المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه !! من أسباب نشوء التطرف والإرهاب - مقال مهم -


كيف حالك ؟

بن حمد الأثري
10-25-2007, 01:16 PM
رُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه!!
رؤية تصحيحية ومعالجة ترتهن للنصوص الشرعية وفقه الواقع

بقلم: أحمد علي آل مريع
كاتب وأكاديمي- كلية المعلمين بأبها

رقم الإيداع: 2074/1426
ردمك: 3 – 767 – 47 – 9960

﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )
آمين

والصلاة والسلام على الهادي الأمين، وآله و صحبه الكرام الميامين، ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين... اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، أنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً... اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وأفضل علينا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا إنك أنت الوهاب.. وأنت الغني الحميد..

* إضاءة وتوضيح
لا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن الورقة تنتقص حملة/حفظة الفقة أو الوعاظ أو الخطباء؛ وحاشى لله أن يكون ذلك من مقاصدها، فهؤلاء الفضلاء لهم مكانتهم المحفوظة، ودورهم المقدَّر في الدعوة إلى الله، وفي بنية المجتمع الإسلامي. بل إنَّها لتعظم المسئولية الملقاة على عواتقهم، في هذا العصر الذي كثر فيه دعاة الشهوات والشبهات، والطامعون في مقدَّرات البلاد والعباد؛ فهم صمّام من صمّامات الأمن والأمان الاجتماعي والسياسي والأخلاقي؛ ماداموا على وعي بحقيقة واجبهم، ويجب أن يظلوا كذلك.. إنما المراد هنا تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة؛ وضعًا للأمور في نصابها ودفعًا للعدوان والبغي؛ وصيانةً للمجتمع المسلم، وحفظًا لمصالح الأمة، وتبرئة لساحة العلماء الأجلاء الذين هم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام...

تمهيد
طرح كثير من أصحاب السماحة والفضيلة العلماء، والمختصين في قضايا الإرهاب وعلوم الجريمة، والأكاديميين مسألة: (الدوافع والأسباب الباعثة على الإرهاب) دراسةً ونقاشًا وتحليلاً، على أجندة الأوليات لمعالجة الإرهاب: وذهبت الآراء- في مجملها- إلى القول بتعدد الأسباب الدافعة إلى الإرهاب، وليس هذا الموضع موضع إحصائها وذكرها؛ إلا أن من أشهر هذه العوامل: التضليل الفكري الذي يَغسلُ به بعضُ ضعاف النظر، أو أصحابُ المآرب الخفيّة أدمغةَ الأغرار، وينحّون الفطرة الصالحة النقية من نفوسهم؛ بحجج كثيرة تتصيَّد الأخطاء وتضخمها، وتتكئ في جلها على العواطف المجردة، والحماسة الملتهبة، والتشدد الأعمى؛ مما لم يُنزل الله به من سلطان؛ إلا تزكية النفس والفهم، وأحدية النظرة، واتباع الأغراض الفاسدة، والظن والهوى؛ لذا جاءت هذه الورقة؛ ترتهن للنصوص الشرعية من جهة؛ ولفقه الواقع من جهة أخرى، تقول ما تعتقد أنه الحق في هذا الجانب؛ دون أن تسقط من حساباتها، الأسباب الأخرى التي عرض لها المهتمون، والله من وراء القصد..

السؤال الجوهري الذي يجب أن نفجَأَ به أنفسنا، وقد عشنا تبعات التطرف والإرهاب في بلادنا، هو: هل التطرف في بلادنا من صنع العلم أو الجهل؟! سؤال غريب فعلا!! لكن الواقع هو الذي أفرز هذا السؤال؛ لذا وجب علينا طرحه للنقاش والتأمل؛ كي نصل إلى إجابة مقنعة تساعدنا على تجاوز هذه المحنة، والإجابة لا تقل غرابة؛ إلاّ أنها تقرر: أن أحد أهم أسباب التطرف وما ترتب عليه من بغي واعتداء وتكفير- كما ظهر لي- هو التلقي غير المنضبط للعلم وليس الجهل!! لكن كيف والعلم- كما هو متقرر- سبب من أسباب الوعي، وصحة التصور، والإصابة في القول والفعل؟!

