المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منهج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في الاهتمام بالمواضع والآثار


كيف حالك ؟

خالد الردادي
12-21-2003, 12:01 AM
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في الاهتمام بالمواضع والآثار

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد تعجبت كما تعجب غيري من تباكي كثير من دعاة الاهتمام بالآثار والدعوة لحفظها وحمايتها وصونها ورعايتها ،والتشنيع على من قام بإزالتها لمصلحة عظيمة ـ وهي المحافظة على جناب التوحيد وحمايته ـ اقتضت ذلك عند ولاة الأمر وأهل العلم ببلادنا هذه ووصفهم بالرجعية و...إلى غير ذلك من الأوصاف الذميمة !!
وسأذكر لك أخي القاريء الكريم هاهنا نبذة تبين لك وهاء حجج هؤلا المتباكين على هذه المواضع والآثار بدعوى الحرص على تراث الأمة ـ ولي عودة بإذن الله لتفصيل القول في شأن مسجد العريض بالمدينة النبوية والذي تباكى على هدمه جماعة من أهل الزيغ والضلال من منظور تأريخي وشرعي أسأل الله أن ييسر لي هذاـ فأقول مستعينا بالله :


من خلال تتبع بعض الأحداث يتبين لنا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك:
1 ـ الأماكن التي زارها النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعد البعثة لم يرد دليل واحد على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد زيارتها أو أمر بزيارتها أو حث على الاهتمام بها، ونحو ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه الله بالنبوة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح، وفي عمرة الجعرانة ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده، لم يكن أحد منهم يأتي غار حراء.."(1)
ويقول أيضا: "وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر؛ عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك؛ فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بل بدعة"(2).

2 ـ عندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وطاف بالكعبة كسر الأصنام التي حول الكعبة كلها كما جاء في حديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُباً فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم : جاء الحق وزهق الباطل {الإسراء: 81} الآيَةَ"(3) وهذه الأصنام تعتبر من الآثار التي يحافظ عليها في مثل هذا الزمن؛ فلماذا لم يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتني بها، ويجعلها في متحف ونحوه؟!!
وعلى هذا المنوال سار أتباعه الكرام، وإليك البيان:

لقد كان هدي السلف الصالح الاهتمام بالآثار الفعلية والقولية من أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وأفعاله، ولا أدل على ذلك من هذه الكتب التي تزخر بالكثير من الآثار الفعلية والقولية.. فأفنوا أعمارهم من أجل المحافظة عليها، وقطعوا القفار وكابدوا مشقة الأسفار؛ وواصلوا الليل بالنهار؛ كل ذلك جمعاً لآثار النبي المختار صلى الله عليه وسلم وتدوينها ليعمل بها.. وبلغ من حرصهم على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية أن يُنقَل لنا حتى شؤون النبي صلى الله عليه وسلم الزوجية في غسله ووضوئه، في أكله وشربه، وفي نومه واستيقاظه.. في كل شيء.. هذا كان ديدنهم، وتلك كانت همتهم. ولم يكن معروفاً عنهم تتبع الآثار المكانية والعينية والاهتمام بها وتشييدها أو عمل مزارات. يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله : "ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكملهم نصحاً لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار، ولم يعظموها، ولم يدعوا إلى إحيائها.. ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه.."(4).

ومما يدل على ذلك:
1ـ موقفهم من الآثار الموجودة في مكة والمدينة وبيت المقدس:
فلم يعرف أن أحداً منهم زار تلك الآثار أو تتبعها وأمر بتشييدها، بل كانوا يسدون هذا الباب؛ فإن المسلمين لما فتحوا تُستَر، وجدوا هناك سرير ميت باق ذكروا أنه "دانيال" ووجدوا عنده كتاباً فيه ذكر الحوادث، وكان أهل تلك الناحية يستسقون به، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر، فكتب إليه أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبراً، ثم يُدفَن بالليل في واحد منها ويعفَّى قبره؛ لئلا يفتتن الناس به(5) ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"لم تَدَعِ الصحابة في الإسلام قبراً ظاهراً من قبور الأنبياء يفتتن به الناس؛ ولا يسافرون إليه ولا يدعونه، ولا يتخذونه مسجداً؛ بل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم حجبوه في الحجرة، ومنعوا الناس منه بحسب الإمكان، وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان؛ إن كان الناس يفتتنون به، وإن كانوا لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره.."(6).
وفي بعض الأحايين تحصل مناسبة لزيارة تلك الأماكن الأثرية ومع ذلك لا يزورونها كما حصل لعمر ابن الخطاب وابنه عبدالله رضي الله عنهما فقد زارا بيت المقدس ولم يأتيا الصخرة ولا غيرها من البقاع(7)، بل إذا خشيت الفتنة أمروا بإزالتها كما أمر عمر بقطع الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان.

