المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موقف أهل السنة من مجالسة أهل البدع


كيف حالك ؟

المشكدانة
12-14-2003, 03:26 PM
موقف أهل السنة من مجالسة أهل البدع
موضوع يستحق القراءة لأحد الأخوة من منتدى أعماق أعجبني كثيرا فأحببت إتحافكم به ،،، وفق الله الجميع


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

لما كانت النفس البشرية مجبولة في أصل خلقها على الضعف، كما قال تعالى: ((وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)) [النساء:28] أرشد الله عباده إلى ما يعينهم على حفظ دينهم، من صحبة الأخيار والصالحين ومجالستهم، فقال: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [الكهف: 28]، كما حذًّرهم في مقبل ذلك من صحبة الأشرار والمارقين عن الدين، والقعود معهم فقال: ((فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68] وذلك لسابق علم الله بما فطرت عليه النفس البشرية من سرعة التأثر سلباً أو إيجاباً بالمجتمع الذي تعيش فيه.

ولذا اشتهر في كتب السنة والاعتقاد التحذير من مجالسة أهل البدع، بصورة لا تضاهيها أي صورة أخرى من صور تحذيرهم من أنواع التعامل مع أهل البدع.

وأنا أعرض في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى وبحسب ما يقتضيه المقام – موقف أهل السنة من مجالسة أهل البدع:

بذكر الأدلة الشرعية المقررة لترك مجالستهم ووجوب مباعدتهم، وبذكر الآثار عن سلف الأمة في ذلك، وأقوال أهل العلم والتحقيق من أهل السنة فيه أيضاً، ثم أتبعه بعد ذلك بذكر الضوابط الشرعية لهجر المبتدع بترك مجالسته. صلى الله عليه وسلم


الأدلة من الكتاب والسنة على ترك مجالسة أهل البدع


أولاً: من الكتاب: فقد قال الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68].

عن أبي عون قال: " كان محمد (يعني ابن سيرين) يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلت فيهم ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)) (1).

وقد ذكر الله تعالى بما حذر منه هنا من مجالسة هؤلاء في سورة النساء فقال: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)).

نقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير هذه الآية: " دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة " (2).

ثانياً: من السنة:

فقد دل على مشروعية ترك مجالسة أهل البدع، ووجوب هجرهم، عدة أحاديث، منها قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم وهو حديث طويل رواه الشيخان عن كعب ذكر فيه قصة تخلفه عن الرسول rصلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهجر النبي صلى الله عليه وسلم له ولصاحبيه وفيه:

" ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يُكَلّمُني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسَّورْتُ جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد السلام، فقلت يا أبا قتادة: أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي .. " (3).

ففي قصة كعب هذه دليل على مشروعية هجر أهل البدع والمعاصي، بترك المجالسة والكلام، وقد استدل بها غير واحد من أهل العلم على جواز هجر أهل البدع حتى يتوبوا .

(أقوال السلف وأفعالهم الدالة على هجر أهل البدع)

وأما أقوال السلف وأفعالهم الدالة على هجر أهل البدع بترك المجالسة والمخالطة لهم كثيرة جداً، ولكن أذكر أمثلة لها بحسب ما يقتضيه المقام.

أولاً: ما جاء عن الصحابة في ذلك من أقوال وأفعال:

1/ ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضربه لصبيغ العراقي وكتابته لأهل البصرة أن لا يجالسوه (4).

2/ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب " (5).

3/ ومن ذلك هجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لِمسْطَح بن أُثاثة لكلامه في حادثة الإفك، وترك النفقة عليه حتى نزلت الآية ((وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النور:22] فترك أبو بكر هجره وأعاد عليه النفقة وقال: " بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي " (6).

4/ ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن قريباً لعبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه خذف فنهاه، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، فأعاد فقال عبد الله: " أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ثم تخذف لا أكلمك أبداً " (7).