أجل، إن أمننا في بلادنا، وسماحة ديننا في أعين الآخرين لم يُؤتيا من جهلة لا يعلمون، ولكنهما أُتيا من متعلمين لهم صلة بالعلم، أقاموا بناءهم الفكري الغالي (من الغلو) على انتقاء النصوص الشرعية، وأسسوا عليها ممارساتهم بدءًا: بالغلو، ثُمَّ القطيعة، وانتهاءً بتسويغ العنف والإجرام والإرهاب، وتجنيد الأغرار للإخلال بأمن البلاد والعباد، وإزهاق الأنفس البريئة، وأفادوا من وسائل الإعلام، والاتصال الحديثة، وعلوم البرمجيات، وصناعات الأسلحة، وعلوم الجريمة، في الإعداد والتخطيط والتنظيم والتمويل والتنفيذ؛ بل وفي (تدويل) مفهوم الجريمة، وتغيير طبيعة علاقتها بالفكر والمجتمع والدولة والضحية؛ فالضحية لم تعد مقصودة بعينها بقدر ما يقصد بها أن تكون رقمًا مرعبًا، وقد تكون الضحية في الغرب وتكون الأهداف في الشرق، أو تكون الضحية في الجنوب والأهداف في الشمال، والعكس صحيح إلخ...

* * *
وقد أخبرنا الله عزَّ وجل أن العلم قد يكون سببًا من أكبر أسباب الفتنة والفرقة والاختلاف؛ إذا أُخذ بغير حقه، أو أُنزل في غير مكانه، ولم يقترن بالحكمة، والأخلاق الكريمة والقيم النبيلة التي دعا الدين إلى التحلي بها؛ أو خالطه شبهة أو شهوة أو هوى، قال تعالى:
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ... } [ الشورى: 13-14]
وقال تعالى بشأن الناس ومآل حالهم مع القرآن الكريم وما جاء به، وهو الهدى والعلم والصراط المستقيم:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26-27 ].
وجاء في الحديث النبوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله:
( إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا، وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا، فَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: صَدَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا؛ فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ؛ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، فَيَتَكَلَّفُ الْعَالِمُ إِلَى عِلْمِهِ مَا لَا يَعْلَمُ فَيُجَهِّلُهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا، فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا، فَعَرْضُكَ كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ) رواه أبو داوود في سننه: ج4/ 303، رقم الحديث (5012 ).
والعلم في ذاته قد يكون علمًا ضارًا فاسدًا كالسِّحر، فقد حذَّرنا الله عز وجل منه، وأثبت له من الأثر السيئ ما يفرق بين أشد المتلاصقات والمجتمعات والمؤتلفات، وهما: الزوجان، وتُصرف فيه أنواع من العبادة لغير الله؛ وبالرغم من ذلك فقد سماه الله عز وجلَّ علمًا ونهى عنه؛ قال تعالى:
{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ سورة البقرة الآية 102و 103]

وقد يكون العلم النافع - في ذاته أيضًا- أشد ضررًا على الناس من الجهل؛ إذا تلقفته النفوس المريضة؛ لأنه يُمكِّن بسلطانه لها، فتبلغ به في حاجاتها الفاسدة ما تعجز عنه حيلة المارد الجاهل.
كما أن العلم يكون وبالاً على صاحبه إذا لم يقم بحقه، فإبليس وهو من أعلم الخلق بالله وبالشرائع، حين استكبر واستنكف ولم يعمل بما علم، وجبت عليه اللعنة، وهي أعظم عقوبة لأنها طرد من رحمة الله. وكان استغلال سلطة: العلم، وحيل: الفقه في ظلم الناس والبغي عليهم سببًا في تغليظ الوعيد الموجه للقضاة؛ إذ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن قاضيًا في الجنة وقاضيين في النار؛ وأحدهما - بحسب التفسير النبوي - ممن يتحقق فيه العلم بأجلِّ صوره وأولاها في الإرشاد والعصمة؛ أعني: علم الشريعة؛ إلا أنه استوجب العقوبة الشديدة حين سلط علمه ومكانته على من هو تحته فقضى بالجور.
وقد صور القرآن الكريم العالِم الذي تنكب سبيل العمل بما يعلم، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، مع توافر أسباب الانتفاع والرقي والارتفاع؛ فلم يصحح العلم سريرته، ولم يظهر أثره عليه في سلوكه وسيرته؛ بالحمار الذي لا ينتفع بأبلغ نافع مع التعب في استصحابه، وبالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث:
- {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: آية 5]

