حامد الألباني
12-23-2003, 11:24 PM
كيف تصنف أو تؤلف ؟
الْحَمْدُ لله ، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ الله .
أَمّا بَعْدُ :
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ اسْتَمِـعْ …حَتَّـى بِرسْمي تَنْتَفِـعْ
إنْ كُنْتَ تَبْغِي سُلَّمَـا ... بِالْعِلْمِ جَمْعًا تَرْتَفِــعْ
هَذِي حُرُوفُ الْمُرْتَجِي...نَفْعَ الصَّحَابِ وَالْجَمِـعْ
فَاللـهَ نَسْأَلْ يَا أَخِـي … أَجْرَاً لِيَوْمٍ نَرْتَجِــعْ
فَهَذِهِ - يَا طَالِبَ الْعِلْمِ - دُرُوسٌ عَامَّة فِي كَيْفِيَّةِ التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيف ، لِمَنْ آتَاهُ اللهُ فَهْمَاً ثَاقِبَاً ، وَاطِّلاَعَا وَاسِعَاً .
بينَ يديِ الرّسالة :
لاَ بُدُّ قَبْلَ الْبَدْءِ بِمَوْضُوعِنَا ؛ أَنْ نَسْتَحْضِرَ بَعْضاً مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْنِيفِ؛ إذْ يَزْعُمُ بَعْضُ النّاسِ ؛ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْقَدِيمَةَ يُوجَدُ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ ؛ مِمّا يَحْتَاجُهُ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ ؛ وَلاَ حَاجَةَ إلَى التَّأْلِيفِ أَوِ التَّصْنِيفِ !
وَأَنَا أَقُولُ : هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْقَائِل - مَعَ الاِعْتِرَافِ بِفَضْلِ الأَوَائِل -؛ وَذَلِكَ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ:
أَوّلاً : كَلاَمُهُ لاَ يَسْتَنِدُ إلَى قَاعِدَةٍ عِلْمِيّةٍ ، أَوْ أَدِلَّةٍ شَرْعِيّة ؛ إنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ اجْتِهَادٍ شَخْصِيٍّ مَبْنِيٍّ عَلَى شَفَا جُرْفٍ هَارٍ ! وَهَذَا -وَحْدَهُ -كَافٍ لِرَدِّهِ مِنْ مِئَاتِ الْوُجُوهِ !!
ثَانِيَاً : نَسْأَلُ الزَّاعِمَ : وَأَيُّ ضَرَرٍ يُحْدِثُهُ التَّصْنِيفُ عَلَيْكَ أَوْ عَلَى الأُمَّةِ ؟!!
ثَالِثَاً : وَأَيُّ نَفْعٍ سَتَنَالُهُ الأُمَّةُ مِنْ مَنْعِ التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ ؟!
رَابِعاً : وَمَنْ ذَا الَّذِي يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله ؟!
خَامِساً : لَوْلاَ الْكُتُبُ الْحَدِيثَةُ وَالتَّصَانِيفُ الْعَدِيدَة ؛ مَا حُفِظَتِ الْكُتُبُ الْقَدِيمَة ؛ فَهِيَ
- تَمَامَاً - كَالْقِشْرَةِ وَلُبِّهَا ؛ لاَ يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ ؛ إلاَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ وُجُوداً ، وَأَنْفَعُ حَاجَةً !
سَادِسًاً : أَمّا مَسأَلَةُ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ ؛ فَلاَ ضَابِطَ لَهَا ، وَلاَ مَاسِكَ لِخِطَامِ زِمَامِهَا ؛ فَعِلْمُ مَا فِي السُّطُور سَبَقَهُ عِلْمُ مَا فِي الصُّدُور ، وَهَكَذَا تَجْرِي الأُمُور : يُصْبِحُ الْقَدِيمُ حَدِيثَاً نِسْبَةً لِمَا قَبْلَهُ ، وَيُصْبِحُ الْحَدِيثُ قَدِيمًا نِسْبَةً لِمَا بَعْدَهُ ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ ؛ فَحَنَانَيْكَ !!
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ، قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللهُ
- صَلَّى الله علَيهِ وسلَّم - : «قيِّدُو العلمَ بالكتَاب» .