والأمثلة لذلك من سيرة الصحابة كثيرة نقل العلماء بعضها كابن قتيبة رحمه الله (8) وما ذكرته هنا أمثله فقط.

ثانياً: ما جاء عن التابعين والأئمة في ذلك من أقوال وأفعال:

فمن أقوالهم المصرحة بترك مجالسة أهل البدع والنهي عنها:

1/ ما رواه الدارمي وغيره عن أيوب قال: " رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب لا تجالسنه " (9) وفي بعض الروايات: " لا تجالسه فإنه مرجئ ".

2/ وعن أبي قلابة رحمه الله تعالى أنه كان يقول: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " (10).

3/ وعن الحسن البصري أنه قال: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم " (11).

4/ ويروى عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: " أنه دخل عليه رجلان من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل؟ قال: لا. لتقومن عني، أو لأقومنه " (12).

5/ وكتب عيسى بن يونس رحمه الله تعالى إلى بعض أصحابه يقول: " لا تجالسوا الجهمية، وبينوا للناس أمرهم كي يعرفوهم، فيحذروهم " (13) .

6/ وعن أبي ادريس الخولاني رحمه الله تعالى: " أنه رأى رجلاً يتكلم في القدر فقام إليه فوطئ بطنه، ثم قال: إن فلاناً لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه فخرج الرجل من دمشق إلى حمص " (14).

فدلت هذه الآثار المنقولة عن سلف الأمة من الصحابة، والتابعين وتابعيهم على الخير، على اتفاقهم على مهاجرة أهل البدع وترك مجالستهم، بحيث أصبحت هذه المسألة من مسلمات الاعتقاد في باب التعامل مع أهل البدع عند أهل العلم من أهل السنة.

ثالثاً: ما جاء عن علماء ما بعد عصر السلف المتقدمين في ذلك من أقوال:

1/ يقول الإمام عبد الله محمد بن أبي زمنين رحمه الله تعالى: " ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلة، وينهون عن مجالستهم، ويخوفون فتنتهم " (15).

2/ ويقول ابن عبد البر: " أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان كذلك فقد رخص له مجانبته ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية " (16).

3/ ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: " فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة أو مصلح راجحة " (17).

4/ ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى في معرض ذكره لأحكام أهل البدع: " الثاني: الهجران وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة، وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي " (18).


المفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع

وبعد إيراد الأدلة وأقوال السلف الدالة على مشروعية هجر المبتدع وترك مجالسته، أرى أن مما يكتمل به تقرير المسألة، وتطمئن به النفوس إلى تأصيلها في الشرع، ذكر بعض المفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع ومخالطتهم، والتي من أبرزها:

1/ أن في مجالستهم خطراً عظيماً على المجالس لهم، بأن يرد عليه من شبههم ما لا يستطيع دفعه، وبالتالي ينغمس في ضلالتهم، وبدعهم.

2/ أن في مجالسة أهل البدع مخالفة لأمر الله بترك مجالستهم، ومشاقة للرسول r الذي نهى عن مجالستهم، واتباعاً لغير سبيل المؤمنين الذين اتفقوا على ترك مجالسة أهل البدع والتحذير منها.

3/ أن مجالسة أهل البدع تجلب محبتهم، وترك ما أمر الله من بغضهم ومعاداتهم.

4/ أن مجالسة أهل البدع مضرة بأهل البدع أنفسهم، لأن فيها تعطيلاً للوسيلة التي شرعها الله للرجوع بالمبتدع إلى جادة السنة، وهي بمثابة العلاج له ألا وهي (وسيلة الهجر).

5/ أن مجالسة أهل البدع سبب لسوء الظن بمُجَالِسِهم – على فرض عدم تأثره بهم وموافقته لهم – وهي مسبة عند العقلاء منقصة عند الصالحين.