2ـ وجود الأهرامات في مصر: فبعد دخول الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه لم تذكر كتب التراجم والسير والتاريخ أن أحداً منهم زار تلك الأهرامات مع أنها تعتبر معلماً من معالم مصر فضلاً عن الاهتمام بها وتشييدها.
وكم هم العلماء الذين رحلوا إلى مصر لطلب العلم والحديث!! فهل نقل أن أحداً منهم زار تلك الآثار؟!! فهذا الإمام الشافعي والعز بن عبدالسلام وابن خزيمة وأبو حاتم وغيرهم كثير.. وقد سئل الزركلي عن الأهرام وأبي الهول ونحوها: "هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال: كان أكثرها مغموراً بالرمال ولا سيما أبا الهول"(8).
بل إن كثيراً من هذه الآثار لم تكتشف إلا أخيراً؛ فمعبد أبي سمبل مثلاً الذي يعد من أكبر معابد الفراعنة كان مغموراً بالرمال مع تماثيله وأصنامه إلى ما قبل قرن أو نصف قرن تقريباً، وأكثر الأصنام الموجودة في المتاحف المصرية في هذا الوقت لم تكتشف إلا قريباً.
"ومما يدل دلالة واضحة على عدم الاهتمام بها أن بعض تلك الآثار يعلو عليها التراب، يقول ياقوت الحموي: وفي سفح أحد الهرمين صورة آدمي عظيم مصبغة وقد غطى الرمل أكثرها"(9) مما يدل على أنها مهملة.
وأشد من ذلك صدور محاولات عدة من الولاة لهدمها كالمأمون(10) والملك العزيز الأيوبي(11).
وقد ذكر ابن خلدون أن الخليفة الرشيد حاول كسر إيوان كسرى على ضخامته مع أن بعضهم أشار عليه بتركه؛ لا من أجل التفاخر به؛ ولكن من أجل أن يستدل به على عظم ملك آبائه الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل(12)؛ ومع ذلك لم يستجب فقام بمحاولة تكسيره رحمه الله.
وقال أبو علي الأوقي: سمعت أبا طاهر السِّلَفي(13) يقول: "لي ستون سنة بالإسكندرية ما رأيت منارتها إلا من هذه الطاقة، وأشار إلى غرفة يجلس فيها"(14) ،مع أنها معلم من معالم الإسكندرية.
ولكن بدأ هذا النوع ينمو ويسري في بلاد المسلمين كلها وهو: العناية بالآثار، وعمل المزارات لها وارتيادها، والاهتمام بها، والحفاظ عليها، بل هذا يعتبر من أبرز اهتمامات وزارات السياحة، وإدارات الآثار.

بيان أن الاهتمام المذكور من عادة غير المسلمين:

من المعلوم أن الدول الغربية هي التي شجعت على ظهور مثل هذا الاهتمام لتحقيق مطامعها في الشرق الإسلامي.. فها هو (جب) يقول بصراحة تامة: "وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي فارس، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا، ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهما في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم مقوماتها"(15).
وهذا التصريح يعلل لنا عطف حكومات الاحتلال الغربية على كل مشاريع الحكومات الوطنية في الشرق الإسلامي والعربي منه خاصة التي من شأنها تقوية الشعوبية فيها وتعميق الخطوط التي تفرق بين هذه الأوطان الجديدة، مثل الاهتمام بتدريس التاريخ القديم على الإسلام لتلاميذ المدارس وأخذهم بتقديسه، والاستعانة على ذلك بالأناشيد، ومثل خلق أعياد محلية غير الأعياد الدينية التي تلتقي قلوب المسلمين ومشاعرهم على الاحتفال بها، ومثل العناية بتمييز كل من هذه البلاد بزي خاص ولا سيما غطاء الرأس مما يترتب عليه تمييز كل منها بطابع خاص، بعد أن كانت تشترك في كثير من مظاهره(16).
وحتى يحصل لهم ما يريدون، ويتحقق لهم ما يشتهون "أعانت الدول المحتلة كُلاً في منطقة نفوذه على تدعيم قداسة هذه الأوطان الجديدة في نفوس الناس بأسلوب علمي منظم، وذلك بمساعدتها على إحياء التاريخ القديم لكل قطر من هذه الأقطار، ونشط الحفر للبحث عن آثار الحضارات القديمة السابقة على الإسلام في كل من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر؛ لتوهين عرى الجامعة العربية، ولتشتيت القلوب التي ألف بينها الإسلام وجمعها على لغة واحدة؛ فاستيقظت العصبيات الجاهلية، وراح كل بلد يفاخر البلاد الأخرى بمجده العريق، وشغلت الصحف بالكلام عن الكشوف الأثرية الجديدة وما تدل عليه من حضارات البابليين والآشوريين والكلدانيين والحثيين والفينيقيين والفراعنة.
وكانت أصابع الغربيين واضحة في هذه الجهود؛ فقد عاش المسلمون دهوراً وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً، ولا يتحدثون عنها حين يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة، لا يثير الحديث عنهم شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم، وظلوا على هذه الحال حتى بدأ الغربيون بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها منذ اتجهت مطامعهم إلى بلادهم. وللأوروبيين في ذلك أسلوب خبيث ماكر؛ فهم يبدؤون التنقيب ببعوث من علماء الآثار الغربيين، حتى إذا حققوا ما يهدفون إليه من اهتمام كل بلد من هذه البلاد بتراثه القديم وتحمسه له وغيرته عليه، ورأوا أن هذه الغيرة تدفعه إلى منافسة الأجانب في هذا الميدان الذي يعتبر نفسه أوْلى به وأحق، بوصفه وارث هذه الحضارة، عند ذلك يتخلون عن مهمتهم ويتركونها في رعايته، مطمئنين إلى أنه سيوالي السير في الخطوط التي رسموها له.
والأدلة على هذا الأسلوب الخبيث كثيرة لا تعوز الباحث؛ فقد بلغ من اهتمام الأوروبيين بنبش هذا التاريخ القديم واتخاذه أساساً لتدعيم التجزئة الجديدة للوطن العربي أن عصبة الأمم قد نصَّت في صك انتداب بريطانيا إلى فلسطين على الاهتمام بالحفريات، وذلك في المادة 17 التي تنص على: "أن تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية.."، وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألَّفوا في خلال الحرب العالمية الأولى لجاناً في دمشق وبيروت لكتابة تاريخ الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان وأهملوا تاريخ سوريا، ثم لم يلبث الآباء اليسوعيون في بيروت أن كلفوا ثلاثة من رهبانهم الفرنسيين سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة عصور: العصر الآرامي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر العربي.
ومما لا تخفى دلالته في هذا الصدد أن الثري الأمريكي اليهودي الأصل روكفلر (ابن روكفلر الكبير) صاحب الملايين، قد أعلن سنة 1926م عن تبرعه بعشرة ملايين دولار أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن، واشترط لمنح هذه الهبة أن يوضع المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة مكونة من ثمانية أعضاء ليس فيها إلا عضوان مصريان فقط، على أن تظل هذه اللجنة هي المسؤولة عن إدارة المتحف والمعهد لمدة ثلاث وثلاثين سنة.
وقد استرد الثري الصهيوني الأمريكي هبته وقتذاك، بعد أن أرسل مندوباً يمثله من علماء الآثار الأمريكيين المعروفين وهو الأستاذ بْرِسْتِدْ ومعه أحد محاميه، وذلك لرفض الحكومة شرط إشراف الأجانب الفني على المعهد، وقد كان واضحاً من تحديد صاحب الملايين مدة الإشراف بثلاث وثلاثين سنة أنه يهدف إلى خلق جيل من المتعصبين للفرعونية ثقافياً وسياسياً، ومصلحة الصهيونية في ذلك ظاهرة؛ لأنها إذا نجحت في سلخ الدول العربية عن عروبتها فقد سلختها من إسلامها، وإذا انسلخت هذه الدول من إسلامها ومن عروبتها أمن اليهود كل معارضة لاستقرارهم في فلسطين، وعاشوا مع جيرانهم في هدوء يمكن لهم من الإعداد لوثبة جديدة يأكلون فيها جيرانهم النائمين؛ لأن معارضة الدول العربية لمطامع اليهود في فلسطين إنما تستند إلى الإسلام والعروبة، فإذا انسلخ المصريون مثلاً من الإسلام والعروبة ولبسوا ثوب الفرعونية مات الحافز الذي يدفعهم إلى مجاهدة اليهود ومعارضة دولتهم في فلسطين؛ إذ يصبح اليهود والعرب لديهم عند ذلك سواء"(17).
وقد وضح الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله أن إحياء الآثار القديمة تعتبر من دسائس الأعداء فقال:
"ومن دسائس هذه المنظمات الكفرية دعوتها إلى إحياء الآثار القديمة والفنون الشعبية المندثرة حتى يشغلوا المسلمين عن العمل المثمر بإحياء الحضارات القديمة والعودة إلى الوراء وتجاهل حضارة الإسلام، وإلا فما فائدة المسلمين من البحث عن أطلال الديار البائدة! والرسوم البالية الدارسة! وما فائدة المسلمين من إحياء عادات وتقاليد أو ألعاب قد فنيت وبادت! في وقت هم في أمسّ الحاجة إلى العمل الجاد المثمر، وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب واحتلوا كثيراً من بلادهم وبعض مقدساتهم ! إنهم في مثل هذه الظروف بحاجة إلى العودة إلى دينهم وإحياء سنَّة نبيهم، والاقتداء بسلفهم الصالح حتى يعود لهم عزهم وسلطانهم، وحتى يستطيعوا الوقوف على أقدامهم لرد أعدائهم، وأن يعتزوا برصيدهم العلمي من الكتاب والسنة والفقه، ويستمدوا من ذلك خطة سيرهم في الحياة، ويقرؤوا تاريخ أسلافهم لأخذ القدوة الصالحة من سيرهم، أما أن ينشغلوا بالبحث عن آثار الديار، وإحياء الفنون الشعبية بالأغاني والأسمار، وإقامة مشاهد تحاكي العادات القديمة؛ فكل ذلك مما لا جدوى فيه، وإنما هو استهلاك للوقت والمال في غير طائل، بل ربما يعود بهم إلى الوثنية، والعوائد الجاهلية"(18).
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن سبب شرك بني آدم هو الغلو في تعظيم قبور الصالحين فقال:
"والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين: أولها: تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون، وهو شرك قوم نوح.."(19).
وقد ذكر ابن القيم أن من أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته "ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل، ثم جعلت أصناماً، وعبدت مع الله تعالى، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، حيث يقول: {قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا *ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا} [نوح: 21 - 24].
قال غير واحد من السلف:
"كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم". فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها :
"أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"(20).
فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور، وهذا كان سبب عبادة اللات؛ فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد أفرأيتم اللات والعزى" {النجم: 19} قال: "كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره". وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : "كان يلت السويق للحاج".
فقد رأيتَ أن سبب عبادة وَدّ، ويغوث ويعوق ونسر واللات، إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوهم كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم .."(21).

