المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وجوب الحج وتوابعه


كيف حالك ؟

البلوشي
11-27-2006, 06:08 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
وجوب الحج وتوابعه /الشيخ العلامة الإمام عبدالرحمن السعدي قدس الله رحمه

قال الله تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران : 97] .
وقال : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة : 196] إلى آخر الآيات المتعلقة بالحج .
لما قال الله تعالى : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران : 96 و 97] .
وكان في ذلك تنبيه على الحكم والأسرار والمصالح والبركات المتنوعة المحتوي هذا البيت العظيم عليها ، وكان ذلك داعيا إلى تعظيمه بغاية ما يمكن من التعظيم ، أوجب الله على العباد حجه وقصده لأداء المناسك التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلمها أمته ، وأمرهم أن يأخذوا عنه مناسكهم .
فأوجبه على من استطاع إليه سبيلا بأن قدر على الوصول إليه بأي مركوب متيسر ، وبزاد يتزوده ويتم به السبيل ، وهذا هو الشرط الأعظم لوجوب الحج ، وهذه الآية صريحة في فرضية الحج ، وأنه لا يتم للعبد إسلام ولا إيمان وهو مستطيع إلا بحجه ، وأن الله إنما أمر به العباد رحمة منه بهم ، وإيصالا لهم إلى أجل مصالحهم وأعلى مطالبهم ، وإلا فالله غني عن العالمين وطاعتهم ، فمن كفر فلم يلتزم لشرع الله فهو كافر ، ولن يضر إلا نفسه .
وأما آية البقرة فإن الله أمر فيها بإتمام الحج والعمرة بأركانهما وشروطهما وجميع متمماتهما ; ولا فرق في ذلك بين الفرض والنفل ، وبهذا تميز الحج والعمرة عن غيرهما من العبادات ; وإن من شرع فيهما وجب عليه إتمامهما لله مخلصا ، ويدخل في الأمر بإتمامهما أنه ينبغي للعبد أن يجتهد غاية الاجتهاد في فعل كل قول وفعل ووصف وحالة بها تمام الحج والعمرة ، وذلك شيء كثير مفصل في كتب أهل العلم ، وأن من دخل فيهما فلا يخرج منهما إلا بإتمامهما والتحلل منهما إلا بما استثناه الله وهو الحصر .
ولهذا قال : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة : 196] أي : منعتم من الوصول إلى البيت ، ومن تتميم المناسك بمرض أو عدو أو ذهاب نفقة أو ضللتم الطريق أو غير ذلك من أنواع الحصر الداخلة في عموم قوله : أُحْصِرْتُمْ ، فاذبحوا ما تيسر من الهدي وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبحها المحصر ويحلق رأسه ويحل من إحرامه بسبب الحصر ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما صدهم المشركون عن البيت وهم محرمون عام الحديبية ، فإن لم يتيسر الهدي على المحصر فهل يكفيه الحلق وحده ويحل ، كما فعله الصحابة الذين لم يكن معهم هدي - وهو الصحيح - أو ينوب عن الهدي صيام عشرة أيام قياسا على هدي التمتع كما قاله آخرون ثم يحل ؟
ثم قال تعالى : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، وفي هذا أن المحرم يحرم عليه إزالة شيء من شعر بدنه تعظيما لهذا النسك ، وقاس عليه أهل العلم إزالة الأظفار بجامع الترفه ، ويستمر المنع من ذلك حتى يبلغ الهدي محله ، وهو وقت ذبحه يوم النحر ، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر ، ويجوز أن يقدم الحلق على النحر كما رخص في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عمن قدم الحلق أو الرمي أو الذبح أو الطواف بعضها على بعض ، فقال : افعل ولا حرج .