وعموماً فالمفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع وغيرهم من أهل الفساد، لا يحصيها إلا رب العباد، ولهذا نهى عنها عباده، وبعد ذكر ما تقدم فوجب على المسلم التسليم لما دلت عليه النصوص والنقول: من النهي عن مجالسة أهل البدع ولو لم تدرك الحكمة من ذلك فكيف والحكمة واضحة جلية لكل ذي عقل بصير وهي تلك المفاسد الكبيرة المترتبة على مجالستهم.

يتبع ***

المشكدانة
12-14-2003, 03:30 PM
الضوابط الشرعية لهجر المبتدع


وفي هذه المسألة لابد من بيان الضوابط الشرعية لهجر المبتدع، ومتى يكون مشروعاً أو غير مشروع.

وبيان ذلك أن هجر المبتدع لا يكون مشروعاً إلا لمقصدين إما لتأديب المبتدع وزجر مثله عن فعله، وإما لخشية حصول الضرر والفتنة بمجالسته.

وهذا ظاهر لمن تأمل النصوص وكلام أهل العلم فإنها إنما يرد النهي فيها عن مجالسة أهل البدع مراعاة لهذين السببين.

وبناء على ذلك يمكن القول أن هجر المبتدع إنما يكون مشروعاً إن رجي منه زجره وتأديبه، أو خشي المجالس له لحوق الضرر بمجالسته له في دينه، وإلا لم يكن مشروعاً. بل قد يكون عدم الهجر هو المشروع إن رجي من مجالسته تحقيق مصلحة راجحة.

وإذا تقرر ذلك: فهجر أهل البدع يختلف في حكمه من مبتدع لآخر تبعاً لاختلاف الأحوال والظروف المؤثرة في تحقيق المقاصد الشرعية للهجر وتوفر الأسباب الباعثة عليه من عدمها.

وهذه الأحوال إما أن تكون متعلقة بالمبتدع إيجاباً، وإما أن تكون متعلقة بالهاجر من حيث علمه أو جهله، ومن حيث قوته أو ضعفه، وإما أن تكون متعلقه بالمكان والزمان من حيث كثرة البدع وانتشارها وقوة أهلها في بعض الأماكن والأزمان دون بعضها.

أولاً: ما يتعلق بالمبتدع نفسه:

فإنه يفرق بين المبتدع المعلن وغير المعلن في الهجر، وبين المبتدع الداعية لبدعته وغير الداعية، فإن كان المبتدع غير معلن لبدعته ولا داعية إليها فإنه لا يشرع هجره تأديباً – وإن كانت قد تترك مجالسته لمن خشي التضرر بها في دينه – لأن الإنكار والتأديب إنما لمن جاهر بالبدعة أو المعصية دون من كان مستتراً.

وكذلك يراعى في الهجر مدى تأثيره سلباً أو إيجاباً على المبتدع فتراعى الأحوال النفسية للناس وظروفهم في ذلك، فإن كان الهجر لا يزيد المبتدع إلا عناداً ومكابرة فلا يشرع في حقه وإنما يشرع في حق من ينتفع به فيزجره عما هو فيه من ابتداع.

وإن مما ينبغي مراعاته في هذا الباب أيضاً مناسبة مدة الهجر لحال المهجور فإن من الناس من ينزجر بهجر الشهر والشهرين، ومنهم من يزيد ومنهم من ينقص، فيراعى في مدة الهجر القدر الذي يحصل به المقصود من الهجر، دون زيادة أو نقص، فإن النقص في المدة المناسبة لحال المهجور لا يتحقق بها الزجر والتأديب، والزيادة عليها قد يكون لها مردود عكسي، بعد أن تحقق المقصود من الهجر في المدة المناسبة لحال ذلك المهجور.

ثانياً: ما يتعلق بالهاجر:

فإنه يراعى عند النظر في هجر أهل البدع حال الهاجر لهم من حيث اتساع علمه ورسوخ قدمه في العلم، أو ضعفه وعدم تمكنه في العلم، بحيث يخشى عليه الافتتان بمجالسة أهل البدع ومخالطتهم فإن لذلك أثره في تقرير مشروعية الهجر من عدمه.

