عبدالعزيز النجدي
03-28-2007, 08:42 PM
« المصلحة عند الحنابلة »
لفضيلة الشيخ العلامة د. سعـد بن ناصر الشثـري
عضو هيئة كبار العلمـاء
وعضو اللجنة الدائمة للإفتـاء
- سلمه الله -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[ مقدمة ] :
الحمد لله الذي شرع للعباد ما ينفعهم في دنياهم وعند المعاد ، أحمده على إكمال دينه وإتمام نعمته ، ورضاه الإسلام لنا دينا ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، أخبر أنه لو اتبع الحق أهواء من في السماوات والأرض لفسدتا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المبعوث بالملة الحنيفية السمحة ، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا ، وبعد :
فقد رأيت الحاجة لبحث المصلحة عند الحنابلة لتضارب النقل عنهم في ذلك وعدم ضبط مذهبهم فيها ، فلاقى ذلك رغبة ملحة في نفسي ، لأن المصلحة مما تضاربت أقوال الناس فيه ، وهو باب دخل علينا منه في العصر خفافيش عطلت النصوص ، وحاولت هدم الشريعة كلها نظرا لما يزعمونه من المصالح ، ولأنهم وجدوا كلمة متشابهة عند الطوفي فطاروا بها فرحا وتركوا أقوال الأئمة من العلماء لأن مقالة الطوفي - وهو من الحنابلة - توافق أهواءهم ، فخالفوا النصوص الكثيرة الناهية عن اتباع الهوى ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [ سورة القصص الآية 50 ]،﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [ سورة الكهف الآية 28 ] .
فهذا المنهج منهج ضال يخالف منهج أهل الإيمان الذين يستمعون جميع الأقوال ثم يقارنون بينها ويتبعون أحسنها ، فكانوا بذلك هم أولو الألباب وأصحاب الإيمان فلله درهم .
وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وتمهيد عن تعريف المصلحة لغة واصطلاحا وفصلين :
الفصل الأول : في تتبع آراء الحنابلة في المصلحة :
المبحث الأول : آراء متقدمي الحنابلة : الإمام أحمد وابن عقيل وابن قدامة وابن برهان والمجد .
المبحث الثاني : آراء متوسطي الحنابلة : شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن النجار والطوفي .
المبحث الثالث : آراء متأخري الحنابلة : ابن بدران والدكتور التركي والربيعة والدريويش والمنصور .
الفصل الثاني : في حكم المصلحة عند الحنابلة :
المبحث الأول : في المعتبرة .
المبحث الثاني : في الملغاة .
المبحث الثالث : في المرسلة .
وخاتمة في خلاصة القول في هذه المسالة .
وأسأل الله عز وجل أن يوفقني للحق وأن يلهمني الصواب بفضله ومنه .
تمهيد في تعريف المصلحة لغة واصطلاحا :
المبحث الأول: تعريف المصلحة لغة :
المصلحة واحدة المصالح مأخوذة من الصلاح ضد الفساد ، والاستصلاح نقيض الاستفساد [ الصحاح: مادة '' صلح '' 1/ 383 - 384، القاموس المحيط 1 / 243] .
المبحث الثاني: تعريف المصلحة اصطلاحا :
اختلفت تعاريف العلماء للمصلحة بناء على مراد كل واحد منهم ، وذلك على أقسام :
الأول : من أراد تعريف المصلحة مطلقا مثل ابن قدامة حيث قال: المصلحة هي جلب المنفعة ودفع المضرة [ روضة الناظر، ص 169] .
وقال د . التركي : المصلحة الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم [ أصول مذهب الإمام أحمد، ص 413] وهو أدق من الأول .
وقال د . الربيعة : المصلحة في الاصطلاح : المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم ومالهم ودفع ما يفوت هذه الأصول أو يخل بها [ الأدلة المختلف فيها، ص 190] . فهذا حصر للمصلحة في هذه الجوانب وهي لا تنحصر فيها .
الثاني : من أراد تعريف المصالح المرسلة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : المصالح المرسلة : هو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه [مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 11 / 342] وهذا تعريف جيد .
وقال د . المنصور : هي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار والإلغاء ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس [ أصول الفقه وابن تيمية، 1 / 452] .
الثالث : من أراد تعريف الاستصلاح قال الدكتور عبد العزيز الربيعة : هو استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع بناء على مراعاة مصلحة مرسلة [ الأدلة المختلف فيها، 221].
الفصل الأول: تتبع آراء الحنابلة في المصلحة :
المبحث الأول : آراء متقدمي الحنابلة :
1 - الإمام أحمد :
قال ابن دقيق العيد : الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع - المصالح المرسلة - ويليه أحمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيحا في الاستعمال لهما على غيرهما [ أصول مذهب أحمد، ص 422] .
وقال القرافي : هي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك [ المذكرة، للشنقيطي، ص 170] .
ابن القيم رحمه الله حين عد أصول مذهب أحمد في أول كتابه: " إعلام الموقعين " لم يذكر المصالح المرسلة منها .
وكثير من المتأخرين ينسب للإمام أحمد القول بالمصالح المرسلة ، لأنه حكم على قضايا كثيرة بأحكام معينة ، وهذه الأحكام توافق المصلحة ، فمن هنا فالإمام يقول باعتبار المصالح ، وهذا ليس بصحيح لأن الإمام أحمد لم ينص على أن موجب الحكم هو المصلحة ، ثم هذه القضايا بعضها ورد في أحاديث ، وبعضها يشمله عموم النصوص ، وبعضها ورد عن الصحابة ، فالإمام أخذ هذه الأحكام من ذلك .
