المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قول الله تعالى ' إنك لا تهدي من أحببت '


كيف حالك ؟

البلوشي
06-16-2008, 08:31 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ' إنك لا تهدي من أحببت '

قال الشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتابه العظيم التوحيد باب قول الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وفي (الصحيح) عن ابن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: (يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله عز وجل(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ) . وأنزل الله في أبي طالب: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) .
قول اله تعالى : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) [ سورة القصص : الآية 56 ]

قال الشيخ العلامة الإمام عبدالرحمن السعدي رحمه الله
وهذا الباب أيضا نظير الباب الذي قبله وذلك أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق على الإطلاق وأعظمهم عند الله جاها وأقربهم إليه وسيلة لا يقدر على هداية من أحب هداية التوفيق وإنما الهداية كلها بيد الله , فهو الذي تفرد بهداية القلوب كما تفرد بخلق المخلوقات , فتبين أنه الإله الحق وأما قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )فالمراد بالهداية هنا هداية البيان وهو صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله وحيه الذي اهتدى به الخلق .

قال الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله
وهذا الحديث مع الآية يدلان على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيه مشروعية الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أتى عمه وهو في سياق الموت من أجل ماذا؟ من أجل الدعوة إلى الله -عز وجل- ففيه: الدعوة إلى الله، وأن الداعية لا ييأس، ولا يقنط من القبول، أو يكسل عن مواصلة الدعوة، ويقول: الناس ما هم بقابلين، الناس ما فيهم خير، الإنسان يدعو إلى الله، من قبل فالحمد لله، ومن لم يقبل قامت عليه الحجة، وحصل الأجر للداعية .

المسألة الثانية: في الحديث دليل على مشروعية عيادة المريض المشرك من أجل دعوته إلى الله -عز وجل- فإن الرسول عاد عمه وهو مشرك من أجل دعوته إلى الله .

المسألة الثالثة -وهي مهمة جدا- أن من قال: "لا إله إلا الله" فإنه يقبل منه، ويحكم بإسلامه ما لم يظهر منه ما يناقض هذه الكلمة من قول أو فعل، فإن ظهر منه ما يناقض هذه الكلمة حكم بردته، أما ما لم يظهر منه ما يناقض هذه الكلمة فإنه يحكم بإسلامه، فإن كان صادقا فيما بينه وبين الله، فهو مسلم حقا، وإن كان كاذبا فيما بينه وبين الله فهو منافق، أمره إلى الله -عز وجل- أما نحن فليس لنا إلا الظاهر .

المسألة الرابعة: في الحديث دليل على أن الأعمال بالخواتيم فأبو طالب عاش على الكفر والشرك، لكنه لو قال: "لا إله إلا الله" عند الوفاة، واستجاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- لختم له بالإسلام، فدل على أن الأعمال بالخواتيم، وهذا يصدقه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث عبد الله بن مسعود : إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فالأعمال بالخواتيم .

المسألة الخامسة: فيه التحذير من جلساء السوء ماذا جر على أبي طالب هؤلاء الجلساء؟ ومات على الكفر بسبب مشورتهما -والعياذ بالله- .

المسألة السادسة: في الحديث رد على من زعم إسلام أبي طالب من الشيعة والخرافيين; لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله .

المسألة السابعة: وهي عظيمة جدا: تفسير لا إله إلا الله كما يقول الشيخ -رحمه الله- وأن معناها: ترك عبادة غير الله، ولأن أبا جهل وزميله فهما أنه إذا قال: لا إله إلا الله فقد ترك ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ليست مجرد كلمة تقال، وإنما هي كفر بالطاغوت وإيمان بالله -عز وجل- بخلاف ما يعتقده كثير من الخرافيين في هذا الزمان، يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: يا حسين ، ويا فلان، ويذبحون للموتى، ويستغيثون بهم، وهم يقولون: لا إله إلا الله، بل لهم أوراد صباحية ومسائية يقولونها بالمئات، ثم يذبحون للضريح ويطوفون به، ويستغيثون به .