قَالَ الْعلماءُ : «ينبغِي أَن لا يخلُوَ التَّصنيفُ من أَحد المعاني الثّمانية ؛ الّتي تُصنِّف لها العلماءُ ؛ وهي :
أوّلاً : « اختراعُ معـدوم» ؛ أَي : لم تُسبَق إليه - فيما تعلم وتعتقد -.
ثانياً : « جَمِـعُ مُفتَـرقٍ » ؛ أي : مسأَلة مُشتّتة وَأَدلَّتُها في بطون الكُتب ؛ تَجمعها في كتاب واحد .
ثالثاً : «تكميـلُ ناقـصٍ » ؛ أَي : أنَّ الموضوع لم يكتمل فيه جانب من الجوانب ؛ فتُكمِلُه أَنتَ .
رابعاً : «تفصيـلُ مجمـلٍ» ؛ أي : أَنَّك تفصِّل المسأَلةَ شيئاً فشيئاً حتّى يذهبَ تراكم المعاني ، ويتضّح المراد .
خامساً:«تهـذيبُ مطـوَّلٍ» ؛ أي : أَنّك تلجأُ إلى الاختصار دون الإخلاَل .
سادساً:«ترتيـبُ مُخلَّـطٍ» ؛ أَي : أَنّك تقدِّمُ وتؤَخّر في ترتيب المادّة أوِ الموضوع.
سابعاً : «تعيـينُ مبهـمٍ » ؛ أَي : أنّك تعيّن وجود موضع خفيّ في مسأَلة أو نقطة أو نكتة لتظهرها ، وتجلّي أمرها .
ثامناً : «تبيـينُ خطـإٍ» ؛ أَي : أَنّك تصحّح خطأَ الغَير إذا أَيقنت صواب ما أَنت عليه.
وَأخيراً :
أرجو الله أن ينفع بها طلبة العلم ؛ المنتظرين من يفجِّر لديهمُ الطّاقات ، وَأن لا يحرم الأمّة من الإبداعات .
وهذا أَوان الشّروع في المشروع ؛ فأَقول - وبالله التّوفيق - :
المرحلـةُ الأُولـى
(التخصّص)
أُوصِي - والوصيّة غيـرُ مُلزِمـة ؛ بل مُعلِمة:
أَنْ تَسْتَجْمِعَ قُوَاكَ الْعَقْلِيَّةِ وَالذِّهْنِيَّة ؛ إذا عزمتَ أَمرك ، ووفَّرت مِدَادك ، وَشَحذْت قلمك .
وَأَنْ لاَ تَخْرُجَ عَنِ اخْتِصَاصِكَ فِي أَيٍّ مِنَ الْفُنُونِ الْعِلْمِيّة ؛ الَّتِي دَرَجْتَ عَلَيْهَا ؛ وهذا أمرٌ طبيعيٌّ ؛ لأنّ العلوم تعود إلى أَصلين لا ثالِثَ لهما - فيما أعلم - :
الأَصل الأَوّل : علوم تُدرك بالعقل ؛ خاصّة فيما يتعلّق بالحواسّ عند أنواع المخلوقات.
والأَصل الثّاني : علوم تدرك بالنّقل - أَو فيما يسمّيه البعض بالسّمعيّات أَوِ الخبريّات -؛ وهي الّتي لا تُدركُ إلاّ عن طريق الشّارع والشّرع ، وَأَمّا العقل ؛ فلا مجال له فيها سوى التّلقّي والتّسليم .
فالتّخصُّص والتّنوّع مطلب طبيعيٌّ لدَى الإنسان لا مفرّ له منه .
ومن المعلوم - أَيضاً - : أَنّ الاختصاص له أَهمّيةٌ من حيث الإتقانُ ، والقوّةُ ، والإبداعُ ، والإحاطةُ ، وقلّةُ الوقوع في الأخطاء .
وعدَمُ الاختصاص قد يوقعك في مزالقَ ؛ أَنت عنها في غَـناء ، وقد ذُكِر عن العلماء :
( مَنْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِ فَنِّهِ ؛ فَقَدْ أَتَى بِالْعَجَائب) .