ولنضرب لذلك مثلا: أنهم قالوا : بأن الإمام أحمد قال بتغليظ الحد على من شرب الخمر في نهار رمضان لحرمة الشهر ، وقالوا: إن هذا عمل بالمصلحة المرسلة وليس كذلك بل هذا وارد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - [ أخرجه الطحاوي، '' مشكل الآثار ''، 3/ 168] ، ومثله قتل الجماعة بالواحد ، قالوا: هو بناء على المصلحة المرسلة وليس كذلك ، بل لأنه قول صحابي ومن أصول أحمد العمل بقول الصحابي ما لم يكن نص ولا اختلاف بين الصحابة ، بل حكي ذلك إجماعا للصحابة [ المغني, 1/ 490] .
2 - أبو الوفاء ابن عقيل :
نقل ابن القيم عن ابن عقيل في الفنون أنه قال: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم ، ولا يخلو من القول به إمام ، فقال الشافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع . . فقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول . فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف ، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة [ الطرق الحكمية، ص 13] .
3 - أبو محمد ابن قدامة المقدسي :
ذكر ابن قدامة في كتابه روضة الناظر بعض الأدلة المختلف فيها وذكر من ضمنها الاستصلاح وهو اتباع المصلحة ، وجعلها ثلاثة أنواع: معتبر بالشرع وهذا هو القياس ، وما شهد الشرع ببطلانه وهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته للنص .
وما لم يشهد له الشرع بإبطال ولا اعتبار معين ، وهو ثلاثة أنواع: ما يقع في مرتبة الحاجيات ، وما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات ، فهذان الضربان لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل .
والضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات ، وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها ، فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة . . . والصحيح أن ذلك ليس بحجة . . ثم ذهب يستدل لقوله [روضة الناظر، ص (169 - 170)] .
لكن قال الطوفي : قال بعض أصحابنا: ليست حجة - يريد المصلحة المرسلة - وإنما قلنا قال بعض أصحابنا ولم أقل أصحابنا لأني رأيت من وقفت على كلامه منهم حتى الشيخ أبا محمد - يعني ابن قدامة - في كتبه؛ إذا استغرقوا في توجيه الأحكام يتمسكون بمناسبات مصلحية يكاد الشخص يجزم بأنها ليست مرادة للشارع ، والتمسك بها يشبه التمسك بحبال القمر ، فلم أقدم على الجزم على جميعهم بعدم القول بهذه المصلحة خشية أن يكون بعضهم قد قال بها فيكون ذلك تقولا عليهم [ أصول مذهب الإمام أحمد، ص 424] .
4 - المجد ابن تيمية :
قال المجد : المصالح المرسلة لا يجوز بناء الأحكام عليها ، قاله ابن الباقلاني وجماعة المتكلمين ، وهو قول متأخري أصحابنا أهل الأصول والجدل [ المسودة، ص 450] .
5 - أبو الخطاب :
قال المجد : وقد ذكر أبو الخطاب في تقسيم الأدلة الشرعية أن الاستنباط قياس واستدلال ، والاستدلال يكون بأمارة وعلة ويكون بشهادة الأصول والاستدلال بالعلة أو الأمارة هو المصالح [ المسودة، ص451، وبحثت عنه في مظانه من التمهيد فلم أجده ] .
المبحث الثاني: آراء متوسطي الحنابلة :
1 - شيخ الإسلام ابن تيمية :
قال: الطريق السابع المصالح المرسلة . . . فهذه الطريق فيها خلاف مشهور ، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة ، ومنهم من يسميها الرأي ، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان ، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته ، وهذه مصلحة ، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان ، وليس كذلك؛ بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار ، وما ذكروه من دفع المضار . . . وجلب المنفعة يكون في الدنيا والدين . . . فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال - الخمسة - ليحفظ الجسم فقط فقد قصر .
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به ، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم ، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل ، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه ، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص ، وكثير منهم أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها ، ففوت واجبات ومستحبات ، أو وقع في محظورات ومكروهات ، وقد يكون الشرع ورد بذلك ، وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها ، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا ، والقول بالمصالح يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبا ، وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك . . . لكن بين هذه فروق .
والقول الجامع : أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط ، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة ، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا حدثنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك . لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر ، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة ، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة ، كما قال تعالى : ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [ سورة البقرة الآية 219 ] وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك ، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا وليس كذلك فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 11 / 342 - 345] .
فخلاصة كلامه - رحمه الله -: أنه تردد في العمل بالمصلحة المرسلة حتى إنه ليكاد أن يمنعها لأسباب :
1 - أن الله - عز وجل - قد أكمل الدين ، والدين من كماله استقصى جميع المصالح .
2 - ما رآه من تصرفات الصوفية الذين اعتمدوا على الإلهامات والأذواق معتبرين ذلك مصلحة لا بد منها فدخل كثير من المغرضين من هذا الباب فشوهوا الإسلام وطمسوا محياه .
3 - ما رآه من الجرأة على العمل بالمصالح بدون تثبت مما أدى إلى فتح باب الفوضى والاضطراب في الدين ، حيث رأى كثير من الأمراء والعباد مصالح فاستعملوها - بناء على هذا الأصل - ولم تكن كذلك وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع لم يعلموه .
4 - ما رآه من الشبه في بعض الوجوه بقول المعتزلة في التحسين والتقبيح العقلي ، وقد يؤدي إلى أن يشرع العبد من الدين ما لم يأذن به الله .
5 - جر القول بالمصالح المرسلة إلى فتح الباب على مصراعيه بدون تقييد بنظام الشرع فجلب كثيرا من البدع في العقائد والأعمال ، كما اتخذها كثير من الملوك والحكام سلما وطريقا سهلا يسلكونه في ظلم الناس وإنزال الأذى بهم في أموآله م وأنفسهم [ أصول الفقه وابن تيمية، 2/ 467 - 468] .
