المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (( الرد على من يكفر العلماء بشبهة الموالاة للمشركين )) ، لمعالي الشيخ صالح آل الشيخ


كيف حالك ؟

بن حمد الأثري
10-30-2007, 12:14 PM
(( الرد على من يكفر العلماء بشبهة الموالاة للمشركين ))

لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
- سلمه الله -

السؤال: يقول أجلسُ مع بعض الناس ويقولون: إنّ العلماء الكبار كفّار؛ لأنّهم يظاهرون المشركين ويوالونهم، ويعلِّمون هذا لصغار السنِّ ويربونهم عليه، لا سيما بعد صدور الفتاوى في تحريم التفجيرات في بلاد الكفَّار؟

الجواب: أولاً: الواجب على كل مؤمن بالله جل وعلا يرجو لقاءه ويخشى لقاءه أن يحذر أتم الحذر أن يقول بلا علم، وأن يجترئ على ما ليس له به حجّة، سيما في مسائل الاعتقاد، ومسائل الإيمان والتكفير، ومسائل الحلال والحرام، وإذا كان في الحلال والحرام قال الله جل وعلا: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]، هذا فيما يقوله بعض من ليس له حجة بلفظ هذا حلال وهذا حرام وليس عنده بيّنة، وجميع مسائل القول على الله بلا علم في مسائل العمليات والفقهيات ومسائل العقيدة وهي أشدّ تدخل في هذا السبيل، ولهذا حرّم الله جلّ وعلا أن يقفو المرء ما ليس له به علمٌ، وأن يقول ما ليس به علم كما قال جل وعلا: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]، وفي الحديث: ((من أُفتِي بفتوى من غير ثبتٍ فإنّما إثمه على من أفتاه))([1]).

ومن أعظم ما وقع في الأمّة من الانحراف عن الحقّ تكفير المسلم الذي ثبت إسلامه، وعدم الاستبيان منه، وهذا كان له بوادر في زمن الصحابة، في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعلَّمنا كيف تعالج هذه البوادر، كيف ينظر في هذا الأمر؟

فهذا عمر رضي الله عنه قال في شأن حاطب رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((يا عمرُ، أرسله))، ثم التفت إلى حاطب وقال: ((يا حاطب، ما حملك على هذا؟)) فأجاب بجوابه المعروف([2]).

وأسامة بن زيد رضي الله عنهما لما قتل رجلاً يقول: لا إله إلاّ الله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أقتلته بعد أن قال لا إله إلاّ الله؟!)) قال: يا رسول الله، إنّما قالها تعوذًا، قال: ((فما تفعل بلا إله إلاّ الله؟))([3]).

وهذا فيه النكير على عدم قبول أسامة رضي الله عنه إسلام الرجل بقول: لا إله إلاّ الله.

واعترض معترضٌ على النبيّ صلى الله عليه وسلم في قسمته المال لما قسم المال بعد إحدى الغزوات فقال: يا رسول الله، اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟!)) فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم مالاً كثيرًا، ثم قال: ((يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية))([4]) وهم الخوارج.

وفي عهد عثمان رضي الله عنه ظهر هؤلاء الخوراج، وكان أساس انحرافهم هو نظرهم في أنّ الوالي أو أمير المؤمنين رضي الله عنه لم يقم بما أوجب الله عليه، فمنهم من كفَّره، ومنهم من أوجب قتله، حتى قُتل بسبب تصرفاته كما يزعمون! وكفروا طائفة أيضًا في ذلك الزمان حتى قام عليّ رضي الله عنه وحصل منه ما حصل بالنسبة لهم ثم كفَّروه، وسار إليهم ابن عباس وكانوا نحوًا من مائة وعشرين ألفًا ووعظهم وحاجّهم، وكان أساس كلامهم في مسألتين:

في مسألة: الحكم بما أنزل، وتحكيم الرجال في كتاب الله جل وعلا.

وفي مسألة: تكفير من ارتكب المعصية.

ومنهم من رجع بعد نقاش ابن عباس لهم، ومنهم من لم يرجع، واستمر ذلك في الأمة، فعثمان رضي الله عنه كُفِّر، وعليّ رضي الله عنه كُفِّر، وهكذا سادات الأمّة كفَّرهم معارضوهم بسبب أو بآخر.

