المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً }الإمام ابن العثيمين


كيف حالك ؟

البلوشي
02-14-2007, 05:55 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

تفسيرقوله تعالى {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً }الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:109)
التفسير:
قوله تعالى: { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً }؛ { ود } بمعنى أحب؛ بل إن "الود" خالص المحبة؛ والمعنى: أن كثيراً من أهل الكتاب يودون بكل قلوبهم أن يردوكم كفاراً؛ أي يرجعوكم كفاراً؛ وعلى هذا فـ{ يردونكم } تنصب مفعولين؛ الأول: الكاف في { يردونكم }؛ والثاني: { كفاراً }؛ و{ أهل الكتاب } هم اليهود، والنصارى؛ والمراد بـ{ الكتاب } التوراة، والإنجيل؛ و{ لو } هنا مصدرية؛ وضابطها أن تقع بعد "ود" ونحوها؛ و{ من بعد إيمانكم } أي من بعد أن ثبت الإيمان في قلوبكم..
قوله تعالى: { حسداً } مفعول لأجله عامله: { ود }؛ أي ودوا من أجل الحسد؛ يعني هذا الود لا لشيء سوى الحسد؛ لأن ما أنتم عليه نعمة عظيمة؛ وهؤلاء الكفار أعداء؛ والعدو يحسد عدوه على ما حصل له من نعمة الله؛ و "الحسد" تمني زوال نعمة الله على الغير سواء تمنى أن تكون له، أو لغيره، أو لا لأحد؛ فمن تمنى ذلك فهو الحاسد؛ وقيل: "الحسد" كراهة نعمة الله على الغير..
قوله تعالى: { من عند أنفسهم } أي هذه المودة التي يودونها ليست لله، ولا من الله؛ ولكن من عند أنفسهم..
قوله تعالى: { من بعد ما تبين } أي من بعد ما ظهر { لهم } أي لهؤلاء الكثيرين؛ { الحق } أي ما أنتم عليه من الحق؛ و "الحق" هو الشيء الثابت؛ فإن وصف به الحكم فالمراد به العدل؛ وإن وصف به الخبر فالمراد به الصدق؛ فـ{ الحق } الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام؛ ودين الإسلام على هذا؛ وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا؛ فإن أخباره صدق، وأحكامه عدل..
قوله تعالى: { فاعفوا واصفحوا }: الخطاب للمؤمنين عامة؛ ويدخل فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ و "العفو" بمعنى ترك المؤاخذة على الذنب؛ كأنه من عفا الأثر: إذا زال لتقادمه؛ و{ اصفحوا }: قيل: إنه من باب عطف المترادفين، كقول الشاعر:
فألفى قولها كذباً وميناً و"الكذب" و"المين" معناهما واحد؛ ولكن الصواب أن بين "العفو" ، و "الصفح" فرقاً؛ فـ "العفو" ترك المؤاخذة على الذنب؛ و "الصفح" الإعراض عنه؛ مأخوذ من صفحة العنق؛ وهو أن الإنسان يلتفت، ولا كأن شيئاً صار . يوليه صفحة عنقه .؛ فـ "الصفح" معناه الإعراض عن هذا بالكلية وكأنه لم يكن؛ فعلى هذا يكون بينهما فرق؛ فـ "الصفح" أكمل إذا اقترن بـ "العفْو" ..
قوله تعالى: { حتى يأتي الله بأمره } أي بأمر سوى ذلك؛ وهو الأمر بالقتال..
قوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير } أي لا يعتريه عجز في كل شيء فعله..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان شدة عداوة اليهود، والنصارى للأمة الإسلامية؛ وجه ذلك أن كثيراً منهم يودون أن يردوا المسلمين كفاراً حسداً من عند أنفسهم..
.2 ومنها: أن الكفر بعد الإسلام يسمى ردة؛ لقوله تعالى: { لو يردونكم }؛ ولهذا الذي يكفر بعد الإسلام لا يسمى باسم الدين الذي ارتد إليه؛ فلو ارتد عن الإسلام إلى اليهودية، أو النصرانية لم يعط حكم اليهود، والنصارى..
.3 ومنها: أن الحسد من صفات اليهود، والنصارى..
