البلوشي
10-22-2007, 09:47 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحكم بغير ما أنزل الله
العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله
بحث ممتع عن شبهات حول السنة ومراتب وأحوال وأحكام الحكم بغير ما أنزل الله
يقول الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي رحمه الله {قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) .
أمر الله جل شأنه جميع الناس أن يرد كل منهم ما لديه من الأمانة إلي أهلها ، أياً كانت تلك الأمانة ، فعم سبحانه بأمره كل مكلف ، وكل أمانة ، سواء كان ما ورد في نزول الآية صحيحاً أم غير صحيح ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- ثم أوصى سبحانه من وكل إليه الحكم في خصومه أو الفصل بين الناس في أمر ما ان يحكم بينهم بالعدل، سواء كان محكماً أو ولى أمر عام أو خاص ، ولا عدل إلا ما جاء في كتاب الله أو سنة أسداه إلي عباده من الموعظة إغراء لهم بالقيام بحقها والوقوف ةعند حدودها ، وختم الآية بالثناء على نفسه بما هو أهله من كمال السمع والبصر ترغيباً في امتثال أمره رجاء ثوابه ، وتحذيراً من مخالفة شرعه خوف عقابه ، ثم أمر تعالى المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله مطلقاً ، لأن الوحى وكله حق ، وأمر بطاعة أولى الأمر فيما وضح أمره من المعروف لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما دلت عليه النصوص الثابتة الصريحة في ذلك ، فإن اشتبه الأمر ووقع النزاع وجب الرجوع في بيان الحق والفصل فيما اختلف فيه إلي الكتاب والسنة لقوله سبحانه : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ).
وقوله (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة فإن الرجوع إليهما عند الحيرة أو النزاع خير عاقبة وأحسن مالاً ، وهذا إنما يكون فيما فيه مجال للنظر والاجتهاد ، فمن بذل جهده ونظر في أدلة الشرع وأخذ بأسباب الوصول إلي الحق ، فهو مأجور ، أجران إن أصاب حكم الله ، ومعذور مأجور أجراً واحداً إن أخطأه ، وله أن يعمل بذلك في نفسه وأن يحكم به بين الناس ، ويعمله الناس مع بيان وجهة نظره المستمدة من أدلة الشرع على كلتا الحالتين بناء على قاعدة التيسير ورفع الحرج وعملاً بقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ).
وبقول النبي " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ولقوله " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد " رواه أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذى وابن ماجه. ومن لم يبذل جهده في ذلك ولم يسأل أهل العلم وعبد الله على غير بصيره ، أو حكم بين الناس في خصومة فهو آثم ضال مستحق العذاب إن لم يتب ويتغمده الله برحمته قال تعالى : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
وكذا من علم الحق ورضي بحكم الله لكن غلبه هواه أحياناً فعمل في نفسه ، أو حكم بين الناس في بعض المسائل أو القضايا على خلاف ما علمه من الشرع لعصبية أو لرشوة مثلاً فهو آثم لكنه غير كافر كفراً يخرج من الإسلام ، إذا كان معترفاً بأنه أساء ولم ينتقص شرع الله ولم يسيء الظن به بل يجز في نفسه ما صدر منه ويرى أن الخير والصلاح في العمل بحكم الله تعالى ، روى الحاكم عن بريدة رضي الله عنه عن النبى أنه قال : " قاضيان في النار وقاض في الجنة ، قاض عرف الحق فقضي به فهو في الجنة ، وقاض عرف الحق فجار متعمداً ، أو قضي بغير علم فهو في النار ... ".
إن من كان منتسباً للإسلام عالماً بأحكامه ، ثم وضع للناس أحكاماً وهيأ لهم نظماً ليعلموا بها ويتحاكموا إليها ، وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام ، فهو كافر خارج من ملة الإسلام ، وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك.
ومن أمر الناس بالتحاكم إلي تلك النظم والقوانين أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام ، وكذا من يتولى الحكم بها ويطبقها فيلا القضايا ، ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره مع علمه بمخالفتها للإسلام فجميع هؤلاء في الإعراض عن حكم الله ، لكن بعضهم بوضع تشريع يضاهى به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبينة ، وبعضهم بالأمر بتطبيقة أو حمل الأمة على العمل به أو ولى الحكم به بين الناس أو تنفيذ الحكم بمقتضاه ، وبعضهم بطاعة الولاة والرضا بما شرعوا لهم بما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطاناً ، فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله ، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه وكانوا شركاء في الزيغ والألحاد والكفر والطغيان ، ولا ينفعهم علمهم بشرع الله واعتقادهم ما فيه من إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه وإتيانهم بتشريع من عند أنفسهم وتطبيقه والتحاكم إليه ، كما لم ينفع إبليس علمه بالحق واعتقاده إياه مع إعراضه عنه وعدم الاستسلام والانقياد له.