2 - ابن قيم الجوزية :
قال : إن الشريعة مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ومصالح كلها ، ورحمة كلها ، وحكمة كلها [ إعلام الموقعين، 3/ 14] لكن هذا في المصالح المعتبرة من الشارع لا المرسلة .
وابن القيم حين عد أصول أحمد لم يذكر المصالح المرسلة منها .
3 - نجم الدين الطوفي :
نسب بعض المحدثين للطوفي رسالة في شرح الأربعين النووية تكلم في أثنائها على حديث : (( لا ضرر ولا ضرار )) وقال فيها بتقديم المصلحة على النص بطريق التخصيص والبيان بشرط أن يكون الحكم من أحكام المعاملات أو العادات أو السياسات الدنيوية أو شبهها ، لا أن يكون من أحكام العبادات أو المقدرات ونحوها ، لأن العبادات حق للشارع خاص به ، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته فيأتي به العبد بما رسم له ، فأحكام العبادات والمقدرات لا مجال للعقل في فهم معانيها على التفصيل [ شرح حديث '' لا ضرر ولا ضرار '' ملحق برسالة (المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي) 16 - 46] .
4 - ابن النجار الفتوحي :
جعل المصلحة ثلاثة أضرب: معتبر بالشرع ، وباطل بالشرع ، والثالثة المرسلة حكى فيها الخلاف وأحال على الكلام في المناسبة [ شرح الكوكب المنير، 4 / 432] .
وفي الكلام على المناسب جعله ثلاثة أضرب: أحدها: دنيوي وجعله أقساما: ضروري ومكمله ، وحاجي ومكمله ، وتحسيني ، فجعل المناسب من باب المصالح المرسلة ، وقال: وليست هذه المصلحة بحجة ، ونقل الخلاف فيها ، ودلل على عدم حجيتها . والثاني: أخروي ، والثالث: إضافي .
ثم قسم المناسب إلى أقسام: مؤثر وملائم وغريب ، والغريب هو الذي لم يشهد له غير أصله بالاعتبار ، قال: والمرسل الغريب ليس حجة عند الجمهور ، والمرسل الذي ثبت إلغاؤه مردود بالاتفاق [ شرح الكوكب المنير، 4 /159 - 181].
المبحث الثالث: آراء متأخري الحنابلة في المصلحة :
ا - عبد القادر بن بدران :
قال: ( والمختار عندي اعتبار المصالح المرسلة ، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق ، وإني أرى غالب الأحكام في أيامنا التي نحن فيها مسالكة على ذلك الأصل ومهيئة لقبوله سخطنا أم رضينا) . . . إلى أن قال: (من ذلك ما يقوله الحنابلة بالرجوع إلى العرف في القبض والحرز وكل ما لم يرد من الشرع تحديد فيه )[ شرح روضة الناظر '' نزهة الخاطر العاطر ''، 1 / 416] .
وجعل العرف في ما لم يرد تحديده في الشرع من باب المصلحة المرسلة ليس بسديد .
2 - الدكتور عبد الله التركي :
عرف أولا المصلحة ثم ذكر أقسامها وحصر الخلاف في المصلحة المرسلة ثم قال: ( والخلاصة أن المصالح على القول بها لدى الحنابلة أو غيرهم ليست عملا بالرأي وحده وكل ما أفتى به الأئمة بناء على المصلحة فإنما هي مصلحة شهد الشرع لجنسها بالاعتبار وذلك اعتبار لها في الجملة) .
قال: ( والذي أرجح وأراه أخيرا أن بناء الأحكام على المصلحة ليس مقصورا عليها فقط ، بل لا بد أن يكون الشارع اعتبر جنس هذه المصالح فلا يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر فهم لا يستطيعون ذلك استقلالا دون سند من شرع الله ، ولو قلنا أن البشر يستطيعون تحديد المصالح والمفاسد ثم يبنون عليها الأحكام وتكون تشريعا في حقهم لأجزنا لهم وضع التشريعات ، ثم إن القول بأن هناك مصالح أغفلتها الشريعة طعن في كمالها وشمولها وعمومها وقد دلت الأدلة القاطعة على إكمال الله للدين ، وحفظه من التغيير والتبديل ، وعليه فإذا كان جنس المصلحة قد اعتبره الشارع جاز بناء الحكم عليها إذا لم يوجد أي دليل آخر مقدم عليها .
ولا يجوز للمسلم أن يتصرف في تشريع ما لم يجعل الله له ذلك الحق ، وكثير من الأمور المبنية على المصالح كالسياسة الشرعية والولايات العامة والخاصة والأنظمة كل هذه قد أعطى الله أصحابها حقوقا يتصرفون في دائرتها وإن لم ينص على جزئيات التصرف ) [ أصول مذهب الإمام أحمد، (432) وما بعدها] .
فخلاصة كلامه: العمل بالمصالح المرسلة بشروط :
1 - عدم معارضة دليل آخر لها .
2 - اعتبار الشارع لجنس المصلحة ، بمعنى أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع .
3 - أن لا يكون للأهواء والشهوات فيها مدخل .
4 - أن يكون القائمون على تحديدها هم أهل الفقه والدين والعلم بالشريعة .
3 - شيخنا الدكتور عبد الرحمن الدريويش :
ذهب - وفقه الله في رسالته - عن المصالح المرسلة إلى: أن المصالح المرسلة محتج بها في الشرع ، ومحتج بها عند الأئمة ودلل لذلك .
واشترط لاعتبارها والعمل بها :
1 - أن لا تخالف نصا من الكتاب أو السنة أو إجماعا .
2 - أن تكون ملائمة لتصرفات الشرع .