فيشرع للعالم المتبحر في العلم الجلوس مع أهل البدع إن تحققت بذلك مصلحة راجحة، كدعوتهم للسنة، وتوضيح ما يشكل عليهم فهمه، حتى وإن كانوا دعاة لبدعهم ويخاصمون فيها وذلك لأن الأصل من هجر أهل البدع هو التأديب لهم حتى يرجعوا إلى السنة أو خشية الافتتان بهم.
وهذا بخلاف جلوس غير العالم معهم فإنه لا يكون مشروعاً، بل المشروع في حقه ترك مجالستهم وهجرهم، إن كان يخشى عليه الافتتان بهم في دينه – وهذا هو الغالب – ولأن مجالسته لهم لا تتحقق بها تلك المصلحة المتحققة من مجالسة العالم لهم، وهي رجاء رجوعهم من طريق المحاجة والمناظرة، لعجز غير العالم عن ذلك، لكن يرجى رجوعهم بمجالسته عن طريق التأليف، وحينئذ يراعى رجاء تحقق هذه المصلحة مع ما يخشى عليه من مفسدة المجالسة لهم، فيقدم الأرجح من جلب المصلحة، ودرء المفسدة عن طريق الموازنة بينهما والله تعالى أعلم.

ومما ينبغي مراعاته في الهجر من أحوال الهاجرين اختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم.

فإن كان المهجور ينزجر بهجر الهاجر بسبب ما يتمتع به الهاجر من قوة إن كان فرداً أو كثرة إن كانوا جماعة، فإنه يشرع لمن هذه صفته هجر أهل البدع، لتحقق المصلحة من ذلك الهجر.

وأما إن كان الهاجر ضعيفاً بحيث لا ينزجر المهجور بهجره فلا يشرع له الهجر بقصد التأديب، لعدم تحقق هذه المصلحة من ذلك الهجر، لكن قد يشرع له الهجر إن كان يخشى على نفسه التضرر بمجالستهم.

ثالثاً: ما يتعلق بالمكان والزمان:

يفرق بين الأماكن والأزمان التي تكثر فيها البدع، وتقوى شوكة أهلها، وبين الأماكن والأزمان التي تقل فيها البدع وتضعف شوكة أهلها.

فإن كانت الغلبة في المكان والزمان لأهل السنة فيشرع الهجر لأهل البدع، لما يرجى من انزجارهم وكفهم عن بدعهم بسبب ما يحصل لهم من العزلة عن المجتمعة، وأما إن كانت الغلبة لأهل البدع فلا يشرع الهجر لهم والحالة هذه، لكون هجر أهل السنة لهم لا يمثل لهم أي عقوبة فهم بكثرتهم في غنىً عن أهل السنة ومخالطتهم بل يترجح هنا التأليف عند أمن المفسدة من مخالطتهم.

فينبغي مراعاة هذه الأحوال المتقدمة عند النظر في حكم هجر المبتدع وهي إما متعلقة بالمبتدعة، أو الهاجر، أو زمان ومكان الهجر، فإن اختلاف تلك الأحوال مؤثر على تحقيق المقاصد الشرعية لهجر المبتدع.

وبتطبيق شرع الله كما جاء عن الله تستقيم أمور الدنيا والدين، وتصلح أحوال الناس فيكثر الخير وأهله ويقل الشر وأهله، وإن ما نراه اليوم من كثرة الشر وتسلط أهله من زنادقة وملاحدة ومبتدعة وفجار إنما يرجع لتقصير الناس في تحقيق الوسائل التي شرعها الله لمعالجة تلك الانحرافات وتقليصها، من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتفرع عنه من وسائل للرجوع بهؤلاء المنحرفين إلى جادة الدين من أسلوبي الهجر والتأليف، كل بحسب حاله، وسواء هذا التقصير ناتج عن إهمال تلك الوسائل بالكلية أو الخطأ في تطبيقها.