فدل على أن أبا جهل أفهم منهم بمعنى لا إله إلا الله; لأن أبا جهل فهم أن معنى لا إله إلا الله ترك عبادة الأوثان، وهؤلاء ما فهموا هذا، ما فهموا لا إله إلا الله معناها ترك عبادة القبور، وهذا من الفقه العظيم، وهذه هي العقيدة الصحيحة، والداعي إلى الله يجب أن يفهم هذا الفقه; لأن هذا هو فقه الدعوة .

المسألة الثامنة: فيه الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة أو الاعتقاد، فإذا عرف الإنسان بقلبه أو اعتقد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولو لم يعمل; فإنه يكون مسلما; لأن الأعمال ليست شرطا في الإيمان، بل مجرد المعرفة أو الاعتقاد بالقلب يكفي عندهم، وهذا باطل; لأنها لم تعتبر معرفة أبي طالب لرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تعتبر إسلاما، والله تعالى قال عن المشركين: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ .

فهم يعرفون أنه رسول الله، لكن الكبر والحمية الجاهلية جعلتهم لا يقبلون الدعوة، مع أنهم يعرفونها بقلوبهم، والله -جل وعلا- حكى عن موسى -عليه السلام- أنه قال لفرعون : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ففرعون عارف بقلبه صحة ما جاء به موسى ، ولكن منعه الكبر والمعاندة، وقال -تعالى- عن المشركين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا وأيضا قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ فاليهود يعرفون أنه رسول الله - أيضا- كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ يعرفون أنه رسول الله .

وكان أبو طالب يعرف أنه رسول الله، وصرح بهذا في قصائده، يقول:

ولقد علمت أن دين محمد مـن خـير أديـان البريـة دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لـرأيتني سمحا بذاك مبينا

فالذي منعه هو ما جاء في هذا الحديث: أبى أن يقول: لا إله إلا الله وقال: "وهو على ملة عبد المطلب "، وهو يعرف أنه رسول الله .

المسألة التاسعة: فيه تحريم الاستغفار للمشركين، والترحم عليهم، وموالاتهم، ومحبتهم لأن الله جل وعلا يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ .

المسألة العاشرة: فيه التحذير من التعصب لدين الآباء والأجداد إذا كان يخالف ما جاءت به الرسل فإن الذي حمل أبا طالب على ما وقع فيه هو التعصب لدين عبد المطلب ، وأنه سبب لسوء الخاتمة- والعياذ بالله- فليحذر المسلم من هذا . الواجب على المسلم أن يقبل الحق ولو خالف ما عليه آباؤه وأجداده، أما إذا كان آباؤه وأجداده على حق، فاتباعهم حق، ويوسف -عليه السلام- يقول: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ .

فاتباع الآباء والأجداد على الحق مشروع .

المسألة الحادية عشرة: وهي المقصودة بالذات من عقد هذا الباب، وهي: الرد على المشركين الذين يتعلقون بالأولياء والصالحين ، ويدعونهم من دون الله; لأنه إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يملك لعمه أبي طالب الهداية فغيره من باب أولى ، وهذه هي المناسبة للترجمة .

البلوشي
06-20-2008, 06:20 PM
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى لرسوله{ إنك يا محمد لا تهدي من أحببت }، أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء . وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، كما قال تعالى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال تعالى {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }


قال العلامة الإمام عبدالرحمن آل الشيخ :ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه ، وهو القادر عليه دون من سواه ، فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو أفضل خلقه ـ من هداية القلوب وتفريج الكروب ، ومغفرة الذنوب ، والنجاة من العذاب ، ونحو ذلك شئ ، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه ، فسبحان من بهرت حكمته العقول ، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده ، وإخلاص العمل له وتجريده .

البلوشي
06-23-2008, 07:51 PM
قال العلامة صالح فوزان الفوزان حفظه الله {غرض المصنف -رحمه الله- من عقد هذا الباب: الرد على الذين غلوا في النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى المشركين الذين يتعلقون بالأولياء والصالحين يدعونهم من دون الله ويستغيثون بهم؛ لأنه إذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يملك لعمه أبي طالب شيئا، وأنه نهي عن الاستغفار له، ففي حق غير النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب أولى ، فدل ذلك على أنه - صلى الله عليه وسلم- لا يدعى من دون الله، ولا يطلب منه شيء من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؛ لأنه لم يملك هذا لعمه أبي طالب مع حرصه على نفعه .