3 - أن يكودن تحديدها من العلماء .
4 - شيخنا الدكتور عبد العزيز الربيعة :
قسم المصالح المرسلة إلى : ما شهد الشرع باعتباره ، وما شهد بإلغائه ، وما لم يشهد له باعتبار ولا إلغاء .
فما شهد الشارع باعتباره فهو حجة لا إشكال فيه ، وما شهد بإلغائه فليس بحجة اتفاقا ، لأن في اعتبارها مخالفة لنصوص الشرع ، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير حدود الشرائع ونصوصها ، ومن أمثلة هذا القسم القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث ، ثم تكلم عن مذهب الطوفي وخرقه الإجماع وأدلته ومناقشتها .
ثم ذكر النوع الثالث من المصلحة ، وهو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا بإلغاء ، بل سكتت عنها الشواهد الخاصة في الشرع ( أي النصوص المعينة) التي تدل على أحد الأمرين الاعتبار أو الإلغاء ، وهو المصلحة المرسلة .
وجعلها نوعين: ما ورد على وفق النص ، والملائم لتصرف الشرع . ثم تكلم عن الاستصلاح معناه وأمثلته ، ثم تكلم عن حكمه فقال: ( اتفقت كلمة العلماء على أنه لا يجوز الاستصلاح في أحكام العبادات؛ لأنها تعبدية ، والمقدرات لأنها مثل العبادات كالحدود والكفارات وفروض الإرث . . .
وإنما اختلف العلماء في حكم الاستصلاح فيما عدا أحكام العبادات والمقدرات ، وذكر المذهب الأول بالمنع ونسبه للمتأخرين ، والمذهب الثاني بناء الأحكام على المصالح بشرطين:
1 - أن تثبت المصلحة بالبحث وإمعان النظر والاستقراء أنها مصلحة حقيقية لا وهمية .
2 - أن تكون المصلحة عامة؛ لأنها مقصودة للشارع بخلاف المصلحة الشخصية . ونسب هذا القول للأئمة الأربعة وغيرهم .
والمذهب الثالث للغزالي العمل بها في الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات . وحرر مذهبه ، ودلل لكل قول وناقش كثيرا من هذه الأدلة ) [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 191 - 257] .
ثم قال: (المذهب الراجح هو القول بحجية الاستصلاح سواء كانت المصلحة التي يراد بناء الحكم عليها واقعة في مرتبة الضروريات أم في مرتبة الحاجيات أم في مرتبة التحسينيات ، وأن المصلحة المرسلة أصل مستقل برأسه في بناء الأحكام عليها ، وهي داخلة ضمن مقاصد الشرع وراجعة إلى حفظ مقصد من مقاصده ، وليست راجعة إلى الأصول الاجتهادية الأخرى المتفق عليها بل هي آخذة صفة الاستقلال . . . ) .
ثم قال: ( بل إن الاستصلاح هو أخصب الطرق التشريعية فيما لا نص فيه ، وأكثرها أهمية ، إذ فيه المتسع لاستنباط الأحكام التي تقتضيها تطورات الخلق ، وفيه الغناء لما يحقق مصالحهم وحاجاتهم . لكنه يحتاج إلى مزيد الاحتياط في توخي المصلحة وشدة الحذر من غلبة الأهواء؛ لأن الأهواء كثيرا ما تزين المفسدة فتراها مصلحة ، وكثيرا ما يغتر بما ضرره أكبر من نفعه ) [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 257، 258] .
5 - الدكتور صالح المنصور :
قال: (ونختار . . العمل بالمصلحة المرسلة متى كانت ملائمة لتصرفات الشرع ولم تعارض نصا . . . . ، فإن كان ثم
معارضة فالمصلحة باطلة ملغاة) .
ثم قال: ( ولقد راعى الشارع مبدأ المصالح في تشريع الأحكام وذلك مما يغلب على الظن اعتبار المناسب المرسل فيجب العمل به لأن العمل بالظن واجب ، وأيضا فإن المصالح التي ألغاها الشارع نظرا لما تجره من المفاسد قليلة) .
ثم قال: ( وإننا نستطيع أن نقول: يكاد العلماء أن يتفقوا على القول بها فهم يقولون برعاية الأحكام الشرعية للمصالح فكل حكم شرعي مربوط بحكمته ، وأن الحكمة هي التي دعت إلى تقريره ، ومرجع هذه الحكمة إلى جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم ، وهذه الحكمة ظاهرة في أكثر الأحكام خصوصا المعاملات وقد تخفى في بعض العبادات ) [ أصول الفقه وابن تيمية، 2/ 600 - 602] .
6 - رأي غريب :
ذهب أحد المعاصرين إلى اعتبار المصلحة مطلقا وتقديمها على النصوص بدعوى أن هذا تقديم للنصوص الكلية على النصوص الجزئية [ جريدة الشرق الأوسط، عدد 4035 في 15 / 12 / 1989م. ] .
وهذا صادر من غير المجتهدين ، فلا ينظر إليه ولا يعول عليه ولا عبرة به إطلاقا ، فإنه ليس لديه آلة هذا الشأن ، فإذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل ، بل الإجماع منعقد على أن العامي يعصي الله بمخالفة العلماء وأن مخالفة العلماء في حقه حرام [ إحكام الفصول، 392] فكيف يكون الهدى والإصابة في قول محرم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذم الرؤساء الجهال الذين يفتون بغير علم فيضلون ويضلون . والأخبار تقتضي إيجاب مراجعة العلماء ، قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة النحل الآية 43 ] ، وعلى فرض تعارض النصوص الكلية العامة والنصوص الجزئية الخاصة ، فإن ذلك لا يفيد اطراح النصوص الجزئية الخاصة ، بل يعمل بها في مكان خصوصها .