وقالوا - أَيضاً - :
فَاعْنَ بِهِ وَلا تَخضْ بالظّنِّ ... وَلا تُؤيّدْ غيرَ أَهل الفنِّ
وقالوا - أَيضاً - :
«منْ تكلَّفَ ما جهل ، ولم تـثبِّتْه المعرفةُ كانت موافقـتُه للصّواب غيـرَ محمودة ، وكان خطؤُه غيـرَ مغفور ؛ إذا ما نطق فيما لم يحط به علماً» .
وقالوا - أَيضاً - : «لوْ تأَمّل المتأمّل بالنّظر العميق ، والفكر الدّقيق ؛ لَعلِم أنّ لكلّ علمٍ خاصِّيةً».
وقالو - أَيضاً - : «لولا أهلُ المحابر ؛ لخطبة الزّنادقة على المنابر» !!
وقالوا - أَيضاً - : «أَهلُ الحديث أَعظم درجةً من الفقهاء » .
لذَا ؛ فقد درج العلماء - قديماً وحديثاً - على الاختصاص ؛ فجعلوا - مثلاً - :
المحدِّثُ : منوط به دراسةُ علم الحديث روايةً ودرايةً ؛ جرحاً وتعديلاً ؛ فهو يُعنَى بكلّ شيْء صدر ؛ من حديث ، أَو خبر ، أَو أَثر ، وما يتعلّق بها من أَحوال الرّواة .
الأُصولِيُّ : مَنُوطٌ به علم دراسة الأحكام الشّرعية من أَدلَّتها الأُصوليّة ؛ مثلِ : القرآن ، والسّنّة ، والإجماع ، والقياس ... إلخ ، وكيفيّة دلالالتها اللّفظية والحُكميّة ؛ من أَمرٍ ، وَنهي ، وعامّ ، وخاصّ ... إلخ.
الفقيه : منوط به قسمُ العبادات ، وَقسمُ المعاملات ، أَوِ السّياسة المدنية ؛ فهو المطلوب منه : أَن يقعّد القواعد الفقهيّة ؛ الّتي تُبنى من خلال القواعد الأصوليّة .
المفسِّر : منوطٌ به علوم القرآن ؛ من التفسير ، ومعرفة أسباب النّزول ، وآيات الأحكام ، والجمع ، والترتيب ، ومعرفة المكّيّ والمدنيّ ، وغير ذلك .
المتكلِّم : منوط به علم المخاصمة ، والرّدّ على أمثال الفرق الضّالّة الأَربع :
من اليهود ، والنّصارى ، والمشركين ، والمنافقين ، وأزيد : الشّيعة ؛ فهم بحاجة إلى أمثال شيخ الإسلام ابن تيميّة ؛ لذا لا أَنصح المبتدي بمحاولة مقارعتهم ، أو قضّ ضجيعهِم .
الواعظ : منوط به علمُ التَّذكير بآلاء الله : كخلق السّموات والأَرَضِين ، وإلهام العباد ما ينبغي لهم ، وبيان صفات الله القولية ، والفعلية ، والذّاتية ، والتّذكير بأيّام الله القادمات، والجنّة والنّار ، وغير ذلك .
أَخي الطّالبُ !
ذكرنا بعضَ الأمثلة على أَهميّة الاختصاص ؛ وهي أَهمّ مراحل التّأْليف ؛ بل هي جُمّاعُ التّصنيف .
المرحلة الثّانية
أَوّلاً : عليه أن لا يتعجّل في إخبار النّاس لأَيٍّ كان ، وأن يستعينَ على إنجاح حاجته بالكتمان ؛ وقد ورد عن الرّسول - عليه السّلام - قولُه :
«استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ؛ فإنّ كلَّ ذِي نعمة محسود»
وتقول القاعدة الفقهيّة : (من تعجّل الشّيء قبل أَوانه ؛ عوقب بحرمانه ) ؛ لكن نستثني من هذه القاعدةِ شيخَك ؛ لأنّه دائم الاطّلاع ، خرّيت الباع ، ثمّ الأستاذ أعلم منك بدون نزاع.
وزد على ذلك :
- أنّ شيخك يوفّر عليك الوقت والْمَقْت .
- وأنّ شيخك لا يمنع الخير عنك .
- وأَنّ شيخك أَعرف منك بقدراتك .
- وأنّ شيخك يستر عليك عيوبك .
- وأنّ شيخك يحبّ لك الخير ، ولا يتمنّى زوال النّعمة عنك .