وعاتبه الله بقوله: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وبقوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ فإذا كان هذا في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الخلق، دل على أنه لا يدعى من دون الله، ولا يطلب منه شيء من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، فغيره من باب أولى ، من الأولياء والصالحين وأصحاب الأضرحة، مهما بلغوا من الصلاح، ومهما بلغوا من المكانة في الدين، فإنهم لا يطلب منهم إلا ما يقدرون عليه من أمور الدنيا، إذا كانوا على قيد الحياة، أما أمور الهداية وأمور قضاء الحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله، من شفاء المرضى، وإنزال المطر، وجلب الأرزاق، وإعطاء الأولاد، هذا كله لا يطلب إلا من الله -سبحانه وتعالى- ولا يطلب من غير الله، لا من نبي ولا من ولي، ولا من أي مخلوق، ومن طلبه من غير الله فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة .

فهذا غرض المصنف -رحمه الله- من عقد هذا الباب .

قال: "في الصحيح" يعني: في الصحيحين صحيح البخاري ، وصحيح مسلم .

"عن ابن المسيب " هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي أحد أكابر التابعين، وكان له منزلة في العلم عظيمة، فهو من أكبر علماء التابعين، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين انتهت إليهم الفتوى في الدنيا في زمانهم .

وأبوه المسيب بن حزن صحابي، وجده الحزن - أيضا- صحابي، فهو من كبار التابعين، وأبوه وجده صحابيان .

"عن أبيه" المسيب .

"قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة" معناه: قارب الوفاة، وليس المراد أنه نزل به الموت; لأنه إذا نزل الموت بالمحتضر وبلغت الروح الغرغرة لا تقبل منه توبة كما جاء في الحديث: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر فالمراد بهذا- والله أعلم- أنه لما حضرته الوفاة وظهرت عليه علامات الموت قبل أن تبلغ روحه الغرغرة، وقبل أن يأتي الوقت الذي لا تقبل منه التوبة ، ويحتمل أنه حضرته الوفاة يعني: بلغ نزع الروح، فيكون هذا خاصا بأبي طالب ، وأما غيره فإذا وصل إلى هذا الحد فإنه لا تقبل منه توبة، والله أعلم .

وأبو طالب هو: أبو طالب بن عبد المطلب ، عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد موت جده عبد المطلب ، وبقي أبو طالب حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وبعد البعثة يدافع عنه ويحميه، إلى سنة ثمان من البعثة وهو لم يفارقه، يدافع عنه، ويحميه من أذى قومه، ويصبر معه على مضايقات المشركين، وبذل معه شيئا كثيرا، وحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هدايته، لعل الله أن ينقذه من النار، ومن ذلك أنه لما حضرته الوفاة جاء إليه، وهذا من حرصه -صلى الله عليه وسلم- على الدعوة إلى الله خصوصا مع أقاربه، ففيه حرصه -صلى الله عليه وسلم- على الدعوة إلى الله، وصبره على ذلك .

"وعنده عبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وأبو جهل المخزومي " ، أما عبد الله بن أبي أمية فقد من الله عليه بالإسلام فأسلم، وأما أبو جهل عمرو بن هشام -قبحه الله- فهذا ألد أعداء الإسلام، وأعظم الذين آذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فرعون هذه الأمة "، وقتل يوم بدر وهو الذي قاد المشركين إلى بدر وهو الذي حرضهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقتل مع صناديد قريش في غزوة بدر كافرا والعياذ بالله .

"فقال له" أي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب .

"يا عم" هذا فيه استعطاف .

" قل: لا إله إلا الله " يعني: انطق بهذه الكلمة، معتقدا لها بقلبك .

" كلمة أحاج لك بها عند الله " ، "كلمة" منصوب على أنه بدل من: لا إله إلا الله; لأن لا إله إلا الله في محل نصب، مقول القول، وكلمة بدل منها، وبدل المنصوب منصوب; لأنه أحد التوابع الأربع .