- {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [ الأعراف الآية 175 و 176 ].

* * *

أمَّا لماذا انتهى بنا العِلم إلى محطة الغلو والتطرف المؤلمة؟! فالإجابة الشافية الوافية البعيدة عن التعميم غير متيسرة في مثل هذه السطور، لكني أعرض بإيجاز نقطةً واحدةً، وهي: أن العلم لم يُعامل بما يستحقه من إجلال وعناية، ولم يُحرص على أخذه بحقه من أهله الجديرين بما نالوه من مكانة. ومن أبرز الصور الناشئة عن ذلك: أننا مؤسساتٍ إعلامية وتربوية وخيرية؛ إعلاميين ومربين ومعلمين وآباء وأمهات؛ أفرادًا وجماعاتٍ؛ بحكم تنشئتنا الدينية النقية، وحسن الظن، والثقة المفرطة؛ والتساهل وقعنا في خلط كبير بين: العالم، وطالب العلم؛ واستوى لدينا: القاص، والواعظ، والمتعاطف، وحامل الفقه، والفقيه الرَّاسخ في العلم..
وقد ترتب على هذا الاضطراب أن صار بعض أبنائنا وبناتنا - دون تثبت أو تنبه إلى الفوارق الكبيرة، والعواقب الخطيرة- متلقين في مرحلة حرجة جدًّا من مراحل تكوينهم المعرفي والنفسي- وبرعاية مؤسساتية في كثير من الأحيان- عن أناسٍ لا فقه لهم.. حفظوا بعض النصوص، وربما استطاعوا استظهار كمٍّ كبير من أقوال الفقهاء والعلماء والسلف في المسألة الواحدة؛ والمشكلة تكمن في أنهم لم يحسنوا قراءة مخزونهم منها في إطار مجموع الشريعة وجمهرة الآراء، ولم يفطنوا لضرورة الإحاطة بالمقاصد العظمى من التشريع الإسلامي، وغاب عنهم ذلك الحسّ الإنساني والحضاري الذي تتدفق به نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة العطرة للرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام، فكانوا بهذا أقرب إلى حملة الفقه/ حفظة الفقه منهم إلى الفقهاء.
وهؤلاء وأمثالهم ما كان ينبغي أن يُرفعوا فوق منازلهم، ولا أن يُقدموا إلى أبنائنا وبناتنا بصفتهم: علماء محققين، ومفتين منزهين: نجود عليهم بألقاب سابغة، هي من أخص حقوق أصحاب الفضيلة والسماحة!! لأننا لسنا في موقف اجتماعي تُلطفه المجاملة لدقائق معدودة، بل نحن في مقام له ما بعده من أمور الدِّين والدّنيا، وفي موقف فكر وعلم وتربية، وتوقيع عن رب العالمين كما ذكر ابن القيم رحمه الله .
وكان عليهم- لو أنهم فقهوا- ألا يتجاوزوا حدود التذكير بالنصوص، والتوجيه، والاحتساب، ووعظ الناس؛ في حدود ما عليه أهل الحل والعقد والفقهاء المعتبرين في بلادهم، لا أن يتصدوا لقضايا الأمة الكبرى والخطيرة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها المعاصر.. كان عليهم أن يعرفوا من أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً للفتوى؛ ولو تجمهر حولهم العوام، وسعت إليهم المنابر، وأُسبغت عليهم النعوت، وكان عليهم أن يسعهم التوجيه النبوي الرشيد في حديث عظيم بهذا الخصوص؛ يقول فيه عليه الصلاة والسلام:
" نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أدّاها إلى من لم يسمعها؛ فربَّ حامل فقه لا فقه له، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه. منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأولي الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تكون من ورائهم ". رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين: ج 1 ص 162 رقم الحديث (295).
وقد جاء حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تبليغ مقالته/حديثه مقرونًا في بعض الروايات بقوله:"كما سمعها - كما سمعه - فحفظه " مع أن الخطاب كان موجهًا لتلاميذ النبوة رضوان الله عليهم، وما ذاك إلا دفعًا لمغبة الفهم السقيم عنه صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يحضر مقالته بمسجد الخيف من منى جمع كبير من الناس، يتفاوتون في قدرتهم، ومعرفتهم، وسبقهم إلى الإسلام.. ويلاحظ أيضًا أن الرسول قد قرن النصح لولي الأمر بوجوب لزوم الجماعة، والتحذير من الخروج عليهم.