يتبع 000
الْحَمْدُ لله ، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ الله .
أَمّا بَعْدُ :
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ اسْتَمِـعْ …حَتَّـى بِرسْمي تَنْتَفِـعْ
إنْ كُنْتَ تَبْغِي سُلَّمَـا ... بِالْعِلْمِ جَمْعًا تَرْتَفِــعْ
هَذِي حُرُوفُ الْمُرْتَجِي...نَفْعَ الصَّحَابِ وَالْجَمِـعْ
فَاللـهَ نَسْأَلْ يَا أَخِـي … أَجْرَاً لِيَوْمٍ نَرْتَجِــعْ
فَهَذِهِ - يَا طَالِبَ الْعِلْمِ - دُرُوسٌ عَامَّة فِي كَيْفِيَّةِ التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيف ، لِمَنْ آتَاهُ اللهُ فَهْمَاً ثَاقِبَاً ، وَاطِّلاَعَا وَاسِعَاً .
بينَ يديِ الرّسالة :
لاَ بُدُّ قَبْلَ الْبَدْءِ بِمَوْضُوعِنَا ؛ أَنْ نَسْتَحْضِرَ بَعْضاً مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْنِيفِ؛ إذْ يَزْعُمُ بَعْضُ النّاسِ ؛ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْقَدِيمَةَ يُوجَدُ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ ؛ مِمّا يَحْتَاجُهُ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ ؛ وَلاَ حَاجَةَ إلَى التَّأْلِيفِ أَوِ التَّصْنِيفِ !
وَأَنَا أَقُولُ : هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْقَائِل - مَعَ الاِعْتِرَافِ بِفَضْلِ الأَوَائِل -؛ وَذَلِكَ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ:
أَوّلاً : كَلاَمُهُ لاَ يَسْتَنِدُ إلَى قَاعِدَةٍ عِلْمِيّةٍ ، أَوْ أَدِلَّةٍ شَرْعِيّة ؛ إنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ اجْتِهَادٍ شَخْصِيٍّ مَبْنِيٍّ عَلَى شَفَا جُرْفٍ هَارٍ ! وَهَذَا -وَحْدَهُ -كَافٍ لِرَدِّهِ مِنْ مِئَاتِ الْوُجُوهِ !!
ثَانِيَاً : نَسْأَلُ الزَّاعِمَ : وَأَيُّ ضَرَرٍ يُحْدِثُهُ التَّصْنِيفُ عَلَيْكَ أَوْ عَلَى الأُمَّةِ ؟!!
ثَالِثَاً : وَأَيُّ نَفْعٍ سَتَنَالُهُ الأُمَّةُ مِنْ مَنْعِ التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ ؟!
رَابِعاً : وَمَنْ ذَا الَّذِي يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله ؟!
خَامِساً : لَوْلاَ الْكُتُبُ الْحَدِيثَةُ وَالتَّصَانِيفُ الْعَدِيدَة ؛ مَا حُفِظَتِ الْكُتُبُ الْقَدِيمَة ؛ فَهِيَ
- تَمَامَاً - كَالْقِشْرَةِ وَلُبِّهَا ؛ لاَ يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ ؛ إلاَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ وُجُوداً ، وَأَنْفَعُ حَاجَةً !
سَادِسًاً : أَمّا مَسأَلَةُ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ ؛ فَلاَ ضَابِطَ لَهَا ، وَلاَ مَاسِكَ لِخِطَامِ زِمَامِهَا ؛ فَعِلْمُ مَا فِي السُّطُور سَبَقَهُ عِلْمُ مَا فِي الصُّدُور ، وَهَكَذَا تَجْرِي الأُمُور : يُصْبِحُ الْقَدِيمُ حَدِيثَاً نِسْبَةً لِمَا قَبْلَهُ ، وَيُصْبِحُ الْحَدِيثُ قَدِيمًا نِسْبَةً لِمَا بَعْدَهُ ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ ؛ فَحَنَانَيْكَ !!
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ، قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللهُ
- صَلَّى الله علَيهِ وسلَّم - : «قيِّدُو العلمَ بالكتَاب» .