ويستدل بالآية الكريمة على أن المتمتع كالقارن والمفرد لا يحل من عمرته إذا كان سائقا للهدي حتى يبلغ الهدي محله ، فقيل : إنه إذا حل من عمرته بأن فرغ من الطواف والسعي بادر بالدخول بالحج بالنية ، وقيل : إنه بسوقه للهدي صار قارنا ، وأن الهدي الذي استصحبه - حيث إنه كان للنسكين كليهما - مزج بين النسكين وصار صاحبه قارنا ، وهذا هو القول الصواب ، وإنما منع تعالى من الحل لمن ساق الهدي قبل محله لما في سوق الهدي ، وما يتبعه من كشف الرأس ، وترك أخذ الشعور ونحوها من الذل والخضوع لله والانكسار له ، والتواضع الذي هو روح النسك وعين صلاح العبد وكماله ، وليس عليه في ذلك ضرر ; فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من رأسه من مرض ينتفع بحلق رأسه أو قروح أو قمل أو نحو ذلك ، فإنه يحل له أن يحلق رأسه ، ولكن يكون عليه فدية تخيير ، يخير بين صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين ، أو ذبح شاة ، وهذه تسمى فدية الأذى ، وألحق بذلك إذا قلم أظفاره ، أو لبس الذكر المخيط ، أو غطى رأسه ، أو تطيب المحرم من ذكر وأنثى ، فكل هذا فديته فدية تخيير بين الصيام أو الإطعام أو النسك .
وأما فدية قتل الصيد فقد ذكر الله التخيير فيها بين ذبح المثل من النعم ، أو تقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره ، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما ; فهذه الأنواع فديتها تخيير .
وأما المتمتع والقارن فإن هديهما هدي نسك ، غير هدي جبران ، وهو على الترتيب ، إن تيسر الهدي وجب الهدي ، فإن لم يتيسر فعليه صيام عشرة أيام ، ثلاثة في الحج - ولا يؤخرها عن أيام التشريق - ، وسبعة إذا رجع - أي : فرغ من جميع شؤون النسك - ، ودل إطلاق إيجاب الصيام على أنه يجوز فيها التتابع والتفريق .
( ذَلِكَ ) أي : وجوب الهدي على المتمتع والقارن ; أو بدله لمن لم يجد من الصيام ، لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : وهم الأفقية ؛ لأن من الحكمة في إيجاب الهدي على الأفقي أنه لما حصل نسكين في سفرة واحدة كان هذا من أعظم نعم الله ، فكان عليه أن يشكر الله على هذه النعمة الجليلة ، ومن جملة الشكر إيجاب الهدي عليه .
وأما المقيمون في مكة أو كانوا في قربها - بحيث لا يقال لهم مسافرون - فليس عليهم هدي ولا بدله لما ذكرنا من الحكمة وَاتَّقُوا اللَّهَ : في جميع أموركم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ومن ذلك امتثالكم لهذه المأمورات في هذه العبادة الجليلة ، واجتنابكم لمحظوراتها ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أي : لمن عصاه ، وذلك موجب للتقوى ، فإن من خاف عقاب الله انكف عن السيئات ، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب ، وأما من لم يخف الله فإنه لا بد أن يتجرأ على المحارم ، ويتهاون بالفرائض .
ثم أخبر تعالى أن الحج واقع في أشهر معلومات عند المخاطبين ، بحيث لا تحتاج إلى تعيين كما احتاج الصيام لتعيين شهره ، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس ، وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته ، معروفة بينهم ، والمراد بالأشهر المعلومات عند الجمهور : شوال وذو القعدة ، وعشر أو ثلاثة عشر من ذي الحجة ، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا ، وهي التي تقع فيها أفعال الحج : أركانه وواجباته ومكملاته ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي : عقده وأحرم به ؛ لأن الشروع فيه يصيره فرضا ولو كان قبل ذلك نفلا .
واستدل بهذه الآية الشافعي ، ومن قال بقوله : إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ، ولو قيل : إن الآية فيها دلالة لقول الجمهور بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا ، لأن قوله : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ دليل على أنه يقع الفرض فيهن وفي غيرهن ، وإلا لما كان في القيد فائدة فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ أي : يجب عليكم أن تعظموا حرمة الإحرام بالحج ، وخصوصا الواقع في أشهره ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقضه من الرفث ، وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، خصوصا التكلم في أمور النكاح بحضرة النساء ، وَلَا فُسُوقَ : وهو جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام ، وَلَا جِدَالَ والجدال هو المماراة والمنازعة والمخاصمة ؛ لكونها تثير الشر وتوقع العداوة ، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله ، والتقرب إليه بما أمكن من القربات ، والتنزه عن مقارفة السيئات ، فإنه يكون بذلك مبرورا ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء - وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان - فإنه يتأكد المنع منها في الحج .