.4 ومنها: تحريم الحسد؛ لأن مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"(1) ؛ واعلم أن الواجب على المرء إذا رأى أن الله أنعم على غيره نعمة أن يسأل الله من فضله، ولا يكره ما أنعم الله به على الآخرين، أو يتمنى زواله؛ لقوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله} [النساء: 32] ؛ والحاسد لا يزداد بحسده إلا ناراً تتلظى في جوفه؛ وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة؛ فهو مع كونه كارهاً لنعمة الله على هذا الغير مضاد لله في حكمه؛ لأنه يكره أن ينعم الله على هذا المحسود؛ ثم إن الحاسد أو الحسود . مهما أعطاه الله من نعمة لا يرى لله فضلاً فيها؛ لأنه لابد أن يرى في غيره نعمة أكثر مما أنعم الله به عليه، فيحتقر النعمة؛ حتى لو فرضنا أنه تميز بأموال كثيرة، وجاء إنسان تاجر، وكسب مكسباً كبيراً في سلعة معينة تجد هذا الحاسد يحسده على هذا المكسب بينما عنده ملايين كثيرة؛ وكذلك أيضاً بالنسبة للعلم: بعض الحاسدين إذا برز أحد في مسألة من مسائل العلم تجده . وإن كان أعلم منه . يحسده على ما برز به؛ وهذا يستلزم أن يحتقر نعمة الله عليه؛ فالحسد أمره عظيم، وعاقبته وخيمة؛ والناس في خير، والحسود في شر: يتتبع نعم الله على العباد؛ وكلما رأى نعمة صارت جمرة في قلبه؛ ولو لم يكن من خُلُق الحسد إلا أنه من صفات اليهود لكان كافياً في النفور منه..
.5 ومن فوائد الآية: علم اليهود، والنصارى أن الإسلام منقبة عظيمة لمتبعه؛ لقوله تعالى: { حسداً }؛ لأن الإنسان لا يحسد إلا على شيء يكون خيراً، ومنقبة؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة: 105] ..
.6 ومنها: وجوب الحذر من اليهود، والنصارى؛ ما دام كثير منهم يودون لنا هذا فإنه يجب علينا أن نحذر منهم..
.7 ومنها: بيان خبث طوية هؤلاء الذين يودون لنا الكفر؛ لقوله تعالى: { من عند أنفسهم }؛ ليس من كتاب، ولا من إساءة المسلمين إليهم؛ ولكنه من عند أنفسهم: أنفس خبيثة تود الكفر للمسلمين حسداً..
.8 ومنها: أن هؤلاء الذين يودون الكفر للمسلمين قد تبين لهم الحق؛ فلو كانوا جاهلين بأن المسلمين على حق، وقالوا: "لا نريد أن نكون على دين مشكوك فيه" لكان لهم بعض العذر؛ ولكنهم قد تبين لهم الحق، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وأن دينه حق، وأن المؤمنين على حق؛ ومع ذلك فهم يودون هذه المودة، ويسعون بكل سبيل أن يصلوا إلى غايتهم؛ فمن أحب شيئاً سعى في تحصيله؛ فكثير من هؤلاء اليهود والنصارى يسعون بكل ما يستطيعون من قوة مادية، أو أخلاقية، أو غيرهما ليردوا المسلمين بعد الإيمان كفاراً..
.9 ومن فوائد الآية: مراعاة الأحوال، وتطور الشريعة، حيث قال تعالى: { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره }..
.10 ومنها: أن الذم إنما يقع على من تبين له الحق؛ وأما الجاهل فهو معذور بجهله إذا لم يقصر في طلب العلم..
11 . ومنها: جواز مهادنة الكفار إذا لم يكن للمسلمين قوة..
.12 ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل، حيث أمر بالعفو، والصفح إلى أن يأتي الله بأمره؛ لأن الأمر بالقتال قبل وجود أسبابه، وتوفر شروطه من القوة المادية والبشرية، ينافي الحكمة..
.13 ومنها: الرد على منكري قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ والذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد فعلاً يليق بجلاله وعظمته، وما تقتضيه حكمته؛ لقوله تعالى: { حتى يأتي الله بأمره }..
.14 ومنها: ثبوت القدرة لله عز وجل، وأنها شاملة لكل شيء؛ لقوله تعالى: ( إن الله على كل شيء قدير )
.15 ومنها: الرد على المعتزلة القدرية؛ لأنهم يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله؛ وإذا كان مستقلاً بعمله لزم من ذلك أن الله لا يقدر على تغييره؛ لأنه إن قدر على تغييره صار العبد غير مستقل..
.16 ومنها: بشارة المؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى سيغير حالهم المقتضية للعفو والصفح، إلى قوة يستطيعون بها جهاد العدو..
.17 ومنها: اتباع الحكمة في الدعوة إلى الله بالصبر، والمصابرة حتى يتحقق النصر، وأنْ تعامَل كل حال بما يناسبها..
___________________________________________
تفسير سورة البقر المجلد الأول من التفسير الشيخ العلامة ابن العثيمين

12d8c7a34f47c2e9d3==