والتكفير معناه: الحكم بالخروج من الدين، الحكم بالردّة، والحكم بالردّة على مسلم ثبت إسلامه لا يجوز إلاّ بدليل شرعي يقيني بمثل اليقين الذي حصل بدخوله في الإيمان، والأصل في ذلك قول الله جل وعلا في سورة براءة في ذكر المنافقين: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـٰمِهِمْ} [التوبة: 74]، وفي آية سورة آل عمران قال الله جل وعلا: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَـٰنِهِمْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْرًا} [آل عمران: 90]، ونحو ذلك في أنّ المؤمن أو من أسلم أو آمن قد يخرج من الدين، ولكن ضبطه أهل السنة والجماعة بضوابط كثيرة معلومة، ثم إنّ أهل السنة يفرقون ما بين الكلام على الفعل والقول والعمل بأنّه كفر، وقيام هذا العمل بمكلّف هل هو يخرج به من الدين أم لا؟ لأنّ المكلّف قد يكون جاهلاً ببعض المسائل، وقد يكون متأوّلاً، وقد يكون لم تبلغه الحجّة التي يصير بها قد قامت عليه الحجّة، وقد يكون معذورًا وقد لا يكون، وهذه تحتاج إلى إقامة شروط وانتفاء موانع.

فأهل السنة وسط في هذا الباب بين الخوارج: الذين يكفِّرون بالذنب، ويُكفِّرون بمطلق الحكم بغير ما أنزل الله، وبمطلق الموالاة للكفار ونحو ذلك وأشباهه، وما بين المرجئة الذين لا يرون من ثبت إيمانه أنّه يخرج من الإيمان بفعل أو بقول أو باعتقاد.

وأهل السنة بين هذا وهذا، ويقولون: إنّ من ثبت إيمانه بيقين لا يجوز أن يُخرج من هذا الإيمان إلاّ بحجّة وظهور الشروط وانتفاء الموانع.

فإذا كان كذلك فإنّ الذي يُقيم الحجّة وينظر في الشروط والموانع هو المؤهّل لها شرعًا، وهم القضاة الذين عندهم معرفة بما فيه التأويل وما ليس فيه التأويل، وما يكون من أحوال الناس، وبعض طلبة العلم قد لا يَحسُن منه الدخول في هذا لعدم معرفته بوسائل الإثبات والبيّنات، وما يحصل به إثبات الشيء من عدمه شرعًا، ومسائل القضاء هي التي تترتب عليها الأحكام، وهذه تحتاج فيها إلى حكم قاضي يثبت فيه الكفر على المعيّن، لأنّه إذا ثبت الكفر على معيّن فإنّها سترتب آثار الردّة عليه، وهي كثيرة.

إذا تبيَّن هذا فإنّ أعظم من يُحذر من النيل من إيمانه والنيل من صحة إسلامه وصحة اعتقاده هم علماء أهل السنة والجماعة، القائمون بأمر الله، فالعلماء المسلمون عمومًا هم القائمون بأمر الديانة، وهم الذين يؤخذ عنهم الدين، وهم الذين يبصِّرون الناس بالحقّ من غيره، ومن توجّه إليهم بالتكفير فأوّل ما يتجه له قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((من قال لأخيه: يا كافر، فقد بها أحدهما)).

ولا بدّ إمّا أن يبوء بها الفاعل، أو يبوء بها الآخر، هذا خطر عظيم على قائل تلك الكلمة، خطرٌ عظيمٌ جدًا على دينه؛ لأنّه إمّا يكون الآخر كما قال، وإمّا أن ترجع عليه بهذا الحكم، وهذا يوجب الحذر الشديد من مثل هذه الكلمة.

والعلماء لاشك أنّ عندهم من البصر بالشريعة والبصر بالكتاب والسنة والدلائل الشرعية ما يجعلهم ينظرون في المسائل نظرًا واسعًا، والمسائل الشرعية في فقهها مبنيّة على مقدمتين:

أمّا المقدمة الأولى فهي ورود الدليل، وهو محل الاستدلال، وهو ورود الدليل من الكتاب أو من السنة على المسألة التي فيها تنازع، ثم فهم هذا الدليل يعني: هذه المقدمة الأولى وفهم الدليل من قبلهم فهمًا يجعل عندهم ظهور بأن معنى هذه الآية هو كذا، ومعنى هذا الحديث هو كذا.