وبالجملة فلعل فيما ذكر فيه كافية وغنية في الرد على دعاة حماية الأثار والمتشبتين بها ،والله تعالى أسأل أن يصلح حال الأمة، وأن يزيل عنها الغمة، وينصر السنة ويقمع البدعة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


.................................................. ............................

(1) "مجموع الفتاوى" (11/18).
(2) "مجموع الفتاوى" (26/144).
(3) أخرجه البخاري (2478).
(4) "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (3/338ـ339)
(5) "مجموع الفتاوى" (27/170ـ171)بتصرف، وقد ذكرها أيضا بسياق أتم في (27/270)وقال: "رواه يونس بن بكر في: (زيادات مغازي ابن إسحاق) عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال.." ثم ذكر الخبر.
(6) الفتاوى (27/271).
(7) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/809).
(8) "شبه جزيرة العرب" (4/1188).
(9)" معجم البلدان" (5/400) وما بعده، وانظر: الموسوعة العربية العالمية (1/98).
(10) انظر: "مقدمة ابن خلدون" ص 346، "معجم البلدان" (5/400)وما بعده،و" تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" (1/57ـ58)لابن بطوطة. وقد بين سبب امتناع الخليفة عن الهدم؛ وهو بسبب إشارة بعض مشايخ مصر.
(11) انظر:" التاريخ المنصوري "(1/5).
(12)انظر: "مقدمة ابن خلدون"( ص 346).
(13)قال الذهبي في ترجمته في "السير"(21/5): "هو الإمام العلاَّمة المحدِّث المفتي، شيخ الإسلام شرف المعمرين أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني الجرواني".
(14) "سير أعلام النبلاء" (21/22).
(15) انظر:" أساليب الغزو الفكري"( ص 78).
(16)" الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" (2/141).
(17)"الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" ( 2/137ـ140)محمد محمد حسين.
(18) الخطب المنبرية (3/85ـ86).
(19)"الرد على البكري" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 80).
(20)أخرجه البخاري (رقم:427)،ومسلم (رقم:528).
(21)انظر:"إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/214).

12d8c7a34f47c2e9d3==