يتبع - بمشيـئة الله -
لفضيلة الشيخ العلامة د. سعـد بن ناصر الشثـري
عضو هيئة كبار العلمـاء
وعضو اللجنة الدائمة للإفتـاء
- سلمه الله -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[ مقدمة ] :
الحمد لله الذي شرع للعباد ما ينفعهم في دنياهم وعند المعاد ، أحمده على إكمال دينه وإتمام نعمته ، ورضاه الإسلام لنا دينا ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، أخبر أنه لو اتبع الحق أهواء من في السماوات والأرض لفسدتا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المبعوث بالملة الحنيفية السمحة ، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا ، وبعد :
فقد رأيت الحاجة لبحث المصلحة عند الحنابلة لتضارب النقل عنهم في ذلك وعدم ضبط مذهبهم فيها ، فلاقى ذلك رغبة ملحة في نفسي ، لأن المصلحة مما تضاربت أقوال الناس فيه ، وهو باب دخل علينا منه في العصر خفافيش عطلت النصوص ، وحاولت هدم الشريعة كلها نظرا لما يزعمونه من المصالح ، ولأنهم وجدوا كلمة متشابهة عند الطوفي فطاروا بها فرحا وتركوا أقوال الأئمة من العلماء لأن مقالة الطوفي - وهو من الحنابلة - توافق أهواءهم ، فخالفوا النصوص الكثيرة الناهية عن اتباع الهوى ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [ سورة القصص الآية 50 ]،﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [ سورة الكهف الآية 28 ] .
فهذا المنهج منهج ضال يخالف منهج أهل الإيمان الذين يستمعون جميع الأقوال ثم يقارنون بينها ويتبعون أحسنها ، فكانوا بذلك هم أولو الألباب وأصحاب الإيمان فلله درهم .
وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وتمهيد عن تعريف المصلحة لغة واصطلاحا وفصلين :
الفصل الأول : في تتبع آراء الحنابلة في المصلحة :
المبحث الأول : آراء متقدمي الحنابلة : الإمام أحمد وابن عقيل وابن قدامة وابن برهان والمجد .
المبحث الثاني : آراء متوسطي الحنابلة : شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن النجار والطوفي .
المبحث الثالث : آراء متأخري الحنابلة : ابن بدران والدكتور التركي والربيعة والدريويش والمنصور .
الفصل الثاني : في حكم المصلحة عند الحنابلة :
المبحث الأول : في المعتبرة .
المبحث الثاني : في الملغاة .
المبحث الثالث : في المرسلة .
وخاتمة في خلاصة القول في هذه المسالة .
وأسأل الله عز وجل أن يوفقني للحق وأن يلهمني الصواب بفضله ومنه .
تمهيد في تعريف المصلحة لغة واصطلاحا :
المبحث الأول: تعريف المصلحة لغة :
المصلحة واحدة المصالح مأخوذة من الصلاح ضد الفساد ، والاستصلاح نقيض الاستفساد [ الصحاح: مادة '' صلح '' 1/ 383 - 384، القاموس المحيط 1 / 243] .
المبحث الثاني: تعريف المصلحة اصطلاحا :
اختلفت تعاريف العلماء للمصلحة بناء على مراد كل واحد منهم ، وذلك على أقسام :
الأول : من أراد تعريف المصلحة مطلقا مثل ابن قدامة حيث قال: المصلحة هي جلب المنفعة ودفع المضرة [ روضة الناظر، ص 169] .
وقال د . التركي : المصلحة الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم [ أصول مذهب الإمام أحمد، ص 413] وهو أدق من الأول .
وقال د . الربيعة : المصلحة في الاصطلاح : المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم ومالهم ودفع ما يفوت هذه الأصول أو يخل بها [ الأدلة المختلف فيها، ص 190] . فهذا حصر للمصلحة في هذه الجوانب وهي لا تنحصر فيها .
الثاني : من أراد تعريف المصالح المرسلة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : المصالح المرسلة : هو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه [مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 11 / 342] وهذا تعريف جيد .
وقال د . المنصور : هي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار والإلغاء ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس [ أصول الفقه وابن تيمية، 1 / 452] .
الثالث : من أراد تعريف الاستصلاح قال الدكتور عبد العزيز الربيعة : هو استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع بناء على مراعاة مصلحة مرسلة [ الأدلة المختلف فيها، 221].
الفصل الأول: تتبع آراء الحنابلة في المصلحة :
المبحث الأول : آراء متقدمي الحنابلة :
1 - الإمام أحمد :
قال ابن دقيق العيد : الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع - المصالح المرسلة - ويليه أحمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيحا في الاستعمال لهما على غيرهما [ أصول مذهب أحمد، ص 422] .
وقال القرافي : هي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك [ المذكرة، للشنقيطي، ص 170] .
ابن القيم رحمه الله حين عد أصول مذهب أحمد في أول كتابه: " إعلام الموقعين " لم يذكر المصالح المرسلة منها .
وكثير من المتأخرين ينسب للإمام أحمد القول بالمصالح المرسلة ، لأنه حكم على قضايا كثيرة بأحكام معينة ، وهذه الأحكام توافق المصلحة ، فمن هنا فالإمام يقول باعتبار المصالح ، وهذا ليس بصحيح لأن الإمام أحمد لم ينص على أن موجب الحكم هو المصلحة ، ثم هذه القضايا بعضها ورد في أحاديث ، وبعضها يشمله عموم النصوص ، وبعضها ورد عن الصحابة ، فالإمام أخذ هذه الأحكام من ذلك .