وبهذا قد اتخذوا هواهم إلهاً فصدق فيهم قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)
وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). الآيات إلي قوله سبحانه (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) إلي قوله تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وقوله سبحانه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً). إلي قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
إن هؤلاء قد صدوا عن تحكيم شرع الله انتقاصاً له وإساءة للظن بربهم الذي شرعه له ، وابتغاء الكمال فيما سولته لهم أنفسهم وأوحى به إليهم شياطينهم ، كأن لسان حالهم يقول : " إن شريعة الكتاب والسنة نزلت لزمان غير زماننا ليعالج مشاكل قوم تختلف أحوالهم عن أحوالنا وقد يجدى في إصلاحهم ما لا يناسب أهل زماننا ، فلكل عصر شأنه ، ولكل قوم حكم يتناسب مع ظروفهم ونوع حضارتهم وثقافتهم" فكانوا كمن أمر الله رسوله أن ينكر عليهم ويبكتهم بقوله : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) إلي قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وكانوا ممن حقت عليهم كلمة العذاب وحكم الله عليهم بأن لا خلاق لهم فى الآخرة بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
لقد استهوى الشيطان هؤلاء المغرورين فزين لهم أن يسنوا قوانين من عند أنفسهم ليتحاكموا إليها ويفصلوا بها في خصوماتهم ، وسول لهم أن يضعوا قواعد بمدى تفكيرهم القاصر وهواهم الجائر لينظموا بها اقتصادهم وسائر معاملاتهم ، محادة لكتاب الله واعتقاداً منهم أنه لا يصلح للتطبيق والعمل به في عهدهم ، ولا يكفل لهم مصالحهم ، ولا يعالج ما جد من مشاكلهم ، حيث اختلفت الظروف والأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحى ، واتسع نطاق المعاملات وكثرت المشكلات ، فلا بد لتنظيم المعاملات ، الفصل في الخصومات من قوانين وقواعد جديدة يضعها المفكرون من أهل العصر ، والواقفون على أحوال أهله ، المطلعون على المشاكل ، العارفون بأسبابها وطرق حلها لتكون مستمدة من واقع الحياة فتتناسب مع أحوال الناس وظروفهم الحاضرة ومع مستوى ثقافتهم وحضارتهم.
فهؤلاء وقد طغى عليهم الغرور الفكرى ، فركبوا رؤوسهم ولم يقدروا عقولهم قدرها ولم ينزلونها منزلتها ، ولم يقدروا الله حق قدره ، ولم يعرفوا حقيقة شرعه ، ولا طريق تطبيق مناهجه وأحكامه ، ولم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، فعلم ما كان وما سيكون من اختلاف الأحوال ، وكثرة المشاكل ، وأنه أنزل شريعة عامة شاملة ، وقواعد كلية محكمة وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، وجعلها صالحة لكل وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، جعلها صالحة لكل زمان ومكان ، فمهما اختلفت الطبائع والحضارات ، وتباينت الظروف والأحوال ، فهى صالحة لتنظيم معاملات العباد وتبادل المنافع بينهم والفصل في خصوماتهم وحل مشاكلهم ، وصلاح جميع شؤونهم في عباداتهم ومعاملاتهم.
إن العقول التى منحها الله عباده ليعرفوه بها ، وليهتدوا بفهمها لتشريعه إلي ما فيه سعادتهم في العاجل والآجل ، قد اتخذوا منها خصماً لدوداً لله فأنكروا حكمته وحسن تدبيره وتقديره ، وضاقوا ذرعاً بتشريعه وأساءوا الظن به فانتقصوه وردوه ، وقد يصابون بذلك وهم لا يدرون لأنهم بغرورهم بفكرهم عميت عليهم معالم الحق والعدل فكانوا من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وكانوا ممن بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار.
إن الله وسبحانه كثيراً ما يذكر الناس في القرآن بأحوال المعتدين الهالكين ، ويحثهم على أن يسيروا في الأرض لينظروا ما كانوا فيه من قوة ورغد عيش وحضارة وبسطة في العلم ، نظر عظة واعتبار ، ليتذكروا طريقهم ، إتقاء لسوء مصيرهم ، ولفت النظر في بعض الأمور إلي جريمة الغرور الفكرى ، لشدة خطره ، وبين أنه الفتنة الكبرى التى دفعوا بها في صدور الرسل ، وردوا بها دعوتهم ليعرفنا بقصور عقول البشر ، أنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل ، وليحذرنا من خطر الغرور الفكرى الذي هلك به قاوم المرسلين.