* * *

إن الفقه ليس الإحاطة بالنصوص، أو أقوال السلف، أو أن نقول: قال فلان، وأفتى فلان، وتوقف فلان، كما قد يظن البعض... لأن هذا صفة حامل الفقه الذي ليس بفقيه.. أما الفقيه فشيء أسمى وأعلى من مجرد القدرة على الاسترجاع؛ إن الفقه بعبارة مقتضبة: العلم والتمرس، والنظر في النصوص والأسباب والنتائج، وفهم الواقع، وتأمل المقاصد.
لهذا لا تُستغرب تلك التراجعات لبعض رموز التيار المتشدد في مصر والمملكة العربية السعودية عن فتاوى تكفير المعينين، وجهاد التفجير والتدمير داخل أرض الإسلام، واستباحة دماء المسلمين والمستأمنين، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم الآثار المروعة لها على العباد والبلاد، بل على صورة الإسلام والمسلمين في العالم أجمع؛ كما لم يُستغرب من قبل تعسفهم فهمَ الولاء والبراء، وخلطهم بين الحرام والمنّكر، والبَيِّن والمتشابه، والتأويل والاستباحة، والذمي والحربي، والصائل وجند السلطان، الذين يأتمرون بالبيعة، ويحفظون أمن الجماعة؛ ليس لشيء أكثر من كونهم في الأصل ليسوا بأهل للفتوى بل هم من الصنف الأول، أي: من حاملي الفقه كما حدَّث الرسول الكريم.. وبالتالي فإنهم بمجرد ما طالعوا نصوصًا لم تتسع لها ذواكرهم فيما مضى؛ وتفصيلات عن الأئمة الفقهاء لم يقفوا عليها، وبمجرد أن قعدوا في مجلسهم الحقيقي مستمعين للعلماء، وهم ينقضون أسسهم الواهية أساسًا أساسًا، وتأملوا تبعات أقوالهم الشاذة أعلنوا تراجعهم..


* * *

وهنا يجب أن نستفيد عدة فوائد رئيسة:
§ أولها: أن العلم قد يكون سببًا من أسباب الفرقة والضلال والخصام إذا أُخذ دون تمحيص، أو قام به من ليس أهلاً له ولأمانته لشبهة أو شهوة أو غرض وهوى، أو لضعف في النظر ؛ أو لقصور في أسباب الفهم الدقيق؛ فيَضلَّ ويُضِلَّ به تلامذته وكثيرًا من الناس ، ويزيد الأمر سوءًا حين تَشيع الآراء الفطيرة، وتقرأُ بصفتها فتاوى محققة بالنصوص، وتُترك كثير من الأفكار (الخارجة) تتردد بين أبنائنا وفي صحفنا دون محاورة أو نقد؛ مما قد يهيئ لها تردادُها وتشددُها الظاهر مكانًا في نفوس الأغرار، الذين تنقصهم التجربة وتقصر بهم السن، أو بين من يفتقدون القدرة على المحاكمة الدقيقة؛ فيظنون التطرف عزيمة، والقتل جهادًا..
§ ثانيها: أن التطرف بطبيعته الثقافية ومكوناته الفكرية، غلوٌّ ينشأ داخل الثقافة نفسها معتمدًا على بعض أبنيتها القارَّة والفاعلة، ولكن وفق نسق مغاير من العلاقات المنحرفة، والنظر الفاسد، والاستنتاجات القاصرة. والتطرف إذا كان يشكل طرفًا نقيضًا للتساهل والتفريط فإنّ هذا يدعو للعمل على تعزيز فرص الفهم الصحيح، للقيم الثقافية، وفق رؤية وسطية معتدلة، وهذا يقتضي تعاضد جميع الأنساق الفاعلة في المجتمع لتشكيل المعرفة والتربية، ولتقديم الرؤية السويَّة، وتصحيح التصورات المفرِطَة أو المُفرِّطة، وكما يقول الشاعر:كلا طرفي قصد الأمور ذميم!!
§ ثالثها: أن الحق مع إمام المسلمين، وعلمائهم، وجماعتهم، وأنهم المنصورون بإذن الله، وأن منا علماء كبارًا، وفقهاء أجلاء، يملكون الحجة وصفاء المنهج، وصدق الولاء لله ثم للبيعة وللأمة؛ عليهم أن ينزلوا إلى ساحة الناس، ويعرفوا مشكلاتهم، وشبههم، وهمومهم، ويأخذوا في نقاشهم وحوارهم وإرشادهم، ويسدوا فراغ غيابهم، ليستبين السبيل، ويضح الحق، ويعم الأمن، ويقدم الإسلام سمحًا كما هو..
§ رابعها: تفعيل دور الجهات الرسمية للفتوى في البلاد، وحثِّها لإصدار الفتاوى الرشيدة مواكبة للأحداث المتسارعة، وللمستجدّات التي تحتاج إلى تبصير الناس وإرشادهم، وهذا يتطلب تزويد تلك الجهات بالمعلومات المهمة، والتغلب على عقبات الروتين الإداري.
§ خامسها: ضرورة العمل على منع من لا يوثق بعلمه وعقله وخلقه من إصدار الفتاوى التي تمس أمن المجتمع، وتماسك الأمة، أو تؤدي بها إلى الحرج، أو بمصالحها إلى الضرر؛ في زمن تحول العالم فيه إلى قرية واحدة، تتنقَّل في أرجائها المنافع والخبرات؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن - كما جاء في الأثر -
§ سادسها: وضع ضوابط محددة لمن يتولى مهمة الخطابة والوعظ، والتوجيه والإرشاد، وتقترح هذه الضوابط والمواصفات وزارة الشئون الإسلامية بالمدارسة مع أعضاء هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وأساتذة الشريعة في الجامعات السعودية. وأرى أن من أبرز هذه الضوابط، أن يكون من خريجي كلية الشريعة، وأن يكون صاحب خلق ودين، وألاَّ يكون من المعروفين بنزعاتهم الشاذة إلى الغلو والتطرف.
§ سابعها: العناية بالمعلمين والوعّاظ والمُذَكِّرين وخطباء المساجد، والذين يضطلعون بمهام التوجيه والتربية والتعليم والإرشاد في المجتمع، والنظر في مشكلاتهم، وتبصيرهم بأساليب الدعوة الحكيمة، وتزويدهم بفتاوى هيئة كبار العلماء في المستجدَّات أولاً بأول؛ حتى لا يترك مكان للتخرصات أو الرجم بالظنون. وإعادة تأهيل من يحتاج منهم إلى تأهيل، وعقد دورات تخصصية متعددة في: أساليب الوعظ والإرشاد، وأسس النصح والمعالجة الحكيمة، ومفهوم الوسطية والاعتدال، وتقبل الآخر الفقهي، والبعد عن التطرف والغلو....إلخ.
§ ثامنها: تبصير الموطنين بأهمية الأمن والاستقرار في حياتهم، ومستقبل وطنهم، ونشر أسباب المحبة والألفة بين الناس، وتهيئتهم لتقبل التنوع الثقافي والفكري والاجتماعي، الذي تفرضه مستجدات العصر الراهن، مادام ذلك لا يتنافى مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولا يسيء إلى المجتمع في أخلاقياته، ولا للوطن في وحدته وشموخه، وهذا يستدعي القيام بحملات تثقيفية في وسائل الإعلام المختلفة، وتعزيز فرص الحوار والنقاش الهادئ بعيدًا عن التشنج والتعصب للرأي.
§ تاسعها: أن نعي مجتمعًا وأفرادًا ومؤسسات، وعلماء ومتعلمين، ووسائل إعلام أن هنالك فرقا بين: العالم والفقيه، والمتعاطف، وصاحب الحماسة، والواعظ، والمذَكِّر، والقاصِّ، وطالب العلم، وحامل الفقه الذي قد يحمل الشهادات، ويبرع في الحفظ، وتبهرنا قدرته في سرد الأقوال، لكنه ليس بأكثر من نسخة من كتاب موسوعي جامع، أو قرص من الأقراص المدمجة نعود إليها لمجرد المعرفة، والتثقف باستظهار الآراء، ونسبتها، والاهتداء إلى مظانها، وليس لأخذ الفتوى الرشيدة أو الحكم الشرعي، الذي مناطه البصر والنظر الثاقب والفهم الدقيق، وهذا محصور في العلماء الربانيين الرَّاسخين في العلم، الذين يعد حمل الفقه واستظهار الآراء والأقوال في حقهم، مجرد آلة إلى آلات أخرى يستعينون بها إلى فهم الدليل، ومن ثَمَّ يهتدون إلى استنباط الحكم!! وهؤلاء فقط، هم: الذين يعلمونه حق العلم.. وهؤلاء فقط، هم: أهل الاجتهاد، الذين أذن الله لهم في الاجتهاد، وتَقَبَّله عنهم؛ فيهب بفضله للمخطئ أجرًا لاجتهاده، ويهب للمصيب أجرين لاجتهاده وإصابته الحق. أمّا الآخرون فإنهم داخلون تحت خطاب الزجر والنهي في الآية القرآنية:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[سورة الإسراء: 36]