" أحاج لك بها عند الله " يعني: أشهد لك بها عند الله يوم القيامة من أجل نجاتك من النار، و"أحاج" مجزوم على أنه جواب الأمر، وحرك بالفتح من أجل التقاء الساكنين، وإلا أصله: أحاجج، فأدغمت الجيم في الجيم فصارت أحاج، التقى ساكنان، فحرك بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين .

بين له -صلى الله عليه وسلم- فائدة ذلك; ترغيبا له .

ففيه أن الداعية إلى الله يبين للناس الترغيب يرغبهم في الخير، ويبين لهم العواقب الحسنة إن استجابوا، ويحذرهم من العواقب الوخيمة إن لم يستجيبوا، فالداعية يبشر وينذر .

ولكن جلساء السوء- والعياذ بالله- تسببوا في شقاوة هذا الرجل: "فقالا له" قال: أبو جهل وعبد الله بن أمية لأبي طالب معارضين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أترغب عن ملة عبد المطلب ؟" أي: أتترك ملة أبيك؟ وهذا من إثارة النخوة الجاهلية والحمية الجاهلية، وهي التعصب الممقوت ، وأتيا بالحجة الملعونة، وهي: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وهذه يحتج بها المشركون، إذا جاءتهم الرسل قالوا: نحن وجدنا آباءنا على هذا، لا نقدر أن نترك دين آبائنا ونتبعكم، وفرعون لما جاءه موسى وهارون -عليهم السلام- قال: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى يحتج عليهم بما كانت عليه القرون الأولى من الكفر والشرك، فهي حجة مطردة عند المشركين، الاحتجاج بما عليه الناس والآباء والأجداد، وهذه الحجة حالت بين كثير من الناس وبين الإيمان- والعياذ بالله- إلا من هداه الله .

"فأعاد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا فيه أن الداعية لا ييأس ، أي: طلب منه أن يقول: لا إله إلا الله .

"فأعادا عليه" أعاد عليه الرجلان قولتهم القبيحة: "أترغب عن ملة عبد المطلب ؟" .

فعند ذلك أخذته الحمية الجاهلية فقال: "هو على ملة عبد المطلب " .

"هو" هذا ضمير الغائب، يحتمل أن الراوي صرفه، ولم يقل: أنا، من باب كراهة هذا اللفظ .

وجاء في بعض الروايات: "أنا على ملة عبد المطلب " .

"وأبى أن يقول: لا إله إلا الله" ومات -والعياذ بالله- على الشرك .

فعند ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- من شفقته على عمه، ولما رأى أنه مات على الشرك، وكان منه في حياته من النصرة والتأييد قال: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك هذا كله من كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- ومن مجازاته على المعروف، ووفائه صلى الله عليه وسلم .

"فأنزل الله -سبحانه- مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " نهاه الله عن ذلك، ونهى المؤمنين; لأن المسلمين لما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستغفر لعمه قالوا: إذن نستغفر لموتانا، فأنزل الله هذه الآية .

مَا كَانَ أي: لا يليق ولا ينبغي، وهذا خبر معناه: النهي والتحذير .

" لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " المشرك لا يجوز الاستغفار له ولا الترحم عليه إذا مات على الشرك ، وكذلك في حالة الحياة، فالمشرك لا يستغفر له وهو حي ولا يترحم عليه، وإنما يطلب له الهداية، يقال: اللهم اهده، أما الاستغفار والترحم فإنه لا يجوز للمشركين، لا أحياء ولا أمواتا; لأنه لا تجوز محبتهم وموالاتهم ما داموا على الشرك، وإبراهيم -عليه السلام- استغفر لأبيه لأنه وعده أن يستغفر له، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .

"وأنزل الله في أبي طالب : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ( إِنَّكَ ) أيها الرسول، لَا تَهْدِي لا تملك هداية مَنْ أَحْبَبْتَ من أقاربك وعمك، والمراد بالمحبة هنا: المحبة الطبيعية، ليست المحبة الدينية، فالمحبة الدينية لا تجوز للمشرك، ولو كان أقرب الناس: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ فالمودة الدينية تجوز، أما الحب الطبيعي فهذا لا يدخل في الأمور الدينية .

وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فنفى -سبحانه وتعالى- عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه يملك الهداية لأحد، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ قال -سبحانه- وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ .

فإن قلت: أليس الله -جل وعلا- قال في الآية الأخرى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فأثبت في هذه الآية أن الرسول يهدي إلى صراط مستقيم؟

فالجواب عن ذلك: أن الهداية هدايتان: هداية يملكها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهداية لا يملكها .

أما الهداية التي يملكها الرسول فهي: هداية الإرشاد والدعوة والبيان، ويملكها كل عالم يدعو إلى الخير .

أما الهداية المنفية فهي: هداية القلوب، وإدخال الإيمان في القلوب، فهذه لا يملكها أحد إلا الله سبحانه وتعالى .

فنحن علينا الدعوة وهداية الإرشاد والإبلاغ، أما هداية القلوب فهذه بيد الله -سبحانه وتعالى- لا أحد يستطيع أن يوجد الإيمان في قلب أحد إلا الله -عز وجل- هذا هو الجواب عن الآيتين الكريمتين .

وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فلا يضع هداية القلب إلا فيمن يستحقها، أما الذي لا يستحقها فإن الله يحرمه منها، والله عليم حكيم -جل وعلا- ما يعطي هداية القلب لكل أحد، وإنما يعطيها -سبحانه- من يعلم أنه يستحقها، وأنه أهل لها، أما الذي يعلم منه أنه ليس أهلا لها ولا يستحقها، فإن الله يحرمه منها، ومن ذلك حرمان أبي طالب ، حرمه الله من الهداية لأنه لا يستحقها، فلذلك حرمه منها، والحرمان له أسباب .

ومنها: التعصب للباطل وحمية الجاهلية، تسببان أن الإنسان لا يوفقه الله -جل وعلا- فمن تبين له الحق ولم يقبله فإنه يعاقب بالحرمان- والعياذ بالله- يعاقب بالزيغ والضلال، ولا يقبل الحق بعد ذلك، فهذا فيه الحث على أن من بلغه الحق وجب عليه أن يقبله مباشرة ولا يتلكأ ولا يتأخر; لأنه إن تأخر فحري أن يحرم منه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وهذا الحديث مع الآية يدلان على مسائل عظيمة:

المسألة الأولى: فيه مشروعية الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أتى عمه وهو في سياق الموت من أجل ماذا؟ من أجل الدعوة إلى الله -عز وجل- ففيه: الدعوة إلى الله، وأن الداعية لا ييأس، ولا يقنط من القبول، أو يكسل عن مواصلة الدعوة، ويقول: الناس ما هم بقابلين، الناس ما فيهم خير، الإنسان يدعو إلى الله، من قبل فالحمد لله، ومن لم يقبل قامت عليه الحجة، وحصل الأجر للداعية .

المسألة الثانية: في الحديث دليل على مشروعية عيادة المريض المشرك من أجل دعوته إلى الله -عز وجل- فإن الرسول عاد عمه وهو مشرك من أجل دعوته إلى الله .

المسألة الثالثة -وهي مهمة جدا- أن من قال: "لا إله إلا الله" فإنه يقبل منه، ويحكم بإسلامه ما لم يظهر منه ما يناقض هذه الكلمة من قول أو فعل، فإن ظهر منه ما يناقض هذه الكلمة حكم بردته، أما ما لم يظهر منه ما يناقض هذه الكلمة فإنه يحكم بإسلامه، فإن كان صادقا فيما بينه وبين الله، فهو مسلم حقا، وإن كان كاذبا فيما بينه وبين الله فهو منافق، أمره إلى الله -عز وجل- أما نحن فليس لنا إلا الظاهر .

المسألة الرابعة: في الحديث دليل على أن الأعمال بالخواتيم فأبو طالب عاش على الكفر والشرك، لكنه لو قال: "لا إله إلا الله" عند الوفاة، واستجاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- لختم له بالإسلام، فدل على أن الأعمال بالخواتيم، وهذا يصدقه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث عبد الله بن مسعود : إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فالأعمال بالخواتيم .

المسألة الخامسة: فيه التحذير من جلساء السوء ماذا جر على أبي طالب هؤلاء الجلساء؟ ومات على الكفر بسبب مشورتهما -والعياذ بالله- .