قال تعالى (َفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ).
الحكم بغير ما أنزل الله
العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله
بحث ممتع عن شبهات حول السنة ومراتب وأحوال وأحكام الحكم بغير ما أنزل الله
يقول الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي رحمه الله {قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) .
أمر الله جل شأنه جميع الناس أن يرد كل منهم ما لديه من الأمانة إلي أهلها ، أياً كانت تلك الأمانة ، فعم سبحانه بأمره كل مكلف ، وكل أمانة ، سواء كان ما ورد في نزول الآية صحيحاً أم غير صحيح ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- ثم أوصى سبحانه من وكل إليه الحكم في خصومه أو الفصل بين الناس في أمر ما ان يحكم بينهم بالعدل، سواء كان محكماً أو ولى أمر عام أو خاص ، ولا عدل إلا ما جاء في كتاب الله أو سنة أسداه إلي عباده من الموعظة إغراء لهم بالقيام بحقها والوقوف ةعند حدودها ، وختم الآية بالثناء على نفسه بما هو أهله من كمال السمع والبصر ترغيباً في امتثال أمره رجاء ثوابه ، وتحذيراً من مخالفة شرعه خوف عقابه ، ثم أمر تعالى المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله مطلقاً ، لأن الوحى وكله حق ، وأمر بطاعة أولى الأمر فيما وضح أمره من المعروف لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما دلت عليه النصوص الثابتة الصريحة في ذلك ، فإن اشتبه الأمر ووقع النزاع وجب الرجوع في بيان الحق والفصل فيما اختلف فيه إلي الكتاب والسنة لقوله سبحانه : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ).
وقوله (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة فإن الرجوع إليهما عند الحيرة أو النزاع خير عاقبة وأحسن مالاً ، وهذا إنما يكون فيما فيه مجال للنظر والاجتهاد ، فمن بذل جهده ونظر في أدلة الشرع وأخذ بأسباب الوصول إلي الحق ، فهو مأجور ، أجران إن أصاب حكم الله ، ومعذور مأجور أجراً واحداً إن أخطأه ، وله أن يعمل بذلك في نفسه وأن يحكم به بين الناس ، ويعمله الناس مع بيان وجهة نظره المستمدة من أدلة الشرع على كلتا الحالتين بناء على قاعدة التيسير ورفع الحرج وعملاً بقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ).
وبقول النبي " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ولقوله " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد " رواه أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذى وابن ماجه. ومن لم يبذل جهده في ذلك ولم يسأل أهل العلم وعبد الله على غير بصيره ، أو حكم بين الناس في خصومة فهو آثم ضال مستحق العذاب إن لم يتب ويتغمده الله برحمته قال تعالى : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
وكذا من علم الحق ورضي بحكم الله لكن غلبه هواه أحياناً فعمل في نفسه ، أو حكم بين الناس في بعض المسائل أو القضايا على خلاف ما علمه من الشرع لعصبية أو لرشوة مثلاً فهو آثم لكنه غير كافر كفراً يخرج من الإسلام ، إذا كان معترفاً بأنه أساء ولم ينتقص شرع الله ولم يسيء الظن به بل يجز في نفسه ما صدر منه ويرى أن الخير والصلاح في العمل بحكم الله تعالى ، روى الحاكم عن بريدة رضي الله عنه عن النبى أنه قال : " قاضيان في النار وقاض في الجنة ، قاض عرف الحق فقضي به فهو في الجنة ، وقاض عرف الحق فجار متعمداً ، أو قضي بغير علم فهو في النار ... ".
إن من كان منتسباً للإسلام عالماً بأحكامه ، ثم وضع للناس أحكاماً وهيأ لهم نظماً ليعلموا بها ويتحاكموا إليها ، وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام ، فهو كافر خارج من ملة الإسلام ، وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك.
ومن أمر الناس بالتحاكم إلي تلك النظم والقوانين أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام ، وكذا من يتولى الحكم بها ويطبقها فيلا القضايا ، ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره مع علمه بمخالفتها للإسلام فجميع هؤلاء في الإعراض عن حكم الله ، لكن بعضهم بوضع تشريع يضاهى به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبينة ، وبعضهم بالأمر بتطبيقة أو حمل الأمة على العمل به أو ولى الحكم به بين الناس أو تنفيذ الحكم بمقتضاه ، وبعضهم بطاعة الولاة والرضا بما شرعوا لهم بما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطاناً ، فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله ، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه وكانوا شركاء في الزيغ والألحاد والكفر والطغيان ، ولا ينفعهم علمهم بشرع الله واعتقادهم ما فيه من إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه وإتيانهم بتشريع من عند أنفسهم وتطبيقه والتحاكم إليه ، كما لم ينفع إبليس علمه بالحق واعتقاده إياه مع إعراضه عنه وعدم الاستسلام والانقياد له.