ولننظر إلى الضابط القرآني للعلماء الذين يؤخذ عنهم، فهم:
v (الربانيون) وهذا ركن في الصدق والإخلاص وسلامة النية، والموضوعية والحرص على الحق، والبعد عن الشهوات، والسلامة من الشبهات. قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [ سورة آل عمران: 79]
v (الراسخون في العلم)، وهذا يقتضي السبق والتجربة، والمران على تلقي النصوص، وثبوت القَدَم، والمعرفة الدقيقة والحكيمة. قال تعالى:{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [سورة آل عمران: 7]
v ( الذين يستنبطونه)، وهذا يستوجب حضور العقل المدرب على الشريعة، الحاذق لفنون الاستدلال والاستنباط، والمعرفة بما وراء الأحكام من الغايات، وائتلافها مع المقاصد العامة، ووجوه التأويل المختلفة لا المنطوقات فقط؛ قال الله تعالى:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة النساء: 83]
والاستنباط مرحلة فوق الفهم والشرح والتفسير، وهذا يجعل من العقل شريكًا فاعلاً في عملية التشريع؛ بالاستنباط الدقيق؛ وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ومقاصد الشريعة، ولكن ليس كل عقل أهلاً لذلك؛ بل هو العقل الرباني الراسخ في العلم، الحاذق بالنصوص، البصير بالشريعة؛ وهنا مكان التفاوت والتفاضل، وصدق عليه الصلاة والسلام " فربَّ حامل فقه لا فقه له، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه".

أخيرًا:
لنا في هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية، والعلماء المعتبرين، والمجامع العلمية والفقهية في العالمين العربي والإسلامي غناء وأي غناء.. أسأل الله العلي القدير أن يحفظ علينا أمننا وأماننا، ويجمع شملنا، وأن يحفظ ولاة أمرنا وعلماءنا. وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه.

بن حمد الأثري
05-02-2008, 10:53 PM
يـــــرفــــع

12d8c7a34f47c2e9d3==