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ، فلهذا أتبعه بقوله : وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ أتى ( بِمَنْ ) المفيدة لتنصيص العموم ؛ فكل عبادة وقربة فإنها تدخل في هذا ، والإخبار بعلمه يتضمن الحث على أفعال الخير خصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة فإنه ينبغي اغتنام الخيرات والمنافسة فيها من صلاة وصيام وصدقة وقراءة وطواف وإحسان قولي وفعلي ، وَتَزَوَّدُوا : لهذا السفر المبارك ؛ فإن التزود فيه الاستغناء عن الخلق وعدم التشوف لما عندهم ، وإعانة المسافرين ، والتوسعة على الرفقة ، والانبساط والسرور في هذا السفر ، وزيادة التقرب إلى الله تعالى ، وهذا الزاد المراد به إقامة البنية بلغة ومتاع ، وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ، وهو الموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائما أبدا ; ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر وممنوع من الوصول إلى دار المتقين .
وقد يتمكن الموفق من جعل الزاد الحسي يجمع الزادين : بأن يقصد به وجه الله ، والقيام بواجب النفس والرفقة ومن يتصل به ، والقيام بالإحسان المستحب ، وقصد امتثال أمر الله ، فالنية هي الأساس لكل خير ، التي تجعل الناقص كاملا والعادة عبادة ، ثم قال : وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبَابِ أي : يا أهل العقول الرزينة اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ، وتركها دليل على فساد العقل والرأي .
ولما أمر بتقواه أخبر أن ابتغاء فضله بالاشتغال بالتكسب في التجارة في مواسم الحج وغيرها ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج ، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله معترفا فيه بنعمة الله ، لا منسوبا إلى حذق العبد والوقوف مع السبب ونسيان المسبب ، فإن هذا هو الحرج بعينه في كل وقت ، فكيف إذا قارن النسك الفاضل .
وفي قوله : فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ دلالة على أمور :
* أحدها : أن الوقوف بعرفة من المشاعر الجليلة ، ومن أركان الحج ، فإن الإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف الذي هو ركن الحج الأعظم بعد الطواف .
* الثاني : الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام ، وهو المزدلفة ، وذلك أيضا معروف ، يكون الحاج ليلة النحر بائنا بها ، وبعد صلاة الفجر يقف في المزدلفة داعيا حتى يسفر جدا ، ويدخل في ذكر الله عند المشعر الحرام ما يقع في المشعر من الصلوات فرضها ونفلها .
* الثالث : أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة ، كما تدل عليه ( الفاء ) المفيدة للترتيب .
* الرابع والخامس : أن عرفات ومزدلفة كليهما من مشاعر الحج المقصود فعلها وإظهارها .
* السادس : أن مزدلفة في الحرم ، كما قيده بالمشعر الحرام .
* السابع : أن عرفة بالحل كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة .
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ أي : اذكروا الله كما من عليكم بالهداية بعد الضلالة ، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها ومقابلتها بالإكثار من ذكر المنعم بالقلب واللسان ، ثُمَّ أَفِيضُوا أي : من مزدلفة مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ : من لدن إبراهيم إلى هذا الوقت ، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم ، وهو رمي الجمار ، وذبح الهدايا ، والطواف ، والسعي ، والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق ، وتكميل بقية المناسك .
ولما كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكر ، والمذكورات آخر المناسك ، أمر تعالى بعد الفراغ منها باستغفاره ؛ خشية الخلل الواقع من العبد في أداء العبادة وتقصيره فيها ، وبالإكثار من ذكره ؛ شكرا له على نعمة التوفيق لهذه العبادة العظيمة وتكميلها ، وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر الله عن التقصير ، ويشكره على التوفيق ، فهذا حقيق بأن الله يجبر له ما نقص منها ويتقبلها ، ويزيده نعما أخرى ، لأن من جهل حق ربه فرأى نفسه أنه قد كمل حقوق العبادة فأعجب بنفسه ، ومن بعبادته على ربه ، وتراءى له أنه قد جعلت له محلا ومنزلة رفيعة ، فهذا حقيق بالمقت ، ويخشى عليه من رد العمل .