قَالَ الْعلماءُ : «ينبغِي أَن لا يخلُوَ التَّصنيفُ من أَحد المعاني الثّمانية ؛ الّتي تُصنِّف لها العلماءُ ؛ وهي :
أوّلاً : « اختراعُ معـدوم» ؛ أَي : لم تُسبَق إليه - فيما تعلم وتعتقد -.
ثانياً : « جَمِـعُ مُفتَـرقٍ » ؛ أي : مسأَلة مُشتّتة وَأَدلَّتُها في بطون الكُتب ؛ تَجمعها في كتاب واحد .
ثالثاً : «تكميـلُ ناقـصٍ » ؛ أَي : أنَّ الموضوع لم يكتمل فيه جانب من الجوانب ؛ فتُكمِلُه أَنتَ .
رابعاً : «تفصيـلُ مجمـلٍ» ؛ أي : أَنَّك تفصِّل المسأَلةَ شيئاً فشيئاً حتّى يذهبَ تراكم المعاني ، ويتضّح المراد .
خامساً:«تهـذيبُ مطـوَّلٍ» ؛ أي : أَنّك تلجأُ إلى الاختصار دون الإخلاَل .
سادساً:«ترتيـبُ مُخلَّـطٍ» ؛ أَي : أَنّك تقدِّمُ وتؤَخّر في ترتيب المادّة أوِ الموضوع.
سابعاً : «تعيـينُ مبهـمٍ » ؛ أَي : أنّك تعيّن وجود موضع خفيّ في مسأَلة أو نقطة أو نكتة لتظهرها ، وتجلّي أمرها .
ثامناً : «تبيـينُ خطـإٍ» ؛ أَي : أَنّك تصحّح خطأَ الغَير إذا أَيقنت صواب ما أَنت عليه.
وَأخيراً :
أرجو الله أن ينفع بها طلبة العلم ؛ المنتظرين من يفجِّر لديهمُ الطّاقات ، وَأن لا يحرم الأمّة من الإبداعات .
وهذا أَوان الشّروع في المشروع ؛ فأَقول - وبالله التّوفيق - :
المرحلـةُ الأُولـى
(التخصّص)
أُوصِي - والوصيّة غيـرُ مُلزِمـة ؛ بل مُعلِمة:
أَنْ تَسْتَجْمِعَ قُوَاكَ الْعَقْلِيَّةِ وَالذِّهْنِيَّة ؛ إذا عزمتَ أَمرك ، ووفَّرت مِدَادك ، وَشَحذْت قلمك .
وَأَنْ لاَ تَخْرُجَ عَنِ اخْتِصَاصِكَ فِي أَيٍّ مِنَ الْفُنُونِ الْعِلْمِيّة ؛ الَّتِي دَرَجْتَ عَلَيْهَا ؛ وهذا أمرٌ طبيعيٌّ ؛ لأنّ العلوم تعود إلى أَصلين لا ثالِثَ لهما - فيما أعلم - :
الأَصل الأَوّل : علوم تُدرك بالعقل ؛ خاصّة فيما يتعلّق بالحواسّ عند أنواع المخلوقات.
والأَصل الثّاني : علوم تدرك بالنّقل - أَو فيما يسمّيه البعض بالسّمعيّات أَوِ الخبريّات -؛ وهي الّتي لا تُدركُ إلاّ عن طريق الشّارع والشّرع ، وَأَمّا العقل ؛ فلا مجال له فيها سوى التّلقّي والتّسليم .
فالتّخصُّص والتّنوّع مطلب طبيعيٌّ لدَى الإنسان لا مفرّ له منه .
ومن المعلوم - أَيضاً - : أَنّ الاختصاص له أَهمّيةٌ من حيث الإتقانُ ، والقوّةُ ، والإبداعُ ، والإحاطةُ ، وقلّةُ الوقوع في الأخطاء .
وعدَمُ الاختصاص قد يوقعك في مزالقَ ؛ أَنت عنها في غَـناء ، وقد ذُكِر عن العلماء :
( مَنْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِ فَنِّهِ ؛ فَقَدْ أَتَى بِالْعَجَائب) .