ومما يشترط تحقيقه أيضاً في هجر أهل البدع وترك مجالستهم بالإضافة إلى ما تقدم التنبيه عليه من مراعاة تلك الأحوال: أن يراد به وجه الله تعالى، لا الهوى وحظ النفس وإلا كان خارجاً عن الهجر الشرعي، لا يثاب عليه فاعله وإن وافق الهجر الشرعي في بعض صوره لأنه لم يرد به وجه الله.

وتحقيق هذا الشرط مهم في باب الهجر وغيره، فإنه يمثل شرط الإخلاص – أحد شرطي قبول العمل عند الله تعالى – كما أن ما ذكرناه من مراعاة تلك الأحوال المؤثرة في تحقيق مقاصد الهجر والاجتهاد في أن يكون الهجر محققاً للأغراض الشرعية منه يمثل الشرط الآخر من شرطي قبول العمل: وهو شرط المتابعة.

وهذا ما لا يتحقق إلا لعالم بالسنة وأصول الشريعة، مطلع على أحوال عصره، وأحوال الناس فيه، لأن الاجتهاد في المسألة يتطلب ذلك، ولهذا كان الهجر الشرعي وتطبيقه وظيفة العلماء العاملين فهم الذين يدركون مقاصده، ويعملون على تحقيقه على وفق ما شرع الله ورسوله، وعلى وفق ما كان عليه سلف الأمة الصالح، وهم من يوجهون العامة إلى ما يناسب حالهم عند النوازل الخاصة فيأمرونهم بمجالسة هذا والمنع من مجالسة ذلك، بحسب ما تقتضيه المصالح العامة والخاصة للمسلمين، كما كان السلف والأئمة على ذلك مع تلاميذهم وعامة الناس في عصرهم.

وينبغي للعامة أيضاً طاعة العلماء في ذلك لأنهم يدركون من مصالح المسلمين في هذا الباب وغيره ما لا يدركونه هم، والله تعالى أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

نقلاً من كتاب موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع للشيخ الدكتور إبراهيم الرحيلي حفظه الله (2/529-563) باختصار.


--------------------------------------------------------------------------------

1) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/431).
2) تفسير البغوي (1/491).
3) رواه البخاري في (كتاب المغازي – باب حديث كعب بن مالك) فتح الباري (8/114-115) ح:4118، ومسلم كتاب التوبة – باب حديث توبة كعب وصاحبيه) (4/2124-2125) ح:2769.
4) الإبانة الكبرى (2/414).
5) أخرجه الآجري ي الشريعة ص61، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/438).
6) أخرجه البخاري ضمن ذكر حادثة الإفك (كتاب التفسير – باب لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا...) فتح الباري (8/455) ح:4750، ومسلم (كتاب التوبة – باب حديث الإفك ...) (4/2136) ح:2770.
7) صحيح مسلم (كتاب الصيد والذبائح – باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو..) (3/1548).
8) انظر المعارف ص550.
9) أخرجه الدارمي في سننه (1/120).
10) المصدر نفسه.
11) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/133).
12) أخرجه الدارمي في سننه (1/120).
13) أورده الدارمي في رده على بشر المريسي ص5.
14) أخرجه ابن بطه في الإبانة الكبرى (2/450).
15) أصول السنة لابن أبي زمنين بتحقيق محمد هارون (3/1024).
16) التمهيد لابن عبد البر (6/127).
17) مجموع الفتاوى (28/216).
18) الاعتصام (1/175).
_________________

محب الأثري
12-14-2003, 09:16 PM
جزاك الله خير وحذاري حذاري من الحزبية ومصاحبتهم والذهاب إلى أماكنهم

الكاسر
12-14-2003, 09:37 PM
جزاك الله خير وبارك الله فيك

المشكدانة
12-15-2003, 02:50 PM
وجزاكم الله خيرا

بوخالد
12-16-2003, 01:04 AM
جزاك الله خيرا

محمد باموسى
06-07-2004, 11:32 AM
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم

12d8c7a34f47c2e9d3==