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ، وأن الجميع يسألونه مطالبهم ، ويستدفعونه ما يضرهم ; ولكن هممهم ومقاصدهم متباينة ، فمنهم من يقول : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا أي : يسأل ربه من مطالب دنياه وشهواته فقط ، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ لا رغبة له فيها ، ولا حظ له منها ، ومنهم عالي الهمة من يدعو الله لمصلحة الدارين ، ويفتقر إلى ربه في مهمات دينه ودنياه ، وكل من هؤلاء وهؤلاء له نصيب من كسبهم وعملهم ، وسيجازيهم الله على حسب أعمالهم ونياتهم ، جزاء دائرا بين الفضل والإحسان والكرم للمقبولين ، وبين العدل والحكمة لغيرهم ، وفي هذه الآية دليل على أن الله تعالى يقبل دعوة كل داع ، مسلما كان أو كافرا ، برا أو فاجرا ، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليلا على محبته وقربه منه إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين ، فمن أجيبت دعوته في هذه الأمور الدائم نفعها كان من البشرى ، وكان أكبر دليل على بره وقربه من ربه .
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ، وما به تكمل حياته ، من رزق هنيء واسع حلال ، وزوجة صالحة ، وولد تقر به العين ، ومن راحة وعلم نافع وعمل صالح ، وما يتبع ذلك من المطالب النافعة المحبوبة والمباحة .
وأما حسنة الآخرة فهي السلامة من العقوبات التي يستقبلها العباد من عذاب القبر والموقف وعذاب النار ، وحصول رضا الله ، والفوز بالنعيم المقيم ، والقرب من الرب الرحيم ، فهذا الدعاء أجمع الأدعية وأكملها وأولاها بالإيثار ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ، ويحث عليه .
ولما أكمل الله تعالى أحكام النسك أمر بالإكثار من ذكره في الأيام المعدودات ، وهي أيام التشريق في قول جمهور المفسرين ، وذلك لمزيتها وشرفها وكون بقية المناسك تفعل بها ، ولكون الناس فيها أضيافا لله ، ولهذا حرم صيامها ، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله ، ويدخل في ذكر الله رمي الجمار ، والتكبير عند رميها ، والدعاء بين الجمرتين ، والذبح والتسمية فيه ، والصلوات التي تفعل فيها من فرائض ونوافل ، والذكر المقيد بعد الفرائض فيها ، وعند كثير من أهل العلم أنه يستحب فيها التكبير المطلق كالعشر ، فجميع ما يقرب إلى الله داخل بذكره : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي : خرج من منى ، ونفر منها قبل غروب الشمس فلا إثم عليه ، ومن تأخر بأن بات بها ليلة الثالث من أيام التشريق ؛ ليرمي من غده فلا إثم عليه ، وهذا تخفيف من الله على عباده حين أباح الأمرين ، مع أن التأخر أرجح لموافقته فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة العبادات ، وقوله : لِمَنِ اتَّقَى هذا من الاحتراز العالي ، لأن نفي الحرج يوهم العموم ، فقيل ذلك بهذا الشرط الذي هو شرط لنفي الحرج في كل شيء ، وَاتَّقُوا اللَّهَ : بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فمجازيكم بأعمالكم ، فمن اتقاه وجد عنده جزاء المتقين ، ومن لم يتقه عاقبه عقوبة تارك التقوى ، فإن التقوى هي ميزان الثواب والعقاب في القائم بها والمضيع لها ، فالعلم بالجزاء والإيمان به هو أعظم الدواعي للقيام بالتقوى .
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ الآية - وما تلاها - [الحج : 26 - 29] .
يذكر الله تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته ، وعظمة بانيه ، وهو خليل الرحمن فقال : وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أي : هيأناه له وأنزلناه إياه ، بحيث جعل قسما من ذريته هم سكانه ، وأمره الله ببنيانه ، فبناه وأسسه على تقوى الله ورضوانه هو وابنه إسماعيل بنية صادقة وخضوع لله وإخلاص ودعاء منهما أن يتقبل منهما هذا العمل الجليل ، فتقبله الله .