وقالوا - أَيضاً - :
فَاعْنَ بِهِ وَلا تَخضْ بالظّنِّ ... وَلا تُؤيّدْ غيرَ أَهل الفنِّ
وقالوا - أَيضاً - :
«منْ تكلَّفَ ما جهل ، ولم تـثبِّتْه المعرفةُ كانت موافقـتُه للصّواب غيـرَ محمودة ، وكان خطؤُه غيـرَ مغفور ؛ إذا ما نطق فيما لم يحط به علماً» .
وقالوا - أَيضاً - : «لوْ تأَمّل المتأمّل بالنّظر العميق ، والفكر الدّقيق ؛ لَعلِم أنّ لكلّ علمٍ خاصِّيةً».
وقالو - أَيضاً - : «لولا أهلُ المحابر ؛ لخطبة الزّنادقة على المنابر» !!
وقالوا - أَيضاً - : «أَهلُ الحديث أَعظم درجةً من الفقهاء » .
لذَا ؛ فقد درج العلماء - قديماً وحديثاً - على الاختصاص ؛ فجعلوا - مثلاً - :
المحدِّثُ : منوط به دراسةُ علم الحديث روايةً ودرايةً ؛ جرحاً وتعديلاً ؛ فهو يُعنَى بكلّ شيْء صدر ؛ من حديث ، أَو خبر ، أَو أَثر ، وما يتعلّق بها من أَحوال الرّواة .
الأُصولِيُّ : مَنُوطٌ به علم دراسة الأحكام الشّرعية من أَدلَّتها الأُصوليّة ؛ مثلِ : القرآن ، والسّنّة ، والإجماع ، والقياس ... إلخ ، وكيفيّة دلالالتها اللّفظية والحُكميّة ؛ من أَمرٍ ، وَنهي ، وعامّ ، وخاصّ ... إلخ.
الفقيه : منوط به قسمُ العبادات ، وَقسمُ المعاملات ، أَوِ السّياسة المدنية ؛ فهو المطلوب منه : أَن يقعّد القواعد الفقهيّة ؛ الّتي تُبنى من خلال القواعد الأصوليّة .
المفسِّر : منوطٌ به علوم القرآن ؛ من التفسير ، ومعرفة أسباب النّزول ، وآيات الأحكام ، والجمع ، والترتيب ، ومعرفة المكّيّ والمدنيّ ، وغير ذلك .
المتكلِّم : منوط به علم المخاصمة ، والرّدّ على أمثال الفرق الضّالّة الأَربع :
من اليهود ، والنّصارى ، والمشركين ، والمنافقين ، وأزيد : الشّيعة ؛ فهم بحاجة إلى أمثال شيخ الإسلام ابن تيميّة ؛ لذا لا أَنصح المبتدي بمحاولة مقارعتهم ، أو قضّ ضجيعهِم .
الواعظ : منوط به علمُ التَّذكير بآلاء الله : كخلق السّموات والأَرَضِين ، وإلهام العباد ما ينبغي لهم ، وبيان صفات الله القولية ، والفعلية ، والذّاتية ، والتّذكير بأيّام الله القادمات، والجنّة والنّار ، وغير ذلك .
أَخي الطّالبُ !
ذكرنا بعضَ الأمثلة على أَهميّة الاختصاص ؛ وهي أَهمّ مراحل التّأْليف ؛ بل هي جُمّاعُ التّصنيف .
المرحلة الثّانية
أَوّلاً : عليه أن لا يتعجّل في إخبار النّاس لأَيٍّ كان ، وأن يستعينَ على إنجاح حاجته بالكتمان ؛ وقد ورد عن الرّسول - عليه السّلام - قولُه :
«استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ؛ فإنّ كلَّ ذِي نعمة محسود»
وتقول القاعدة الفقهيّة : (من تعجّل الشّيء قبل أَوانه ؛ عوقب بحرمانه ) ؛ لكن نستثني من هذه القاعدةِ شيخَك ؛ لأنّه دائم الاطّلاع ، خرّيت الباع ، ثمّ الأستاذ أعلم منك بدون نزاع.
وزد على ذلك :
- أنّ شيخك يوفّر عليك الوقت والْمَقْت .
- وأنّ شيخك لا يمنع الخير عنك .
- وأَنّ شيخك أَعرف منك بقدراتك .
- وأنّ شيخك يستر عليك عيوبك .
- وأنّ شيخك يحبّ لك الخير ، ولا يتمنّى زوال النّعمة عنك .
يتبع 000