وبهذا قد اتخذوا هواهم إلهاً فصدق فيهم قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)
وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). الآيات إلي قوله سبحانه (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) إلي قوله تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وقوله سبحانه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً). إلي قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
إن هؤلاء قد صدوا عن تحكيم شرع الله انتقاصاً له وإساءة للظن بربهم الذي شرعه له ، وابتغاء الكمال فيما سولته لهم أنفسهم وأوحى به إليهم شياطينهم ، كأن لسان حالهم يقول : " إن شريعة الكتاب والسنة نزلت لزمان غير زماننا ليعالج مشاكل قوم تختلف أحوالهم عن أحوالنا وقد يجدى في إصلاحهم ما لا يناسب أهل زماننا ، فلكل عصر شأنه ، ولكل قوم حكم يتناسب مع ظروفهم ونوع حضارتهم وثقافتهم" فكانوا كمن أمر الله رسوله أن ينكر عليهم ويبكتهم بقوله : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) إلي قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وكانوا ممن حقت عليهم كلمة العذاب وحكم الله عليهم بأن لا خلاق لهم فى الآخرة بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
لقد استهوى الشيطان هؤلاء المغرورين فزين لهم أن يسنوا قوانين من عند أنفسهم ليتحاكموا إليها ويفصلوا بها في خصوماتهم ، وسول لهم أن يضعوا قواعد بمدى تفكيرهم القاصر وهواهم الجائر لينظموا بها اقتصادهم وسائر معاملاتهم ، محادة لكتاب الله واعتقاداً منهم أنه لا يصلح للتطبيق والعمل به في عهدهم ، ولا يكفل لهم مصالحهم ، ولا يعالج ما جد من مشاكلهم ، حيث اختلفت الظروف والأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحى ، واتسع نطاق المعاملات وكثرت المشكلات ، فلا بد لتنظيم المعاملات ، الفصل في الخصومات من قوانين وقواعد جديدة يضعها المفكرون من أهل العصر ، والواقفون على أحوال أهله ، المطلعون على المشاكل ، العارفون بأسبابها وطرق حلها لتكون مستمدة من واقع الحياة فتتناسب مع أحوال الناس وظروفهم الحاضرة ومع مستوى ثقافتهم وحضارتهم.
فهؤلاء وقد طغى عليهم الغرور الفكرى ، فركبوا رؤوسهم ولم يقدروا عقولهم قدرها ولم ينزلونها منزلتها ، ولم يقدروا الله حق قدره ، ولم يعرفوا حقيقة شرعه ، ولا طريق تطبيق مناهجه وأحكامه ، ولم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، فعلم ما كان وما سيكون من اختلاف الأحوال ، وكثرة المشاكل ، وأنه أنزل شريعة عامة شاملة ، وقواعد كلية محكمة وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، وجعلها صالحة لكل وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، جعلها صالحة لكل زمان ومكان ، فمهما اختلفت الطبائع والحضارات ، وتباينت الظروف والأحوال ، فهى صالحة لتنظيم معاملات العباد وتبادل المنافع بينهم والفصل في خصوماتهم وحل مشاكلهم ، وصلاح جميع شؤونهم في عباداتهم ومعاملاتهم.
إن العقول التى منحها الله عباده ليعرفوه بها ، وليهتدوا بفهمها لتشريعه إلي ما فيه سعادتهم في العاجل والآجل ، قد اتخذوا منها خصماً لدوداً لله فأنكروا حكمته وحسن تدبيره وتقديره ، وضاقوا ذرعاً بتشريعه وأساءوا الظن به فانتقصوه وردوه ، وقد يصابون بذلك وهم لا يدرون لأنهم بغرورهم بفكرهم عميت عليهم معالم الحق والعدل فكانوا من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وكانوا ممن بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار.
إن الله وسبحانه كثيراً ما يذكر الناس في القرآن بأحوال المعتدين الهالكين ، ويحثهم على أن يسيروا في الأرض لينظروا ما كانوا فيه من قوة ورغد عيش وحضارة وبسطة في العلم ، نظر عظة واعتبار ، ليتذكروا طريقهم ، إتقاء لسوء مصيرهم ، ولفت النظر في بعض الأمور إلي جريمة الغرور الفكرى ، لشدة خطره ، وبين أنه الفتنة الكبرى التى دفعوا بها في صدور الرسل ، وردوا بها دعوتهم ليعرفنا بقصور عقول البشر ، أنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل ، وليحذرنا من خطر الغرور الفكرى الذي هلك به قاوم المرسلين.
قال تعالى (َفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ).