المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحـج عبادة وميدان دعوة /العلامة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ


كيف حالك ؟

البلوشي
12-07-2006, 02:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحـج عبادة وميدان دعوة /العلامة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ

الحمد لله القائل في كتابه ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتِ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾[آل عمران:96]، والحمد لله الذي قال أيضا في كتابه ﴿جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾[المائدة:97].
فله الحمد على آلائه حمدا كَثْرا لا ينقطع ما دامت الأنفاس مترددة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وأسأله جل وعلا أن يعيذنا أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
وهذه دعوة العلماء وطلاب العلم العظيمة؛ أن يستعيذوا بالله من أن يزلوا أو يزلوا أو أن يضلوا أو يضلوا أو يجهلوا و يجهل عليهم.
هذا الموضوع:
موضوع الحج عبادة وميدان دعوة
انبثق من قول الله جل وعلا لإبراهيم عليه السلام ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاِس بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾[الحج:27-28]، وقد تكلم أهل العلم من المفسرين وغير المفسرين أنّ الله جل جلاله في هذه الآية جعل العلّة من تأذين إبراهيم في الناس بالحج أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا اللام هنا لام التعليل أي من أجل أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا أيضا (مَنَافِعَ) هنا ذكرت ولم تعرف ولم تضف إضافة تخصيص؛ وذاك لتكون مطلقة فتكون عامة في أنواع المنافع، فكل منفعة جعلها الله جل وعلا منفعة في الحج فإنها مقصودة.
ولهذا اختلف المفسرون في رؤية هذه المنافع، واختلافهم من باب اختلاف التنوع:
فقالت طائفة منهم: إن المنافع في قوله (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) أنها التجارة. وذلك منهم نظر إلى قول الله جل وعلا في سورة البقرة ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾[البقرة:198].
وقال آخرون: بل المنافع هي أن يأكلوا من اللحوم وأن يدّخروها وأن يتمونوها؛ لأن الله جل وعلا قال في سورة الحج ﴿وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ﴾[الحج:36].
وقالت طائفة: المنافع هنا هي العفو والمغفرة والخروج عند الحج من الذنوب كما ولدت الإنسان أمه؛ وذلك لقول الله جل وعلا ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾[البقرة:203]، وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة في ذلك منها ما خرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد»، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «العمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فمعنى ذلك أن الحاج إذا حج فاتقى فلم يرفث ولم يفسق رجع بأعظم المنافع؛ وهي أنه يرجع خاليا من الذنوب، ولاشك أن هذا شهود منفعة عظيمة.
ولهذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم في قول الله جل وعلا (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني أن الحاج سواء تعجل أو لم يتعجل فتأخر فإنه يرجع من حجه ولا إثم عليه بشرط أن يكون متقيا، لهذا قال بعدها (لِمَنِ اتَّقَى)، فقوله (لِمَنِ اتَّقَى) يرجع إلى نفي الإثم في الموضعين، وليس راجعا إلى نفي الإثم فيما إذا تأخر؛ يعني أن الحاج ينتفع أعظم الانتفاع بأنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه وهذه منفعة عظيمة.
وهذا كله صحيح.
وأيضا مما قيل في تفسير الآية: أن المنافع أن يشهد الحجاج الكعبة وأن شهدوا الطواف والسعي ورمي الجماع وذكر الله جل وعلا، فيقيمَهم ذلك الشهود على توحيد الله جل جلاله؛ لأنهم يرون الكعبة ويتذكرون إبراهيم عليه السلام الذي بناها، فيتذكرون بذلك حق الله جل وعلا الذي هو توحيده سبحانه وخلع الأنداد والبراءة من الشرك وأهله.
ومن المنافع التي تتحصل -كما ذكره الشيخ الشنقيطي في تفسيره-: شهود الأمة بعضهم لبعض، والتقاء المسلمين بعضهم لبعض، وما في ذلك من الوحدة الإسلامية التي جاءت فيها الآية ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾( ) يعني أن الدين واحد، وهذه الأمة إذا التقت على دين واحد واجتمعت على دين واحد فهذا أعظم المنافع.
وهكذا في أقوال كثيرة.
وابن جرير رحمه الله إمام لمفسرين لما أتى لهذه الآية وساق بعض الأقوال التي ذكرت قال ما حاصله: إن هذه الآية لا صار فيها إلى قول دون قول؛ بل إن المنافع تشمل ما ذكر وتشمل كل ما فيه منفعة للحاج، فكل ما فيه منفعة للحاج في أمر دينه ودنياه في أمر دنياه وفي أمر آخرته، فإن شهوده ذلك في الحج من مقاصد الحج.
وهذا التأصيل مهم حتى نرى أن الله جل جلاله جعل من مقاصد الحج الشرعية أن يشهد الحجاج المنافع لهم، وهذه المنافع منها أن يؤدوا فرضهم، أو أن يؤدوا نفلهم، وأن يرجعوا بالأجر والغنيمة من الخيرات، أو أن يرجعوا بالمال، أو أن يرجعوا وقد خلوا من الذنوب والآثام، وقد التقى بعضهم ببعض إلى آخر ذلك.
فإذن المنافع كثيرة.
وإذا كان كذلك كان من تحقيق المقاصد الشرعية في الحج أن يحقق المسلمون كل هذه المنافع ما استطاعوا، ما كان منها مباحا فهو مباح لهم كالتجارة، وما كان منها مستحبا فهو مستحب لهم كنشر العلم والدعوة وأشباه ذلك، وما كان منها واجبا فهو واجب عليهم وهكذا.
والحاج أيًّا كان يجب عليه أن يكون مخلصا لله جل جلاله في الحج، وقد جاء في الأثر؛ بل في الحديث «لا تقوم الساعة حتى يكون حج فقراء أمتي للمسألة وحج أغنيائهم للسياحة»، والحج ركن الإسلام الخامس، والإخلاص فيه واجب بل شرط صحته.
ولهذا لما تكلم العلماء على الذين يُستأجرون للحج قالوا: إن من أخذ المال ليحج فإن هذا جائز؛ ولكن من حج ليأخذ المال فهذا الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق؛ يعني من نصيب.
يعني أن المرء إذا أراد أن يحج ولكن ليس عنده نفقه وله رغبة في رؤية الكعبة ورؤية المشاعر والتعرض لنفحات الله في تلك المواقف العظام وحضور يوم عرفة وشهود تلك الساعة الأخيرة والقيام بما يتعبد به المسلمون في تلك المناسك والمشاهد العظيمة، ولكن ليس عنده مال، فليس ثَم بأس أن يأخذ من المال ما يعينه على الحج عن نفسه أو عن غيره؛ لكن من ليس له رغبة في الحج أصلا؛ ولكن إنما حج ليأخذ وإنما ليس له رغبة في رؤية الكعبة ولا رؤية المشاعر ولا أن يكون مع المتعبدين هناك، فهذا قال فيه شيخ الإسلام وغيره قال هذا الأشبه -يعني من حج ليأخذ- الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق. وهذا لأجل أنه فاته الإخلاص لله جل جلاله في هذه العبادة أو ضعف الإخلاص فيه جدا حتى كان رغبته في أمر الدنيا.
التجارة أُبيحت في الحج، ولو كان الحاج ذهب ليتاجر فليس عليه جناح، كما قال جل وعلا ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات﴾[البقرة:198] الآية، قال العلماء: إرادة الأمر الدنيوي فيما يراد به وجه الله جل وعلا إذا كان مأذونا به من جهة الشارع فلا يُعَدُّ قصده إخلالا بالإخلاص، ولا يدخل ذلك في قول الله جل وعلا في سورة هود ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّي إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ لاَ يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّار﴾[هود:15-16]، وقد ذكر العلماء إمام الدعوة وذكر أبناؤه وتلامذته أربع صور تدخل تحت هذه الآية، وليس منها أن يكون الأمر الدنيوي قد رتّبه الشارع على العبادة، مثل أن يصل رحمه امتثالا لأمر الله؛ ولكن أيضا ليحصل على الثر الذي رغب فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه»، من جاهد لإعلاء كلمة الله ولكن له رغبة في المال فهذا قد حث عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقال «من قتل قتيلا فله سلبه» ترغيبا في أن يقاتل وأن يجاهد ولكن يكون قصده الله جل وعلا ويكون هذا معه.
وكذلك من أراد بالحج أن يكون حاجا أو أن يتعبد؛ ولكن مع ذلك أن يربح ما يربح من التجارة فلا بأس بذلك ولا يعد ذلك منافيا لإخلاص لأن الله جل جلاله أذن بذلك وقال (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)، بخلاف الذي ليس له همة في الحج إلا أن يكون رابح للمال فلم يقصد أن يتقرب إلى الله بالحج وإنما قصده إلى المال فهذا الشبه أن يكون ممن يريد حرث الدنيا.
المنافع كثيرة ولهذا نقول: إذا تحقق الإخلاص ورام العبد الحج فلا بد أن يرتب نفسه في أن يكون ممن تعرَّض لهذه المنافع العظيمة التي هي مقصد الحج، فيكون متعرِّضا من أول ما يذهب مستحضرا أن يرجع من حجه وقد خلا من الذنوب، (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) والحج حج البيت يبدأ من قصدك البيت؛ لأن الحج في اللغة هو القصد المكرر لمكان معظم.
إذا كان كذلك فمنذ أن تذهب للحج تكون أول منفعة تريد أن تشهدها وتحظى بها أن ترجع وقد خلوت من الذنوب، والحج المبرور يكفر ذنوب السنة التي سلفت.
الحج المبرور: يعني الذي ليس فيه معصية -يعني من الكبائر أو من إدمان الصغائر-.
فإذا كان كذلك كان أول منفعة يجب أن نشهدها أن تخلى من الذنوب والمعاصي، وأن نسعى في أن لا نرفث ولا نفسق.
الرفث: اسم جامع للحديث مع النساء، قد يكون الحديث عن مقدمات الجماع، أو قد يكون في تبسيط المرأة، أو قد يكون في الحديث مع المرأة، إلى آخر ذلك، فكل ما يتعلق على الحديث مع النساء مما يكون معه شهوة، فإن ذلك من الرفث، واجتنابه مما هو مؤكد في الحج.
وهذه الوصية أو هذه المنفعة تحتاج إلى تواصٍ بها وإلى دعوى إليها؛ لأن كثيرين يحجون ويكثرون في حجهم من الرفث، يكثرون من المزاح، يكثرون من القيل والقال وكأنهم في زمن لهو، وهذا لاشك من تعريض الحاج نفسَه لعدم شهود هذه المنفعة العظيمة؛ لأنه لابد من التقوى (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى).
من منافع الحج العظيمة التي تشملها هذه الآية أن يتعلم الحجاج ما به تكون منفعتهم في الآخرة.
أما به منفعتهم في الدنيا فالناس تقريبا أساتذة في ذلك.
لكن ما به تكون منفعتهم في الآخرة هذا الذي الناس اليوم بأشد الحاجة إليه، وإذا كان زمن الحج قصيرا، فإن الواجب أن يكثف العبد جهده في الحج في التعليم؛ تعليم الجاهل وفي تبصير الغافل وما أشبه ذلك .
والتعليم هو الذي تحتاجه أن تبثه في الحجاج.
ولهذا أطرحُ رأيا لعله أن يكون مجالا للتطبيق لكل من يذهب إلى الحج ويكون عنده فضل علم في أن يبلغ هذا العلم؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نادى في الناس يوم عرفة فقال «اللهم هل بلغت اللهم فاشهد»، وقال «نظَّر الله امرؤا سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع».
فتبليغ العلم هذا من الضروريات، وأين تجتمع لك هذه الأمم وهذه الوفود حتى تكون في مكان واحد فتسعى فيها بالعلم؟
ولهذا من الغريب أن يكون ثم من طلبة العلم أو من الحجاج الذي عندهم فضل علم، بينهم أو فيما حولهم مخيمات كثيرة فيهم من المسلمين من هو جاهل بأمر التوحيد وأمر العقيدة -يعني العقيدة العامة- وكذلك بأمر العبادة وأمور أركان الإسلام والمعاملات إلى آخره.
وأعظم ذلك أمر العقيدة، لهذا لو توطن نفسك على أن تكون في هذه الحجة أن تكون في بعد ما فرض ناشرا للعلم ومعلما للجاهل، وقد ذكر أهل العلم أن طلب العلم وتعليم العلم أفضل النوافل، وهي أحد الروايات عن الإمام أحمد، فأفضل نوافل العبادات طلب العلم وتعليم العلم، ولهذا لما انصرف الناس عن الإمام مالك فذهبوا يصلون وهو يتحدث يحدث الحديث ويبين العلم قال: ما الذي ذهبوا إليه بأفضل مما تركوه.
فأنت قد تختار في الحج أن تكون مثلا ذاكرا أو أن تكون تاليا، وهذا أفضل إذا لم تكن المنفعة عندك متعدية يعني لم يكن العلم عندك واسعا فتستطيع أن تؤديه لغيرك، أما إذا كنت طالب علم فإن الأفضل في حقك أن تسعى في تبليغ العلم؛ في تبليغه في أصل الأصول وهو العقيدة.
ولهذا الأخ الإمام لما تكلم في أول الكلمة وقال: إن المسلمين في هذه الأزمان يحتاجون أشد الحاجة إلى أن يعلَّموا وأن يدعوا وهذا أمر متفق عليه، والحج هو الميدان الأول، والبلاء الذي أصاب المسلمين ليس من جهة عدو خارجي فحسب؛ بل البلاء من شيء بينهم في أنفسهم من الإضلال عن العقيدة الصحيحة وعن التوحيد الخالص، فهناك من شبه لهم في أمر الاعتقاد، وهناك من شبه عليه في أمر التوحيد، فجعلهم يسعون في عبادة غير الله، وجعلهم لا ينكرون البدع، وجعلهم لا يفرحون بالسنن، إلى آخر ما هنالك.
وهذا من البلاء الذي تولد في الأمة من جراء دعاة الباطل فيها من قرون.
ولهذا أعظم ما يدعى إليه بالاتفاق العقيدة، فالعقيدة أولا لأنها هي الواجب الأول، فلهذا لو عملنا شيئا من التركيز في أن ينطلق كل أصحاب حملة، وأن لا يتكلموا طول الوقت مع أنفسهم أو يأتوا يحضرون يسمعون كلمات تلقى في الحملات مثلا أو تلقى في المخيمات ربما كانت كلمات يمكن أن يسمعوها في غير هذا الوقت؛ لكن الأهم في ميدان الحج أن يكون العلم الصحيح الذي معك في العقيدة بأدلتها، في العبادات بأدلة ذلك مما تيقنت منه وليس عندك فيه شك أو شبهة أن تبلغه لمن هو جاهل.
المسلمون اليوم ليسوا بحاجة إلى تفريعات، المسلمون اليوم بحاجة إلى أن يعلموا ألف باء في العقيدة والتوحيد، يعلمون أوائل ومقدمات ومهمات الإخلاص، والعبادة والديمومة لله جل وعلا وحده دونما سواه، وذلك لأن الشرك فشى في الناس الشرك الأصغر والأكبر.
فلهذا كان من المتأكد شهودا للانتفاع وإشهاد له وانتقالا به أن تسعى في تحصيل هذا المقصد العظيم من مقاصد الحج الذي شرعه الله جل وعلا في قوله (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) وأن تشهد الناس أعظم منفعة لهم بأن تدله على توحيد الله جل وعلا وأن تعلمهم ذلك.
الحاصل أن الذين يعلمون لتوحيد وينشرون العقيدة في الحج على أقسام:
منهم من ينشر ذلك بالإنكار؛ يعني إذا سمع منكرا في العقيدة أو شيء أنكر واشتد وغلظ أو أغلظ في الإنكار على من فعل ذلك، ولا يسعى في التعليم ابتداء، وإنما عنده الإنكار، فقط.
وصنف لا يُنكِر ولكنه يعلم.
وصنف ثالث يعلم في ميدان التعليم، وإذا وجد منكرا من المنكرات المتعلقة بالعقيدة أو بالتوحيد أو المتعلقة بالعبادات فإنه ينكر ذلك، وينصح بالأسلوب الحسن الذي معه الانتفاع.
وتذكَّر في هذا كله أن الناس بحاجة دائما إلى أن تمتثل قول الله جل وعلا ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾[الإسراء:53]، فأمر جل وعلا أن يقول العباد التي هي أحسن (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فإذا وجدتَ كلمة حسنة وكلمة أحسن منها فقد أمرت بالأحسن فاترك الحسنة إلى الأحسن؛ لأنك لا تتكلم عن نفسك، وإنما تتكلم تريد أن ترغب الناس في دين الله جل جلاله، وهذا يلزمك أن تتلفظ بأحسن الألفاظ، وقد قال جل وعلا ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنْ إِلاَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾[العنكبوت:46]، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل:125].
فإذن ميدان التعليم في الحج يكون بتعليم الجاهل مع الصبر عليه، فتسعى في ذلك تنتشر من المخيم الذي أنت فيه أو الحملة التي أنت فيها أو المكان الذي أنت فيه، تتفقد من حولك، فتصادق هذا أو تخاطب هذا، وتتعرف عليه وتبدأ تتكلم معه في مناسبات وتتلقف حتى تدخل العقيدة الصحيحة في قلبه.
ولا تظن أنك لما أنعم الله جل وعلا عليك بهذه العقيدة الصحيحة أن الآخرين لو تكلمت معهم لن ينتفعوا، هذا من تخييل الشيطان وقد قال الله جل وعلا ﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾[النساء:94].
كذلك كنا من قبل في دعوة الإمام المصلح رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة؛ لكن بالتعليم وبالدعوة وبتواصل جهود أهل العلم مع جهود الولاية في هذه البلاد انتشر الخير في الناس.
كذلك هنا ينطبق عليه ما انطبق علينا «فلا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» «الكلمة الطيبة صدقة» فإذن:
الخطوة الأولى: أن تنتشر من المكان الذي أنت فيه إلى ما جاورك في تعليم لأصول العقيدة، في تعليم لمعنى الشهادتين، في تعليم التوحيد بالأسلوب الحسن وبالأدلة لا تستعجل في الحكم؛ يعني أن تقول له: أن هذا شرك وهذا كفر وهذا ضلال وهذا طاغوت، إلى آخره.
فإن النفوس فيها من عدم الاقتناع بالحق ما يجعلها لا تقبل هذا الأسلوب؛ ولكن قل كما قال المصلحون من قبل مثلا: الله خيرٌ من هذا، إذا سمعت كلمة شركية، أو تأتي بأدلة فيها تحريم دعوة غير الله جل وعلا ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]. وتدخل بالألطف فالألطف حتى تصل معه بعد حين إلى النتيجة.
في أمر العقيدة تحتاج معها إلى إيضاح وإلى توسع شيئا فشيئا، ومن المهم أن تكون مقدما للأهم فالمهم، لا تبحث مثلا في الشرك الأصغر، وأنت لم تتيقن من أن الذي أمامك قد كفر بالطاغوت، وقد فهم معنى كلمة التوحيد، هذا يكون من البداءة من المهم؛ ولكن تترك الأهم، وقد قال إمام الدعوة في كلامه على حديث ابن عباس في إرساله معاذ إلى اليمن على قوله «فليكن أول ما تدعوهم إليه» قال الشيخ رحمه الله في كتاب التوحيد فيه البداءة بالأهم فالأهم، وهذا من أصول الدعوة والتي سماها بعض المعاصرين فقه الأولويات؛ يعني أن تدرج الفرد وكذلك أن تدرج المجتمعات فيما هو أهم، أما أن تأتي إلى ما هو أقل وأن تترك المهمات فلا بد أن يكون ثم سوء في التصرف ونتيجة سيئة في هذا التصرف؛ لأنك أخللت بأمر شرعي وهو البداءة بالأهم فالأهم، وكثيرين ممن دعوا كانت هناك شبه في قلوبهم من أثر دعوة من دعاهم؛ لأنه لم يحسن الأسلوب ولم يبدأ بالأهم فالأهم لم بدأ بالأهم بالأدلته تاركا الحكم إلى فترة لاحقة.
الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما خاطب الناس لم يأت بالحكم أولا، وإنما بين لهم الأدلة أولا وشرح لهم آيات الكتاب وأحاديث النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأوضح لهم ذلك شيئا فشيئا، حتى أقيمت عليهم الحجة، ثم بعد ذلك حكم عليهم الحكم المعروف بحسب ما يناسب الحال.
إذن فأول الأمر أن تنظر حالة المدعو هذا، تنتقل من ماكنك الذي أنت فيه إلى ما حولك، وهذا لاشك أنه من المهمات.
إذا كان من الموحدين وعرفت ذلك تلحظه في عبادته، الحظه في صلاته، الحظه في تلاوته، وهكذا تنمي معه الخير شيئا فشيئا.
من المهمات أيضا أن تلحظ أن زمن الحج قصير لا يمكن أن تشرح فيه كل مسائل التوحيد وكل مسائل العقيدة، فإذا تلقيت مع جار لك في الحج وأخذت معه، رجل من هذه الأمصار المتفرقة، فحبذا لو أخذت عنوانه وقمت بجهد شخصي معه مع شخص واحد أو مع أكثر بما قواك الله بأن تسعى في مراسلته، تأخذ العنوان وتسعى في مراسلته، ترسل له كتيبات في العقيدة في التوحيد تبدأ معه الدعوة في مراسلات.
وقد جُرب هذا في بعض الميادين بمراسلات مع أناس مفتوحين غير معروف، فجاءت الأجوبة بما يُنتِج معه أن المراسلات عظيم من ميادين الدعوة تُرك في هذا الزمن، ولم يغشه إلا الأقلون، لم؟ لأن الرسالة ليس فيها مخاطبة، ليس فيها حجاج، ليس فيها وجه أمام وجه، ليس فيها تعبيرات إلا تعبيرات القلم أمام الورق، فهذه تستطيع أن تتصرف فيها وأن تدخل فيها إلى قلب المتحدث إليه.
مثلا من ميادين الدعوة التي أخذ بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ميدان المراسلات، فله مع كثير ممن حوله طلبة العلم والعلماء ومن الناس والأمراء فيما حوله له معهم مراسلات حَبَّبَ إليهم الخير، وكان مع تلك المراسلات ملا أن كتب إلى أحد القضاة في الأحساء واسمه عبد الله بن عبد اللطيف، وكتب للشيخ ينتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض أقواله، فكتب له الشيخ رسالة لو قرأتموها لكانت نبراسا لنا في كيف يكون التحبيب بالرسائل؛ لأن الرسالة فيها لطف اللفظ وفيها عدم مواجهة الوجه للوجه وفيها وفيها مما يتيسر معه قبول الحق.
قال الشيخ رحمه الله في رسالة له: وأنا منذ رأيتك قد كتبت على أول صحيح البخاري في مسائل الإيمان إن هذا هو الحق، ما زلت أدعو لك لأن ما كتبته مخالف لما عليه أهل بلدك من العقيدة؛ يعني الأشاعرة، وما زلت أدعو لك وقد دعوت لك في صلاتي، وكنت أقول لعلّ الله جل وعلا يجعلك فاروقا لدين الله في آخر هذه الأمة، كما جعل عمر بن الخطاب فاروقا لها في أولها.
هذا الأسلوب والرسائل ولين اللفظ لاشك له أثر في النفوس عظيم، لهذا ينبغي لكل واحد منا أن يسعى في أخذ ولو عنوان واحد يتعرّف عليه ويراسل، وأن يكون الغرض من ذلك غرض ديني دعوي صحيح، وأن يبين له شيئا فشيئا ويدرجه على مدى سنة سنتين ليس هذا بالكثير في سبيل إصلاح النفوس.
أيضا من المنافع التي ينبغي أن نشهدها في الحج: أن الحج ميدان يأتي فيه المسلمون من كل مكان، ويأتي فيه علماء من أماكن كثيرة، ويأتي فيه دعاة من بلاد كثيرة، ويجتمعون، فإذا تعرف العلماء على العلماء والدعاة على الدعاة، كان في هذا سبيلا لاجتماع الأمة على كلمة سواء وعلى نصرة للدين وللعقيدة وللمنهج الصحيح، لم؟ لأن تلاقح الأفكار يكون بالالتقاء، وقد يكون الداعية في بلد له ظروفه لا يسمع في عمله الرأي الآخر؛ لكن لو سمع الرأي الآخر لكان عنده تصحيح لمنهجه وتصحيح لطريقته.
مثلا بعض الدعاة قد لا يهتم أصلا بمسائل البراءة من المشركين، أو لا يهتم أصلا بدعوة الناس إلى التوحيد، تراه مثلا يرى قبة على قبر فلا يتغير قلبه؛ ولكن إذا رأى صورة في مجلة عارية تغيّر قلبه وقام وقعد، مع أن هذه معصية وكبيرة من الكبائر ولكن تلك وسيلة إلى الشرك أعظم وأعظم، وهذا من الخلل الذي في النفوس أن يكون في القلب عدم غيرة على حرمات الله العظمى، عدم غيرة على التوحيد، عدم غيرة على السنة، وأن لا يتحرك القلب إذا رئيت عبادة غير الله، أو إذا رئي الشرك أو رئيت البدع؛ لكن يتغير إذا رأى فسادا في الأخلاق أو فسادا في الاقتصاد أو نحو ذلك.
هذا خلل في المنهج؛ لأنه رُبِّي على أن يغار على الأخلاق، وأن لا يغار على التوحيد.
وهذا لاشك أنه إذا قامت الأمّة على ذلك فإنه خلل في التربية عظيم، فكيف تفقه الأمة أن يكون تصحيح الوضع بتصحيح القاعدة، متى تفقه ذلك؟ وأن يكون تصحيح القاعدة بتصحيح قلوبها بتصحيح قلب الناس ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ(88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[الشعراء:88-89]، والقلب السليم هو القلب المخلص لله جل وعلا، والإخلاص يتبعه السلامة من الشبهات والسلامة من الشهوات.
متى يربى الناس على ذلك؟ لاشك أن الحج ميدان لأنْ تكون هناك تبادل في الأفكار تبادل في الآراء في أن نجعل في مستقبلنا الدعوة في منهج هو منهج السلف الصالح، وأننا في هذا الزمن بحاجة أشد ما نكون إلى الدعوة المتفق عليه إلى المجمع عليه إلى ما تتفق عليه الأطراف جميعا، وأننا إذا اجتمعنا على ذلك وسرنا بالناس على هذا زمنا طويلا، فإن انتشار الصحوة وانتشار الدعوة سيكون أكثر وأكثر، وإنما تعبت الأمة في أن كل طائفة تتعصب إلى فرع من الفروع، يعذر المرء يتركه، وتترك أصل الأصول الذي جاءت الأنبياء والمرسلون بتحقيقه والدعوة إليه.
لاشك أن هذا كل واحد منا بحاجة إلى أن يعتقده، وإلى أن يدعو إليه.
وأهل هذه البلاد كما يقول القائل عليهم الشرهة يعني عليهم التبعة الكبيرة في أن يؤصلوا هذا في الناس.
إن لم تنطلق دعوة التوحيد واجتماع الجماعات واجتماع الفئات والطوائف على كلمة واحدة أو على التقاء على مجمع عليه وهو منهج السلف لصالح والدعوة إلى التوحيد والعقيدة، نستمر على ذلك سنين طويلة، إن لم نجتمع تجتمع الصحوة ويجتمع الدعاة في البلاد على ذلك، فنظل نكرر أنفسنا.
وإذا لم يقم أهل هذه البلاد بهذه المهمة، فإنّ غيرهم لن يقوم، والحساب عليهم أشد؛ لأنهم قد رضعوا هذه العقيدة مع لبان أمهاتهم، وقد درسوها وهم لم ينبت لهم ريش، فدرسوها في الابتدائي ودرسوها في المتوسط، وسمعوها ليل نهار، وسمعوها في الدروس؟ فمتى ينطلقون بها متى يحببون للناس أن هذا الأصل هو الذي يجب أن يجتمعوا عليه الناس وأن يدعى إليه؟
نعم يحتاج الداعية في ذلك إلى أن يجعل الحج موسما لأنْ يكون التقاء الجميع على العقيدة الواحدة، على التقوى، على الصلاح الذي قال الله جل وعلا فيه ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾[الأنبياء:92] يعني الأمة في هذا يعني الدين دين واحد وليس بدين متعدد.
وهذا الدين الواحد الذي يجب أن نجتمع عليه هو ما أجمعت عليه الأمة، أما ما صار فيه اختلاف فهذا يؤجل تؤجل مناقشته ويؤجل البحث فيه إلى مرحلة أخرى من مراحل الدعوة إلى دين الله.
أما أن نكرر أنفسنا وأن يكون كما صار في حج مضى ومضى ومضى، أن يُسمع في محاورات وأن يسمع في ندوات الكلام على أمور فرعية وتؤصل وتنمى، هذا لاشك أنه ليس مطلوبا إلا لمن تحقق فيه الأصل، فينتقل بعد تحقيق الأصل فيه إلى الأهم الثاني ثم الأهم الثالث وهكذا.
أما أن يأتي بالنسبة لعموم المسلمين وأن تترك أصول الديانة وأصول العقيدة وأن يترك الدعاة غرس الملة وغرس العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص في النفوس، هذا لاشك أنه تضييع لأهم المهمات التي رشد إليها؛ بل أمرها بها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ معاذا حين قال «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله جل جلاله» كما هي رواية في البخاري في كتاب التوحيد .
فإن هذا قاعدة عظيمة من القواعد.
إذا انطلقت وأنت في الحج تشهد الناس المنافع في أمور شتى.
أصحاب الحملات أيضا عليهم مسؤولية في أن يشهدوا من معهم منافع، وهذه المنافع هي المنافع الدينية، في أن يجعلوا حجهم -حج الناس- وفق السنة وأن يكون هذا الحج ييسر لهم، وأن لا يشغلوا الناس بأمور لا طائل تحتها، وأن لا يتعبوا الناس في عدم تحقيق شروط العقود التي تعاقدوا معهم عليها؛ لأن الحاج رغب في حملة كذا وكذا حتى يتيسر له حجه، فصاحب الحملة ليحتسب وليجعل عمله مخلصا فيه لله جل وعلا مع ما قد يناله من الربح والتجارة؛ لكن ييسر للناس الحج حتى يتفرغوا لشهود المنافع التي جعلها الله جل وعلا من مقاصد مشروعية الحج العظيمة.
فالحج عبادة عظيمة، والحج به يحصل للعباد أيضا منافع في دينهم بأنواعه وفروعه وكذلك في دنياهم.
فإذن الحملات تحتاج إلى ترتيب، تحتاج إلى أن يكون هناك فيها إشهاد لمن معهم المنافع بقدر الإمكان في التوجيه والتربية والدعوة على وفق المنهج الصحيح طريقة السلف الصالح وألا يسلكوا البدع والمحدثات والآراء المختلفة؛ لأن هذه تشتت الناس.
فالناس اليوم مع هذا المد الذي ترونه من صرف الناس عن الدين أصلا بالهجوم من جهات كثيرة من جهات خارجية من الشرق أو من الغرب كما ترون.
نحن بحاجة الآن إلى أن نحبب الدين للناس حتى لا يبعدوا عنه، هذا الذي نحن بحاجة إليه فلنسعى إلى أن تكون هذه الحملات ميدانا للدعوة الصحيحة حتى يستقيم الناس بعد الحج على طاعة الله جل وعلا ويكونوا من أصحاب الاستقامة وممن رضي الله عنهم.
مسائل العبادات كثيرة والتوجيه فيها بإشهاد المنافع كثير، والعبادات تحتاج إلى فقه في الإرشاد، والذي يحصل في الحج أن يتكلم من يتكلم في إفتاء وهو ليس مؤهل للإفتاء، إما مفتي في حملة، أو مفتي مع مجموعة مع زملائه أو نحو ذلك، وهذا لاشك أنه مما يرغب عنه الصالحون، فالتعجل في الفتوى أو أنه إذا قرأ شيئا أو تعمله بأنه يحق له عند نفسه أن يفتي، هذا ليس بصحيح وليس بمطرد؛ بل لابد أن يتعلم ما عليه الفتوى في هذه البلاد، ما يفتي به أهل العلم وما كان عنده فيما قرأ يشكل عليه في شيء مشكل عليه الفتوى فإنه يسأل أهل العلم ويراجعهم، فليس ملزما هو بأن يفتي وليس هذا بفرض عليه، فإن الحديث «من سئل عن علم فكتمه» هذا إذا تعين عليه، فأما إذا لم يتعين عليه فهو في سعة، والحوادث عن الصحابة كثيرة رضوان الله عليهم في إحالتهم المستفتي إلى آخر وإلى ثالث وإلى رابع حتى ربما رجع المستفتي إلى من استفتاه أولا بعد سبعة أو أكثر.
وهذا هو الذي ينبغي، والذي يحصل من الإخلال مما ينبغي في الحج أن نجعل الحج ميدانا للتفاخر بالقراءات وبالعلم، هذا لا ينبغي( ) وهو من ضعف الورع؛ لأنه يقرأ قليلا ثم بعد ذلك يأتي يكون هو مفتي المخيم أو مفتي الحملة ونحو ذلك، هذا لا شك أنه مما يتورع عنه الصالحون ويتورع عنه الأتقياء.
أما من لديه علم ويعلم ما عليه الفتوى ويعرف أقوال أهل العلم ويتجنب الأقوال الشاذة، فهذا فعه لإخوانه فيما عمله من المسائل بحجته أو بإحالته على من قاله من أهل العلم فهذا لاشك أنه من تيسير الفتوى على الناس.
أيضا مما ينبغي التنبه له في الحج أنْ نحفظ ألسنتنا في الحج من القيل والقال، والقيل والقال والغيبة والبهتان إذا كان موجودا قبل الحج فإنه لا يجوز أن يكون في الحج، إذا كان موجودا بظلم من الناس واكتساب للمحرم من نيل بعضهم ببعض، حتى صالح من صالح، وشخص طيب من آخر أيضا مثله، وهذا يغتاب هذا وهذا ينم على هذا إلى آخر ذلك.
فإن الحج ميدان لأن نربي فيه ألسنتنا وأعمالنا على أن لا نقول ولا نتصرف إلا على وفق الشرع، هناك أهواء متعددة وهناك آراء مختلفة؛ ولكن لا يجوز أن جعل هذه الأهواء مسيطرة علينا وحكم على الشرع، الله جل جلاله قال ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾[النساء:114]، فقط، هذا هو الذي فيه الخير: صدقة أو معروف وهو ما عرف حسنه في الشرع أو إصلاح بين الناس، وأما ما عدا ذلك فهو عليه وقد تدخل في أن تكون من أهل الفسوق؛ لأن الفاسق اسم فاعل الفسق وهو ضد الصلاح، والصالح من عباد الله هو القائم بحقوقه وحقوق عباده، فالذي يفرط في حقوق العباد يفرط في أعراضهم يفرط في أموالهم إلى آخره، فليس من أهل الصلاح، وبالتالي كان من أهل الفسق، فيرجع من حجه وليس من أهل تلك الفضيلة العظيمة.
لهذا لابد من ضبط اللسان في أن لا تتكلم في أحد إلا بما أُذن به في الشرع، تتكلم في مدح في الثناء عليه حتى ترغب الناس على الخير هذا طيب، أما الغيبة أما البهت أما القيل والقال، حتى ولو جعل ذلك في لباس الديانة، فإن هذا ينبغي التخلص منه في الحج إلا ما كان منه مما أذن فيه شرعا فإن هذا مطلوب في كل وقت، قال جل وعلا ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾[الإسراء:53].
ولاحظ قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمن قال له: يا رسول الله أوصني. قال «لا تغضب» قال: أوصني، قال «لا تغضب»، والغضب يكون ابتداء، ويكون أكثر عند الحوار وعند النقاش وإذا غضب المحاوِر أو المحاوَر أو غضب الاثنان اللذان يناقشان المسألة، فإن الغضب يجعل المتخاصمين يسيران إلى غير الصواب، والقاضي لا يقضي وهو غضبان.
كذلك من يجادل فيغضب فلا بد أن يحيد قليلا أو كثيرا، فلهذا إذا تناقشت مع أحد فاضبط نفسك مع هذه القضية العظيمة «لا تغضب».
وفي الحج قد يأتي من يطعن فيك أو يطعن في العلماء أو يطعن من يطعن أهل البدع والضلال ولكن عليك بان تضبط نفسك بأن لا تغضب، فما نجح غاضب في الحوار قط.
ولهذا أوصي بأن تعوِّد نفسك على عدم الغضب، وإذا أردت أن تناقش أو تحاور أخا في الحج فإن الغضب قد يؤدي إلى هُجِر من القول، ثم قد يؤدي إلى قول سيئ، ثم يؤدي إلى كبيرة، وهكذا فلا بد من الانتباه للسان في ذلك.
إذن الحج لاشك أنه عبادة عظيمة ولابد فيها من إخلاص القصد والنية لله جل جلاله، ويسعى المرء بعد ذلك في أن يُشهد نفسه وإخوانه المسلمين المنافع فيما ذكرنا من أمور الدين، وفيما يترتب عليه المغفرة للحاج ورجوعه مغفورا له ذنبه.
هذه كلمات ربما عند كثيرين منكم تفصيلات للواقع العملي كيف ننتقل وننتشر بالدعوة في الحج؛ ولكن هي توجيه لابد أن نسعى إلى إنفاذه؛ لأجل أن نحظى بالأجر العظيم وأن نكون ممن دعا إلى الله جل جلاله، ولا تنسَ أبدا قول الله جل جلاله ﴿مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إٍنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾[فصلت:33].
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعا ممن غفرت له الذنوب والآثام، وعظِّمت له الحسنات.
اللهم فاجعلنا من الأبرار.
اللهم من حج منا هذا العام فأرجعه من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
اللهم لا تؤاخذا إن سينا أو أخطأنا، واجعلنا اللهم من عبادك المتقين ومن الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم اختم لنا بالصالحات واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
المقدِّم: أسأل الله تعالى أن يثيب فضيلة الشيخ على هذا الموضوع الطيب وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة، إنه هو ولي ذلك والقادر عليه .
الأسئلة كثيرة لعل الشيخ إن شاء الله تعالى يجيب عليها بعد الأذان.
بعض الأسئلة أجاب عليها فضيلة الشيخ أثناء المحاضرة، ألا وهي أن بعض يقول إن هناك مجموعة من الشباب يجلسون بعد نهاية نسك من الأنساك يتحدثون عن العلماء ويغتابون بعض الناس، يقولون فلان أخطأ، فلان فيه كذا، فلان فيه كذا، أجاب الشيخ جزاه الله خيرا عن هذه المسألة.
