمن هؤلاء من يترك كلام الله وكلام رسوله ويأتي بقواعد المنطق، حتى في العقائد وهو ما يسمونه الآن علم التوحيد، يسمون علم المنطق، وعلم الكلام: علم التوحيد؛ ولذلك وقعوا في الهلاك، وضلوا وأضلوا، وقد انتهى أمرهم إلى الحيرة، كما شهد بذلك أكابرهم، وبعضهم عند الوفاة أشهد الحاضرين بأنه مات وهو لا يعرف شيئا، مع أنه أفنى عمره في علم الكلام والجدل والمنطق، هذا مآل المتنطعين- والعياذ بالله- وشهاداتهم على أنفسهم موجودة، مما يدل على صدق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- هلك المتنطعون .

أما التنطع في العبادة فهو كما سلف، هو: أن يزيد الإنسان في العبادة على الحد المشروع، وهذه رهبانية النصارى، أما الحد المشروع فهو كما قال -صلى الله عليه وسلم- أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، ومن رغب عن سنتي فليس مني هذا هو الاعتدال، وأما التبتل وعدم التزوج والصيام دائما ولا يفطر والصلاة كل الليل ولا ينام هذا كله من الغلو .

ومن التنطع الذي يهلك صاحبه كما هلكت النصارى في رهبانيتهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من الغلو، وحذر من رهبانية النصارى، وأمر بالاعتدال والتوسط، وقال: هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وقال -صلى الله عليه وسلم- إن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى والمنبت هو: الذي يكلف نفسه بالسير ولا يستريح ولا يريح راحلته، هذا ينبت؛ يعني: ينقطع وتموت راحلته، ويقف في وسط الطريق: " فلا ظهرا أبقى " لأن راحلته ماتت، " ولا أرضا قطع " لأن المسافة باقية .

أما لو أخذ الطريق على مراحل، وشيئا فشيئا، وأراح نفسه، وأراح راحلته لقطع الطريق وبلغ المقصود ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- " أوغلوا فيه برفق " .

فالحاصل أن التنطع في العبادة هو: الزيادة فيها عن الحد المشروع، والمطلوب أن الإنسان يتوسط في العبادة من غير زيادة، ومن غير نقصان .

ونبين هنا ما يستفاد من هذه الأحاديث باختصار:

المسألة الأولى: التحذير من الغلو في مدحه -صلى الله عليه وسلم- لأن ذلك يؤدي إلى الشرك، كما أدى بالنصارى إلى الشرك .

المسألة الثانية: فيه الرد على أصحاب المدائح النبوية التي غلوا فيها في حقه -صلى الله عليه وسلم - كصاحب البردة وغيره .

المسألة الثالثة: فيه النهي عن التشبه بالنصارى لقوله: " كما أطرت النصارى ابن مريم " .

ومن الغلو في حقه -صلى الله عليه وسلم- إحياء المولد كل سنة؛ لأن النصارى يحيون المولد بالنسبة للمسيح على رأس كل سنة من تاريخهم، فبعض المسلمين تشبه بالنصارى، فأحدث المولد في الإسلام بعد مضي القرون المفضلة؛ لأن المولد ليس له ذكر في القرون المفضلة كلها، وإنما حدث بعد المائة الرابعة، أو بعد المائة السادسة لما انقرض عهد القرون المفضلة، فهو بدعة، وهو من التشبه بالنصارى .

المسألة الرابعة: فيه مشروعية مدحه -صلى الله عليه وسلم- بصفاته الكريمة : عبد الله ورسوله، الداعي إلى الله، بلغ البلاغ المبين، جاهد في الله حق جهاده، كل هذا من صفاته -صلى الله عليه وسلم- فذكره طيب .

المسألة الخامسة: يستفاد من ذلك: كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته وأنه حذرها من الإطراء في حقه -صلى الله عليه وسلم- حذرها من الغلو، وحذرها من التنطع .

ثلاثة أساليب جاء بها -صلى الله عليه وسلم- الإطراء والغلو والتنطع . نوعها -صلى الله عليه وسلم- من باب التأكيد والتحذير من الغلو .

المسألة السادسة . فيه أن من نهى عن شيء فإنه يذكر البديل الصالح عنه إن كان له بديل، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لما نهاهم عن الإطراء قال: إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله هذا البديل الصالح .

المسألة السابعة: في الحديث: النهي عن الغلو في العبادات، ومنها حصى الجمار، قال فيها -صلى الله عليه وسلم- إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو والغلو في العبادات هو: الزيادة فيها عن الحد المشروع: كمية وكيفية ووقتا، إلى غير ذلك، لا نحدث شيئا من عند أنفسنا .

والبدعة تنقسم إلى قسمين بدعة حقيقية، وبدعة إضافية .

البدعة الحقيقية: إذا أحدث شيئا لا أصل له، مثل المولد والتبرك بالآثار .

والإضافية: أن نحدث للعبادة المشروعة وقتا أو صفة لم يشرعها الله ورسوله، كما لو قلنا: ليلة النصف من شعبان يصلون الناس ويتهجدون، أو نصوم النصف من شعبان .

فالصيام مشروع، وقيام الليل مشروع، لكن إذا حددناه بوقت لا دليل عليه فهذا بدعة إضافية؛ لأن أصل العبادة مشروع، ولكن تقييدها بوقت محدد، منه إضافة إلى العبادة وهي غير مشروعة، فهذه بدعة تسمى إضافية .

ذكر الله مشروع؛ التسبيح والتهليل والتكبير، لكن إذا قلنا للناس: سبحوا ألف تسبيحة، كبروا ألف تكبيرة، قولوا: كذا ألف مرة بدون دليل، فهذا يعتبر بدعة إضافية .

المسألة الثامنة: فيه التحذير من التنطع في الكلام؟ التنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة، وعرفنا بماذا يكون التنطع في الكلام، والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة .

المسألة التاسعة: فيه تكرار النصيحة حتى ترسخ وتثبت لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كرر قوله: هلك المتنطعون قالها ثلاثا من أجل أن ترسخ هذه النصيحة، وتثبت في قلوب السامعين .

والله تعالى أعلم .
شرح العلامة الشيخ صالح فوزان الفوزان في كتاب إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

البلوشي
07-17-2008, 06:11 PM
الرافع للفائدة

12d8c7a34f47c2e9d3==