والمقدمة الثانية: أن يكون هناك تحقيق للمناط في تنـزيل هذه الحكم على هذا الدليل، أو في إلحاق هذه المسألة بالدليل ليؤخذ منه الحكم.

وتنقيح المناط صنعة اجتهادية كما قرّره الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات، وأهل العلم يختلفون عن سائر القراء أو طلبة العلم أو من عنده قراءة في قيام هذه الفتوى عندهم على هاتين المقدمتين، وكثير من طلبة العلم قد يعلم الأولى، لكن لا يعلم الثانية، وهي فقه تنـزيل النازلة على وجه الدليل لينظر فيها بالحكم.

هذا يقتضي أن يقي طالب العلم نفسه في أنّه ينظر إلى تبرئة ذمته بأن يجعل كلام أهل العلم الذين اجتمعوا على قول ما أن يجعله مانعًا له من أن يخوض في المسألة بغير علم؛ لأنّ المرء ينظر إلى أنّه إذا خالفه واحدٌ هو أعلم منه قد يشك فيما اتجّه إليه؛ فكيف إذا كان جمعٌ كبيرٌ من علماء المسلمين، أو من العلماء الربانيين، ينظرون إلى هذا الأمر ويخالفونه أو يقولون فيه بقول؟!

لهذا فالقول – أي ما ذكره السائل بقوله: إنّ العلماء الكبار كفّار، لأنّهم يظاهرون المشركين ـ هذا من الخطر العظيم من أن يقول قائل بمثل هذه الكلمة:

أولاً: لأنّ العلماء الكبار يُبيّنون الحقّ، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم في زمن الخوارج يبيِّنون الحقّ، وإذا اتهمهم أحدٌ أو رماهم بالكفر لأجل تبيينهم الحقّ فلا يعني أن رمي هذا الرامي أنه موافق للصواب، بل جنايته على نفسه، ويجب أن يؤخذ على يده، وأن يعزّر تعزيرًا بليغًا من قِبل القضاة بما يحجزه عن ذلك، ولما فات التعزير الشرعي في مثل هذه المسائل كثر القول، وكثر الخوض فيها، وقد كان القضاة فيما مضى يعزِّرون في قول المسلم لأخيه: يا كلب أو: يا كذا بما فيه انتقاص له، فكيف إذا كان فيه رمي بمثل هذا الرمي العظيم الذي لا يجوز لمسلم يخشى الله أن يتفوّه به، فضلاً على أنّه يعتقده.

ثم ما يتعلق بمظاهرة المشركين وتولي الكفّار، فإنّ هذه المسألة بحثناها في عدة مجالس وفي عدة شروح، وبيّنا فيها أنّ عقد الإيمان يقتضي موالاة الإيمان والبراءة من الكفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ} [المائدة: 55، 56].

وعقد الإيمان يقتضي البراءة من المعبودات والآلهة المختلفة ومن عبادتهم لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26، 27].

فأساس الإيمان هو الولاء للإيمان والبراءة من الكفر وعبادة غير الله جل وعلا، ويتضمن ذلك موالاة أهل الإيمان والبراءة من أهل الكفر على اختلاف مللهم.

هذه الموالاة منها ما يكون للدنيا، ومنها ما يكون للدين، فإذا كانت للدنيا فليست بمخرجة من الدين، وممّا قد يكون في بعض الأنواع من الموالاة في الدنيا من الإكرام أو البشاشة أو الدعوة أو المخالطة ما قد يكون مأذونًا به ما لم يكن في القلب مودّة لهذا الأمر، من مثل ما يفعل الرجل مع زوجته النصرانية، ومن مثل ما يفعله الابن مع أبيه غير المسلم، ونحو ذلك ممّا فيه إكرام وعمل في الظاهر، ولكن مع عدم المودة الدينية في الباطن، فإذا كان الموالاة للدنيا فإنّها غير جائزة إلاّ في ما استثني؛ كما ذكرنا في حال الزوج مع الزوجة والابن مع أبيه؛ ممّا يقتضي معاملة وبِرًّا وسكونًا ونحو ذلك.