والواجب على المسلم الداعية أن يتقي الله تبارك وتعالى:
فلا تذكر لي عورة مؤمن فكلك عوات والناس ألسنة
وأذكر أني حضرت مناقشة الدكتوراه للشيخ صالح الفوازن جزاه الله خيرا وكان المناقش عبد الله [...] رحمه الله تعالى فقال فضيلته: عندما تحدث المناقشون عن بعض الخطاء في الرسالة، قال فضيلته جزاه الله خيرا: أنه ليس هناك عالم تكلم إلا وأخطأ، قال أن صاحب المغني ذكر مسألة وذكر فيها حديثا وقال أما الحديث فقد ضعفه علماؤنا والحديث في صحيح البخاري....
هذا هو العدل والإنصاف، أما أن يحج المرء ويتكلم في أعراض الناس ويقع في العلماء فهذا أمر لا يجوز.
الشيخ: وأما ما يدل على ما ذكره الأخ أنّ الكلام في أهل العلم ما تجرأ عليه أحد إلا وخُذل، ولهذا قال الحافظ ابن عساكر في أول كتابه تبيين كذب المفتري: لحوم العلماء مسمومة وعادة الله -يعني وسنة الله- لهتك أستار منتقصيهم معلومة.
لم كان ذلك؟ لأن النيل من العالم ليس نيلا من شخصه، وإنما هو نيل لما حمله من العلم وإلا فلو لم يكن عالما وتخلى من العلم؛ يعني لو تصورت أنه أزيل عنه العلم وبقي فلانا بن فلان المعروف أو العالم المشهور بدون علم، لأصبح هذا لا يقع فيه؛ لكن لما حمله من العلم الذي يخالف ما عنده فإنه يقع فيه، وهذا لاشك أنه من الباطل.
وهذا مما نهى عنه السلف أشد النهي وتكلموا في ذلك أشد الكلام.
واستثنوا من هذا حالة، وهي فيما إذا كان التحذير من العالم تحذير من خطأ وقع فيه حكم عليه العلماء بأنه أخطأ فيه، مثل ما قال صالح بن كيسان ورويت أيضا عن الإمام أحمد فيما أذكر قيل له: إنك تتكلم في أناس من العلماء قد ماتوا، أفلا تخشى من ذلك؟ قال: ويحك ألا ترى أنفع لهم من أمهاته وآبائهم، ألا ترى كيف أحجز الناس عن أن يتبعوهم فيما أخطؤوا فيه فتعظم أوزار المتبع.
فهو يرى أن هذا الذي أخطأ فاتبعه الناس على خطئه أن من محبته أنه يبين أنه أخطأ حتى لا يتبعه الناس على خطئه فتعظم أوزاره؛ لأنه قد ثبت في الصحيح أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها أو وزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
فإذن الكلام في العلماء هذا حرام، ولا يجوز.
وإذا احتاج العالم، العالم وليس العامي والشاب، إذا احتاج العالم أن يبين خطأ عالم آخر، فعند العالم ضوابطه فيخطئه فيما أخطأ فيه نصحا للأمة لكن لا تراه يطعنه في سلوكياته التي لا علاقة لها بالمسألة التي أخطأ فيها.
مثلا تجد أن بعضهم أخطأ في مسألة علمية، أو في مسائل علمية، فتجد أن الذي يتكلم ويريد أن يحذر من خطئه، يتعرض إلى مسائل سلوكية يقول كان في صغره يفعل كذا وكان يلبس كذا وكان يحضر كذا، وهذا لاشك أنه مما لا يؤذن به شرعا كيف تنتقل من شيء لا نفع للناس فيه في أن تبين لهم عورته، أنت اطلعت أنه فعل في صغره عمل معصية كذا، وأخذت له صورة كذا، أو أنه في بيته كان له كذا أو إلى آخره. فتنشر هذا. ليس له علاقة في خطئه الذي أخطأ فيه في التوحيد أو في العقيدة أو في الفقه أو إلى آخره.
فإذن إذا تجاوز الناصح حد النصيحة المأذون بها شرعا في تبيين ما غلط به العالم، فإنه ينتقل من كونه ناصحا إلى كونه متعديا على حق أخيه المسلم، فيما إذا قال شيئا لا يُحتاج إليه في نصيحته، مثل الكلام على سلوكياته الكلام على أشياء لا علاقة لها بالآراء وما أشبه ذلك.
لهذا ترى أن الأئمة رحمهم الله تعالى، فيمن ردوا عليهم من معاصريهم لم يفضحوهم في شيء من أعمالهم، وإنما امتثلوا قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أو قال «أمسكوا عن موتاكم» أو كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ والحديث في البخاري «واذكروا محاسن موتاكم ولا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» هذا في الصحيح .
فإذن هناك مسبة لا يؤذن بها وهي التي لا يتعلق بها نصيحة للأمة فيما تكلم به العالم.
فإذن هذه المسألة التي نبه عليها الشيخ لها ضابطان:
الضابط الأول: ألا تتكلم إلا فيما فيه نصيحة للأمة فيما تعلق به الخطأ الذي يخشى أن يتعدى للأمة هذا واحد.
والثاني: أن يتكلم العالم وأن لا يتكلم صغار طلبة العلم أو المنتسبين أو العوام يتكلموا في أخطاء الناس، وهذا يقول كذا وهذا يقول كذا؛ لأن هذا يربي في الناس نقد العلماء جميعا، هذا أخطأ في كذا وهذا أخطأ في كذا، وبالتالي لا يكون للدين ولا للعلم حرمة في القلوب بعد زمن.
فبهذا إذا أخذ بهذه الضوابط ألا ينتقد إلا عالم وأنه إذا انتقد وبين الخطأ لما فيه حاجة شرعية ماسة حفاظا على الأمة ونصيحة للأمة فإن هذا لابد منه، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز لأحد أن يشغل نفسه بذكر أهل العلم إلا بالخير؛ لأن من ذكرهم بغير الجميل فهو على غير السبيل كما قال الطحاوي في عقيدته.

12d8c7a34f47c2e9d3==