فهذه آثار القبول لهذا البيت في كل وقت وجيل متواصلة ، ووصاه بأن لا يشرك به شيئا ، بأن ينفي الشرك عنه ، وعن ذريته ، وعمن وصلت إليه دعوته ، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ أي : من الشرك والمعاصي ، ومن الأنجاس والأدناس ، وأضافه إلى نفسه ليكتسب شرفا إلى شرفه ، ولتعظم محبته في القلوب ، لكونه بيت محبوبها الأعظم ، وتنصب وتهوي إليه الأفئدة من كل جانب ، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه للطائفين به ; والقائمين عنده للعبادات المتنوعة ، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي : المصلين ، أي : طهره لهؤلاء الفضلاء الذين ليس لهم هم إلا طاعة مولاهم وما يقربهم إليه ، فهؤلاء لهم الحق ، ومن إكرامهم تطهير هذا البيت لهم ، وتهيئته لما يريدونه عنده ، ويدخل في تطهيره تطهيره من الأصوات اللاغية المرتفعة التي تشوش على المتعبدين بالصلاة والطواف والقراءة وغيرها ، وقدم الطواف لاختصاصه بهذا البيت ، ثم الاعتكاف لاختصاصه بجنس المساجد ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي : أعلمهم به وادعهم إليه ، وبلغ دانيهم وقاصيهم فرضه وفضيلته ، فإنك إذا دعوتهم عن أمر الله أتوك حجاجا وعمارا رِجَالًا أي : مشاة على أرجلهم من الشوق ، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ أي : ناقة ضامر تقطع المهامه والمفاوز ، وتواصل السير حتى تأتي إلى أشرف الأماكن مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي : مكان وبلد بعيد ، وقد فعل الخليل صلى الله عليه وسلم ذلك ، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت ، وأبديا وأعادا فيه فحصل ما وعد الله به ، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها .
ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام مرغبا فيه فقال : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ أي : لينالوا بوصولهم لبيت الله في الأنساك منافع متنوعة دينية ، ومنافع دنيوية كالتكسب وحصول الأرباح ، وهذا أمر مشاهد يعرفه كل أحد ، فجميع العلوم والعبادات الدينية التي تفعل في تلك البقاع الفاضلة ، وما جعل الله لها من التضعيف داخل في هذه المنافع ، وجميع المنافع الدنيوية التي لا تعد ولا تحصى داخلة في ذلك ; فصدق الله وعده ، وأنجز ما قاله ، وكان ذلك آية وبرهانا على توحيده وصدق رسله .
وقوله : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، وهذه تجمع الأمرين : الدينية والدنيوية ; أي : ليذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا ؛ شكرا لله على ما رزقهم منها ويسرها لهم ، فإذا ذبحتموها فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ أي : شديد الفقر .
والآية الأخرى : وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج : 36] . الْقَانِعَ وهو الفقير الذي لا يسأل الناس ، وَالْمُعْتَرَّ الفقير السائل ، وفي هذا الأمر بالأكل والإهداء والصدقة ، فإن الأمر يشمل أكل أهلها منها وإهداءهم للأغنياء ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي : يستكملوا بقية أنساكهم ، ويزيلوا عنهم محظورات الإحرام ، وما ترتب عليها من الشعث ونحوه وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ التي أوجبوها على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا ، فنفس عقد العبد للإحرام إيجاب منه على نفسه ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي : القديم أقدم المساجد على الإطلاق ، المعتق من تسلط الجبابرة عليه ، وتخصيص الطواف به دون غيره من المناسك لفضله وشرفه ، ولكونه المقصود وما قبله وما بعده وسائل وتوابع ، ولأنه يتعبد به لله مع الأنساك ووحده ، وأما بقية الأنساك فلا تكون عبادة إلا إذا كانت تابعة لنسك .
منقول من كتاب تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام

البلوشي
12-10-2007, 03:58 PM
الررررررررررفع

قاسم علي
11-24-2008, 05:01 PM
رحم الله العلامة السعدي

12d8c7a34f47c2e9d3==