أمّا القسم الثاني: فأن تكون الموالاة للدنيا؛ ولكن ليس لجهة قرابة، وإنّما لجهة مصلحة بحتة في أمر الدنيا وإن فرّط في أمر دينه، فهذه موالاة غير مكفِّرة؛ لأنّها في أمر الدنيا، وهذه التي نزل فيها قول الله جل وعلا: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ٱلْحَقّ} [الممتحنة: 1]، وهنا أثبت أنّهم ألقوا بالمودّة وناداهم باسم الإيمان، قال جمعٌ من أهل العلم: مناداة من ألقى المودة باسم الإيمان دل على أن فعله لم يخرجه من اسم الإيمان.

هذا مقتضى استفصال النبيّ صلى الله عليه وسلم من حاطب رضي الله عنه، حيث قال له في القصة المعروفة: ((يا حاطب، ما حملك على هذا؟)) يعني: أن أفشى سرّ رسول الله صلى الله وسلم، فبيّن أنه حمله عليه الدنيا وليس الدين.

والقسم الثالث: موالاة الكافر لدينه، يواليه ويحبه ويودّه وينصره لأجل ما عليه من الشرك ومن الوثنية ونحو ذلك، يعني محبة لدينه، فهذا مثله، هذه موالاة مكفِّرة لأجل ذلك، والإيمان الكامل ينتفي مع مطلق موالاة غير المؤمن؛ لأنّ موالاة غير المؤمن بمودته ومحبته ونحو ذلك منافيه للإيمان الواجب لقول الله جل وعلا: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].

أمّا مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين هذا من نواقض الإسلام، كما هو مقررٌ في كتب الحنابلة وذكره العلماء، ومنهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النواقض العشر الناقض الثاني.

وهذا الناقض مبني على أمرين، الأول: المظاهرة، والثاني: الإعانة.

قال: (مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين).

والمظاهرة: أن يتخذ أو أن يجعل طائفة من المسلمين أنفسهم ظهرًا للكافرين، يحمونهم فيما لو أراد طائفة من المؤمنين أن يقعوا فيهم، يحمونهم وينصرونهم ويحمون ظهورهم وبيضتهم.

هذا مظاهرة بمعنى أنه صار ظهرًا لهم.

قول الشيخ رحمه الله: (مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين) مركب من أمرين:

المظاهرة بأن يكون ظهرًا لهم بأي عمل، أي: يكون ظهرًا يدفع عنهم ويقف معهم ويضرب المسلمين لأجل حماية هؤلاء.

وأمّا الثاني: فإعانة المشرك على المسلم، فضابطها أن يعين قاصدًا ظهور الكفر على الإسلام؛ لأنّ مطلق الإعانة غير مكفر؛ لأنّ حاطب رضي الله عنه حصل منه إعانة لهم، إعانة للمشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم بنوعٍ من العمل، والإعانة بكتابة سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسير إليهم، لكن النبيّ صلى الله عليه وسلم استفصل منه، فدلّ على أن الإعانة تحتاج إلى استفصال، والله جل وعلا قال في مطلق العمل هذا: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]، لكن ليس بمكفِّر إلا بقصد، فلما أجاب حاطبٌ بأنّه لم يكن قصده ظهور الكفر على الإسلام قال: يا رسول الله، ما فعلتُ هذا رغبة في الكفر بعد الإسلام، ولكن ما من أحدٍ من أصحابك إلا له يدٌ يدفع بها عن أهله وماله، وليس لي يد في مكة، فأردتُ أن يكون لي بذلك لي يد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله اطّلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم))([5]).

وحاطب فعل أمرين:

الأمر الأول: ما استفصل فيه، وهي مسألة: هل فعله قاصدًا ظهور الكفر على الإسلام، ومحبة للكفر على الإسلام؟ لو فعل ذلك لكان مكفرًا ولم يكن حضوره لأهل بدرٍ غافرًا لذنبه، لأنه يكون خارجًا عن أمر الدين.

الأمر الثاني: أنّه حصل منه نوع إعانة لهم، وهذا الفعل فيه ضلال وذنب، والله جل وعلا قال: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ٱلْحَقّ} إلى قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ} [الممتحنة: 1 ـ 6]، أي: في إبراهيم ومن معه. وهذا يدل على أن الاستفصال في هذه المسألة ظاهر، فالإعانة فيها استفصال، وأمّا المظاهرة بأن يكون ظهرًا لهم ويدفع عنهم ويدرأ عنهم ما يأتيهم ويدخل معهم ضد المسلمين في حال حربهم لهم هذا من نواقض الإسلام التي بيّنها أهل العلم.