المسألة السادسة: في الحديث رد على من زعم إسلام أبي طالب من الشيعة والخرافيين; لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله .

المسألة السابعة: وهي عظيمة جدا: تفسير لا إله إلا الله كما يقول الشيخ -رحمه الله- وأن معناها: ترك عبادة غير الله، ولأن أبا جهل وزميله فهما أنه إذا قال: لا إله إلا الله فقد ترك ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ليست مجرد كلمة تقال، وإنما هي كفر بالطاغوت وإيمان بالله -عز وجل- بخلاف ما يعتقده كثير من الخرافيين في هذا الزمان، يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: يا حسين ، ويا فلان، ويذبحون للموتى، ويستغيثون بهم، وهم يقولون: لا إله إلا الله، بل لهم أوراد صباحية ومسائية يقولونها بالمئات، ثم يذبحون للضريح ويطوفون به، ويستغيثون به .

فدل على أن أبا جهل أفهم منهم بمعنى لا إله إلا الله; لأن أبا جهل فهم أن معنى لا إله إلا الله ترك عبادة الأوثان، وهؤلاء ما فهموا هذا، ما فهموا لا إله إلا الله معناها ترك عبادة القبور، وهذا من الفقه العظيم، وهذه هي العقيدة الصحيحة، والداعي إلى الله يجب أن يفهم هذا الفقه; لأن هذا هو فقه الدعوة .

المسألة الثامنة: فيه الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة أو الاعتقاد، فإذا عرف الإنسان بقلبه أو اعتقد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولو لم يعمل; فإنه يكون مسلما; لأن الأعمال ليست شرطا في الإيمان، بل مجرد المعرفة أو الاعتقاد بالقلب يكفي عندهم، وهذا باطل; لأنها لم تعتبر معرفة أبي طالب لرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تعتبر إسلاما، والله تعالى قال عن المشركين: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ .

فهم يعرفون أنه رسول الله، لكن الكبر والحمية الجاهلية جعلتهم لا يقبلون الدعوة، مع أنهم يعرفونها بقلوبهم، والله -جل وعلا- حكى عن موسى -عليه السلام- أنه قال لفرعون : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ففرعون عارف بقلبه صحة ما جاء به موسى ، ولكن منعه الكبر والمعاندة، وقال -تعالى- عن المشركين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا وأيضا قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ فاليهود يعرفون أنه رسول الله - أيضا- كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ يعرفون أنه رسول الله .

وكان أبو طالب يعرف أنه رسول الله، وصرح بهذا في قصائده، يقول:

ولقد علمت أن دين محمد مـن خـير أديـان البريـة دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لـرأيتني سمحا بذاك مبينا

فالذي منعه هو ما جاء في هذا الحديث: أبى أن يقول: لا إله إلا الله وقال: "وهو على ملة عبد المطلب "، وهو يعرف أنه رسول الله .

المسألة التاسعة: فيه تحريم الاستغفار للمشركين، والترحم عليهم، وموالاتهم، ومحبتهم لأن الله جل وعلا يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ .

المسألة العاشرة: فيه التحذير من التعصب لدين الآباء والأجداد إذا كان يخالف ما جاءت به الرسل فإن الذي حمل أبا طالب على ما وقع فيه هو التعصب لدين عبد المطلب ، وأنه سبب لسوء الخاتمة- والعياذ بالله- فليحذر المسلم من هذا . الواجب على المسلم أن يقبل الحق ولو خالف ما عليه آباؤه وأجداده، أما إذا كان آباؤه وأجداده على حق، فاتباعهم حق، ويوسف -عليه السلام- يقول: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ .

فاتباع الآباء والأجداد على الحق مشروع .

المسألة الحادية عشرة: وهي المقصودة بالذات من عقد هذا الباب، وهي: الرد على المشركين الذين يتعلقون بالأولياء والصالحين ، ويدعونهم من دون الله; لأنه إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يملك لعمه أبي طالب الهداية فغيره من باب أولى ، وهذه هي المناسبة للترجمة .

والله تعالى أعلم .

12d8c7a34f47c2e9d3==