ولنضرب لذلك مثلا: أنهم قالوا : بأن الإمام أحمد قال بتغليظ الحد على من شرب الخمر في نهار رمضان لحرمة الشهر ، وقالوا: إن هذا عمل بالمصلحة المرسلة وليس كذلك بل هذا وارد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - [ أخرجه الطحاوي، '' مشكل الآثار ''، 3/ 168] ، ومثله قتل الجماعة بالواحد ، قالوا: هو بناء على المصلحة المرسلة وليس كذلك ، بل لأنه قول صحابي ومن أصول أحمد العمل بقول الصحابي ما لم يكن نص ولا اختلاف بين الصحابة ، بل حكي ذلك إجماعا للصحابة [ المغني, 1/ 490] .
2 - أبو الوفاء ابن عقيل :
نقل ابن القيم عن ابن عقيل في الفنون أنه قال: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم ، ولا يخلو من القول به إمام ، فقال الشافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع . . فقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول . فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف ، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة [ الطرق الحكمية، ص 13] .
3 - أبو محمد ابن قدامة المقدسي :
ذكر ابن قدامة في كتابه روضة الناظر بعض الأدلة المختلف فيها وذكر من ضمنها الاستصلاح وهو اتباع المصلحة ، وجعلها ثلاثة أنواع: معتبر بالشرع وهذا هو القياس ، وما شهد الشرع ببطلانه وهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته للنص .
وما لم يشهد له الشرع بإبطال ولا اعتبار معين ، وهو ثلاثة أنواع: ما يقع في مرتبة الحاجيات ، وما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات ، فهذان الضربان لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل .
والضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات ، وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها ، فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة . . . والصحيح أن ذلك ليس بحجة . . ثم ذهب يستدل لقوله [روضة الناظر، ص (169 - 170)] .
لكن قال الطوفي : قال بعض أصحابنا: ليست حجة - يريد المصلحة المرسلة - وإنما قلنا قال بعض أصحابنا ولم أقل أصحابنا لأني رأيت من وقفت على كلامه منهم حتى الشيخ أبا محمد - يعني ابن قدامة - في كتبه؛ إذا استغرقوا في توجيه الأحكام يتمسكون بمناسبات مصلحية يكاد الشخص يجزم بأنها ليست مرادة للشارع ، والتمسك بها يشبه التمسك بحبال القمر ، فلم أقدم على الجزم على جميعهم بعدم القول بهذه المصلحة خشية أن يكون بعضهم قد قال بها فيكون ذلك تقولا عليهم [ أصول مذهب الإمام أحمد، ص 424] .
4 - المجد ابن تيمية :
قال المجد : المصالح المرسلة لا يجوز بناء الأحكام عليها ، قاله ابن الباقلاني وجماعة المتكلمين ، وهو قول متأخري أصحابنا أهل الأصول والجدل [ المسودة، ص 450] .
5 - أبو الخطاب :
قال المجد : وقد ذكر أبو الخطاب في تقسيم الأدلة الشرعية أن الاستنباط قياس واستدلال ، والاستدلال يكون بأمارة وعلة ويكون بشهادة الأصول والاستدلال بالعلة أو الأمارة هو المصالح [ المسودة، ص451، وبحثت عنه في مظانه من التمهيد فلم أجده ] .
المبحث الثاني: آراء متوسطي الحنابلة :
1 - شيخ الإسلام ابن تيمية :
قال: الطريق السابع المصالح المرسلة . . . فهذه الطريق فيها خلاف مشهور ، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة ، ومنهم من يسميها الرأي ، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان ، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته ، وهذه مصلحة ، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان ، وليس كذلك؛ بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار ، وما ذكروه من دفع المضار . . . وجلب المنفعة يكون في الدنيا والدين . . . فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال - الخمسة - ليحفظ الجسم فقط فقد قصر .
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به ، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم ، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل ، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه ، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص ، وكثير منهم أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها ، ففوت واجبات ومستحبات ، أو وقع في محظورات ومكروهات ، وقد يكون الشرع ورد بذلك ، وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها ، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا ، والقول بالمصالح يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبا ، وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك . . . لكن بين هذه فروق .
والقول الجامع : أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط ، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة ، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا حدثنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك . لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر ، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة ، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة ، كما قال تعالى : ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [ سورة البقرة الآية 219 ] وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك ، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا وليس كذلك فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 11 / 342 - 345] .
فخلاصة كلامه - رحمه الله -: أنه تردد في العمل بالمصلحة المرسلة حتى إنه ليكاد أن يمنعها لأسباب :
1 - أن الله - عز وجل - قد أكمل الدين ، والدين من كماله استقصى جميع المصالح .
2 - ما رآه من تصرفات الصوفية الذين اعتمدوا على الإلهامات والأذواق معتبرين ذلك مصلحة لا بد منها فدخل كثير من المغرضين من هذا الباب فشوهوا الإسلام وطمسوا محياه .
3 - ما رآه من الجرأة على العمل بالمصالح بدون تثبت مما أدى إلى فتح باب الفوضى والاضطراب في الدين ، حيث رأى كثير من الأمراء والعباد مصالح فاستعملوها - بناء على هذا الأصل - ولم تكن كذلك وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع لم يعلموه .
4 - ما رآه من الشبه في بعض الوجوه بقول المعتزلة في التحسين والتقبيح العقلي ، وقد يؤدي إلى أن يشرع العبد من الدين ما لم يأذن به الله .
5 - جر القول بالمصالح المرسلة إلى فتح الباب على مصراعيه بدون تقييد بنظام الشرع فجلب كثيرا من البدع في العقائد والأعمال ، كما اتخذها كثير من الملوك والحكام سلما وطريقا سهلا يسلكونه في ظلم الناس وإنزال الأذى بهم في أموآله م وأنفسهم [ أصول الفقه وابن تيمية، 2/ 467 - 468] .