فهذه المسائل اقتضى إطالة الجواب فيها للسؤال، ومع الأسف أنّه على كثرة ما جاء من بحوث في هذه من قديم من وقت سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز والشيخ محمد ابن عثيمين وكثرت هذه المسائل ورُدِّدت لكن نخشى أن يكون المنهج التكفيري يمشي في الناس.

والخوارج سيبقون، ومعتقدات الخوارج ستبقى، والناس إن لم يتداركوا أنفسهم قد يكون فيهم خصلة من خصال الضلال؛ إن لم يحذروا من ذلك.

والواجب علينا جميعًا أن نحذر ونتنبه للحقّ، وأن نتواصى به، وأن نكون حافظين لألسنتنا من الوقوع في ورثة الأنبياء وهم العلماء، وقد أحسن ابن عساكر رحمه الله إذ قال في فاتحة كتابه تبيين كذب المفتري قال: "ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في منتقصيهم معلومة"، وهذا ظاهرٌ بيّنٌ، والتجربة تدل عليه، ورؤية الواقع تدل عليه.

وقانا الله وإيّاكم من زلل الأقوال، ومن زلل الأعمال، وسوء المعتقدات، وهدى ضالّ المسلمين، وبصرنا وإياهم بالحقّ.

وبالمناسبة نحتاج إلى أن نفقه كيف يُردّ على من خالف في مثل هذه المسائل والمخالفين في التكفير أو في التضليل أو في ذكر الأمور على غير ما هي عليه، يجب:

أولاً: أن لا يرد الباطل بباطل، وأن الباطل يرد بالحقّ، من كفَّرنا لا نكفِّره لأجل تكفيره لنا، ومن بدَّعنا لا نبدّعه لأجل تبديعه لنا، وإنّما هذه مسائل تحتاج إلى ردّ الباطل بالحقّ، هذا هو منهج السلف الصالح، منهج أئمة أهل السنة والجماعة.

ثانيًا: أن يُحرص على هداية هؤلاء، وينظر إليهم في الهداية بما يناسبهم، إذا كانوا يحتاجون إلى نصيحة ينصحون، إلى إجابة للشبهات يُجاب عليهم، فقد يهدي الله جل وعلا بعض أولئك كما هدى طائفة من الخوارج مع ابن عباس رضي الله عنهما.

ثم الدعاء في مثل الأزمات والفتن والمصائب التي تقع ليس للمرء منجى ولا ملجأ إلاّ بربّه جلّ جلاله، فمن ترك الصلة بينه وبين ربّه بالدعاء وبسؤال الإعانة والبصيرة فإنّه يؤتى، وإذا كان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو المؤيّد من الله جلّ وعلا وهو صاحب الشريعة، وهو المهدي بالوحيّ من الله جل وعلا للحقّ يقول في دعائه: ((اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) فكيف بحالنا وحال أمثالنا؟! لا شكّ أننا أحوج إلى السؤال والدعاء في ذلك؛ الدعاء لأنفسنا، والدعاء أيضًا لمن نعلمه قد خالف الحقّ في ذلك، وإذا خالف وكفَّر وضلّ واعتدى على الإنسان في دينه أو في عرضه أو تكلم؛ لا يعني ذلك أن تقابل إساءته بمثلها، بل تصبر عليه، تدعو له؛ لأنّ طالب العلم همُّه إصلاح الخلق، قد يستجيبون وقد لا يستجيبون؛ ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء.

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

([1]) الحديث رواه أبو داود في كتاب العلم، باب التوقي في الفتيا (3657)، وابن ماجه في المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس (53).

([2]) قصة حاطب رواها البخاري في الجهاد والسير، باب الجاسوس (3007)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر (2494).

([3]) قصة أسامة أخرجها البخاري في المغازي، باب بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة (4269).

([4]) الحديث أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3610).

([5]) قصة حاطب رواها البخاري في الجهاد والسير، باب الجاسوس (3007)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر (2494).

المصدر : (( فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة )) (ص 179 - 194)

[منقول]

12d8c7a34f47c2e9d3==