2 - ابن قيم الجوزية :
قال : إن الشريعة مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ومصالح كلها ، ورحمة كلها ، وحكمة كلها [ إعلام الموقعين، 3/ 14] لكن هذا في المصالح المعتبرة من الشارع لا المرسلة .
وابن القيم حين عد أصول أحمد لم يذكر المصالح المرسلة منها .
3 - نجم الدين الطوفي :
نسب بعض المحدثين للطوفي رسالة في شرح الأربعين النووية تكلم في أثنائها على حديث : (( لا ضرر ولا ضرار )) وقال فيها بتقديم المصلحة على النص بطريق التخصيص والبيان بشرط أن يكون الحكم من أحكام المعاملات أو العادات أو السياسات الدنيوية أو شبهها ، لا أن يكون من أحكام العبادات أو المقدرات ونحوها ، لأن العبادات حق للشارع خاص به ، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته فيأتي به العبد بما رسم له ، فأحكام العبادات والمقدرات لا مجال للعقل في فهم معانيها على التفصيل [ شرح حديث '' لا ضرر ولا ضرار '' ملحق برسالة (المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي) 16 - 46] .
4 - ابن النجار الفتوحي :
جعل المصلحة ثلاثة أضرب: معتبر بالشرع ، وباطل بالشرع ، والثالثة المرسلة حكى فيها الخلاف وأحال على الكلام في المناسبة [ شرح الكوكب المنير، 4 / 432] .
وفي الكلام على المناسب جعله ثلاثة أضرب: أحدها: دنيوي وجعله أقساما: ضروري ومكمله ، وحاجي ومكمله ، وتحسيني ، فجعل المناسب من باب المصالح المرسلة ، وقال: وليست هذه المصلحة بحجة ، ونقل الخلاف فيها ، ودلل على عدم حجيتها . والثاني: أخروي ، والثالث: إضافي .
ثم قسم المناسب إلى أقسام: مؤثر وملائم وغريب ، والغريب هو الذي لم يشهد له غير أصله بالاعتبار ، قال: والمرسل الغريب ليس حجة عند الجمهور ، والمرسل الذي ثبت إلغاؤه مردود بالاتفاق [ شرح الكوكب المنير، 4 /159 - 181].
المبحث الثالث: آراء متأخري الحنابلة في المصلحة :
ا - عبد القادر بن بدران :
قال: ( والمختار عندي اعتبار المصالح المرسلة ، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق ، وإني أرى غالب الأحكام في أيامنا التي نحن فيها مسالكة على ذلك الأصل ومهيئة لقبوله سخطنا أم رضينا) . . . إلى أن قال: (من ذلك ما يقوله الحنابلة بالرجوع إلى العرف في القبض والحرز وكل ما لم يرد من الشرع تحديد فيه )[ شرح روضة الناظر '' نزهة الخاطر العاطر ''، 1 / 416] .
وجعل العرف في ما لم يرد تحديده في الشرع من باب المصلحة المرسلة ليس بسديد .
2 - الدكتور عبد الله التركي :
عرف أولا المصلحة ثم ذكر أقسامها وحصر الخلاف في المصلحة المرسلة ثم قال: ( والخلاصة أن المصالح على القول بها لدى الحنابلة أو غيرهم ليست عملا بالرأي وحده وكل ما أفتى به الأئمة بناء على المصلحة فإنما هي مصلحة شهد الشرع لجنسها بالاعتبار وذلك اعتبار لها في الجملة) .
قال: ( والذي أرجح وأراه أخيرا أن بناء الأحكام على المصلحة ليس مقصورا عليها فقط ، بل لا بد أن يكون الشارع اعتبر جنس هذه المصالح فلا يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر فهم لا يستطيعون ذلك استقلالا دون سند من شرع الله ، ولو قلنا أن البشر يستطيعون تحديد المصالح والمفاسد ثم يبنون عليها الأحكام وتكون تشريعا في حقهم لأجزنا لهم وضع التشريعات ، ثم إن القول بأن هناك مصالح أغفلتها الشريعة طعن في كمالها وشمولها وعمومها وقد دلت الأدلة القاطعة على إكمال الله للدين ، وحفظه من التغيير والتبديل ، وعليه فإذا كان جنس المصلحة قد اعتبره الشارع جاز بناء الحكم عليها إذا لم يوجد أي دليل آخر مقدم عليها .
ولا يجوز للمسلم أن يتصرف في تشريع ما لم يجعل الله له ذلك الحق ، وكثير من الأمور المبنية على المصالح كالسياسة الشرعية والولايات العامة والخاصة والأنظمة كل هذه قد أعطى الله أصحابها حقوقا يتصرفون في دائرتها وإن لم ينص على جزئيات التصرف ) [ أصول مذهب الإمام أحمد، (432) وما بعدها] .
فخلاصة كلامه: العمل بالمصالح المرسلة بشروط :
1 - عدم معارضة دليل آخر لها .
2 - اعتبار الشارع لجنس المصلحة ، بمعنى أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع .
3 - أن لا يكون للأهواء والشهوات فيها مدخل .
4 - أن يكون القائمون على تحديدها هم أهل الفقه والدين والعلم بالشريعة .
3 - شيخنا الدكتور عبد الرحمن الدريويش :
ذهب - وفقه الله في رسالته - عن المصالح المرسلة إلى: أن المصالح المرسلة محتج بها في الشرع ، ومحتج بها عند الأئمة ودلل لذلك .
واشترط لاعتبارها والعمل بها :
1 - أن لا تخالف نصا من الكتاب أو السنة أو إجماعا .
2 - أن تكون ملائمة لتصرفات الشرع .
3 - أن يكودن تحديدها من العلماء .
4 - شيخنا الدكتور عبد العزيز الربيعة :
قسم المصالح المرسلة إلى : ما شهد الشرع باعتباره ، وما شهد بإلغائه ، وما لم يشهد له باعتبار ولا إلغاء .
فما شهد الشارع باعتباره فهو حجة لا إشكال فيه ، وما شهد بإلغائه فليس بحجة اتفاقا ، لأن في اعتبارها مخالفة لنصوص الشرع ، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير حدود الشرائع ونصوصها ، ومن أمثلة هذا القسم القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث ، ثم تكلم عن مذهب الطوفي وخرقه الإجماع وأدلته ومناقشتها .
ثم ذكر النوع الثالث من المصلحة ، وهو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا بإلغاء ، بل سكتت عنها الشواهد الخاصة في الشرع ( أي النصوص المعينة) التي تدل على أحد الأمرين الاعتبار أو الإلغاء ، وهو المصلحة المرسلة .
وجعلها نوعين: ما ورد على وفق النص ، والملائم لتصرف الشرع . ثم تكلم عن الاستصلاح معناه وأمثلته ، ثم تكلم عن حكمه فقال: ( اتفقت كلمة العلماء على أنه لا يجوز الاستصلاح في أحكام العبادات؛ لأنها تعبدية ، والمقدرات لأنها مثل العبادات كالحدود والكفارات وفروض الإرث . . .
وإنما اختلف العلماء في حكم الاستصلاح فيما عدا أحكام العبادات والمقدرات ، وذكر المذهب الأول بالمنع ونسبه للمتأخرين ، والمذهب الثاني بناء الأحكام على المصالح بشرطين:
1 - أن تثبت المصلحة بالبحث وإمعان النظر والاستقراء أنها مصلحة حقيقية لا وهمية .
2 - أن تكون المصلحة عامة؛ لأنها مقصودة للشارع بخلاف المصلحة الشخصية . ونسب هذا القول للأئمة الأربعة وغيرهم .
والمذهب الثالث للغزالي العمل بها في الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات . وحرر مذهبه ، ودلل لكل قول وناقش كثيرا من هذه الأدلة ) [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 191 - 257] .
ثم قال: (المذهب الراجح هو القول بحجية الاستصلاح سواء كانت المصلحة التي يراد بناء الحكم عليها واقعة في مرتبة الضروريات أم في مرتبة الحاجيات أم في مرتبة التحسينيات ، وأن المصلحة المرسلة أصل مستقل برأسه في بناء الأحكام عليها ، وهي داخلة ضمن مقاصد الشرع وراجعة إلى حفظ مقصد من مقاصده ، وليست راجعة إلى الأصول الاجتهادية الأخرى المتفق عليها بل هي آخذة صفة الاستقلال . . . ) .
ثم قال: ( بل إن الاستصلاح هو أخصب الطرق التشريعية فيما لا نص فيه ، وأكثرها أهمية ، إذ فيه المتسع لاستنباط الأحكام التي تقتضيها تطورات الخلق ، وفيه الغناء لما يحقق مصالحهم وحاجاتهم . لكنه يحتاج إلى مزيد الاحتياط في توخي المصلحة وشدة الحذر من غلبة الأهواء؛ لأن الأهواء كثيرا ما تزين المفسدة فتراها مصلحة ، وكثيرا ما يغتر بما ضرره أكبر من نفعه ) [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 257، 258] .
5 - الدكتور صالح المنصور :
قال: (ونختار . . العمل بالمصلحة المرسلة متى كانت ملائمة لتصرفات الشرع ولم تعارض نصا . . . . ، فإن كان ثم
معارضة فالمصلحة باطلة ملغاة) .
ثم قال: ( ولقد راعى الشارع مبدأ المصالح في تشريع الأحكام وذلك مما يغلب على الظن اعتبار المناسب المرسل فيجب العمل به لأن العمل بالظن واجب ، وأيضا فإن المصالح التي ألغاها الشارع نظرا لما تجره من المفاسد قليلة) .
ثم قال: ( وإننا نستطيع أن نقول: يكاد العلماء أن يتفقوا على القول بها فهم يقولون برعاية الأحكام الشرعية للمصالح فكل حكم شرعي مربوط بحكمته ، وأن الحكمة هي التي دعت إلى تقريره ، ومرجع هذه الحكمة إلى جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم ، وهذه الحكمة ظاهرة في أكثر الأحكام خصوصا المعاملات وقد تخفى في بعض العبادات ) [ أصول الفقه وابن تيمية، 2/ 600 - 602] .
6 - رأي غريب :
ذهب أحد المعاصرين إلى اعتبار المصلحة مطلقا وتقديمها على النصوص بدعوى أن هذا تقديم للنصوص الكلية على النصوص الجزئية [ جريدة الشرق الأوسط، عدد 4035 في 15 / 12 / 1989م. ] .
وهذا صادر من غير المجتهدين ، فلا ينظر إليه ولا يعول عليه ولا عبرة به إطلاقا ، فإنه ليس لديه آلة هذا الشأن ، فإذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل ، بل الإجماع منعقد على أن العامي يعصي الله بمخالفة العلماء وأن مخالفة العلماء في حقه حرام [ إحكام الفصول، 392] فكيف يكون الهدى والإصابة في قول محرم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذم الرؤساء الجهال الذين يفتون بغير علم فيضلون ويضلون . والأخبار تقتضي إيجاب مراجعة العلماء ، قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة النحل الآية 43 ] ، وعلى فرض تعارض النصوص الكلية العامة والنصوص الجزئية الخاصة ، فإن ذلك لا يفيد اطراح النصوص الجزئية الخاصة ، بل يعمل بها في مكان خصوصها .
يتبع - بمشيـئة الله -