المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نصحية تكتب بماء الذهب لإصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف /شيخ الإسلام ابن تيمية


كيف حالك ؟

قاسم علي
08-23-2006, 05:11 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم، وهو الذي يصلح به دين الإنسان، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعدل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً‏)‏، وفي رواية صحيحة‏:‏ ‏(‏أفضل‏)‏ والأفضل هو الأعدل الأقوم ‏.‏ وهذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، وهي وسط بين هذين الصنفين؛ أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد‏.‏
ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين‏.‏ قال الحسن‏:‏ هو المبتدع في دينه والفاجر فى دنياه، وكانوا يقولون‏:‏ احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه،وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور‏.‏
فالقسم الأول‏:‏ أهل الفجور، وهم المترفون المنعمون، أوقعهم فى الفجور ما هم فيه‏.‏
والقسم الثانى‏:‏ المترهبون، أوقعهم فى البدع غلوهم وتشديدهم، هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم، وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهى عنها أو يسرفون فى المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم اللّه والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيراً منهم‏.‏
والذين يحرمون ما أحل اللّه من الطيبات ـ وإن كانوا يقولون‏:‏ إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه، إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء ـ يقول أحدهم‏:‏ للّه على ألا آكل طعاماً بالنهار أبداً، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يجب نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح‏.‏ وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التى ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة‏.‏
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنى على اللّه‏)‏، لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه اللّه ورسوله، فلا يحرم الحلال ولا يسرف فى تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد فى ذلك، ويقتصد فى العبادة، فلا يحمل نفسه ما لا تطيق‏.‏
فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة، التى غالب من سلكها ارتد على حافره، ونقض عهده، ولم يرعها حق رعايتها‏.‏ وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق، وتزكو به نفسه، وتسير به إلى ربه، ويجد بذلك من المزيد فى إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق؛ فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بنى آدم إلا من أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏‏.‏
قال طاوس فى أمر النساء وقلة صبره عنهن ـ كما تقدم‏.‏ فميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران، كما هو المذكور عنهم، فيبتلى بالميل إلى المردان، وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلى بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة، ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة، إما فى سره وإما بينه وبين الأمرد، ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس‏.‏
وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى الله، وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمراً أوجبه وحرمه هو على نفسه، فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فيصير بالمجاهدة في طاعة اللّه ورسوله‏.‏
وفى حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس ـ مرفرعًا ـ‏:‏‏(‏من عَشِق فَعفَّ وكَتَم وصبر ثم مات فهو شهيد‏)‏، وأبو يحيى فى حديثه نظر؛ لكن المعنى الذى ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل، ومن الصبر أن يصبر عن شكوي ما به إلى غير الله عز وجل؛ فإن هذا هو الصبر الجميل‏.‏
وأما الكتمان فيراد به شيئان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكتم بَثَّه ‏[‏أى‏:‏ حزنه الشديد‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ بثث‏]‏ وألمه، فلا يشكو إلى غير الله، فمتى شكا إلى غير اللّه نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين‏:‏
فإن شكا ذلك إلى طبيب، يعرف طب الأديان، ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان، فهذا بمنزلة المستفتى، وهذا حسن‏.‏ وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام‏.‏
وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة، كما يشكو من الراحة، كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد،تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً، إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذى يتسخط‏.‏
والثانى‏:‏ أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتَشَهَّتْ وتَمَنَّتْ وتَتَيَّمَتْ ‏[‏أى‏:‏ عشقت وأحبّتْ‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ تيم‏]‏‏.‏والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً له إلى الفعل والتشبه به، والنساء متى رأين البهائم تَنْزُو ‏[‏أى‏:‏ تثب وتعلو‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ نزا‏]‏ الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله فى نفسه دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّّ إليه، وكل ما فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه، وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر فى بعض الأمور المتعلقة به، فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة‏.‏
ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، أو كان أوان الحج، أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه، أو أصحابه أو غيرهم، ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك، فتتحرك بذكر الأبْرَق والأجْرَع والعُلىَ ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهباً إلى محبوبه، فصار ذكرها يذكره بالمحبوب‏.‏
وكذلك أصحاب المتاجر والأموال، إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك، وكذلك أهل الفرج والتنزه، إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه، وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بنى آدم، والإنسان ظلوم جهول‏.‏
وكذلك ذِكْر آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذَكٍّر به وتحرك محبته، فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة؛ فإذا تصورت جنساً تحرك إليها المحبوب‏.‏
ولهذا نهي الله ـ تعالى ـ عن إشاعة الفاحشة، وكذلك أمر بستر الفواحش، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر ‏[‏فى المطبوعة‏:‏ فاليستتر ـ وهو خطأ‏]‏ بستر اللّه؛ فإنه من يُبَدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتاب الله‏)‏، وقال‏:‏‏(‏كل أمتى مُعَافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به‏)‏، فما دام الذنب مستوراً فعقوبته على صاحبه خاصة، وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاماً، فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه‏.‏
ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار ـ الغزل الرقيق ـ لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر، فيكون حينئذ ممن قال الله فيه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏‏.‏
والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة، والمجاهد من جاهد نفسه في اللّه، وأما المبتدعون فى الزهد والعبادة، السالكون طريق الرهبان، فإنهم قد يزهدون فى النكاح، وفضول الطعام، والمال ونحو ذلك‏.‏ وهذا محمود، لكن عامة هؤلاء لابد أن يقعوا فى ذنوب من هذا الجنس، كما نجد كثيراً منهم يبتلى بصحبة الأحداث، وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية‏.‏
وحكايتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها فى كتاب، وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم، وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس، ولو اتبعوا السُّنَّة لاستراحوا من ذلك‏.‏
قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان فى المنام‏:‏ لي فيكم لطيفتان‏:‏ السماع وصحبة الأحداث‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ قَلَّ من ينجو منها من أصحابنا، حتى لقوة محبة نفوسهم صار ذلك ممتزجاً بطريقهم إلى الله؛ فإن أحدهم يجد فى نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده مـن العبادة والزهادة مـا لا يجدها بدون ذلك، وعنده فـي نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن، فصاروا في شبهة وشهوة، لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم فى الأمور المحرمة، التى تفتنهم، حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة، كالذين قـال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، وهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة واتَّبَعُوا الشهوات‏.‏
وإذا وقعوا فى السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية، ومحبة تامة، وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم، فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم، ويدخلون في الدياثة لأغراضهم، فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به، ويسمونه حواراً، وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم، ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ، ويرتفع الحياء بين أم الصبى وأبيه وبين الفقراء‏.‏
وإذا صَلُّوا صَلُّوا صلاة المنافقين، يقومون إليها وهم كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، فقد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، ومع هذا فهم قد يزهدون فى بعض الطيبات التى أحلها الله لهم، ويجتهدون فى عبادات وأذكار، لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز، مما تقدم ذكره، فتلك البدعة هي التى أوقعتهم فى اتباع الشهوات، وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم، ويتوب اللّه على من تاب‏.‏
والسالكون للشريعة المحمدية، إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصاراً وأغلالا، كما كانت على من قبلنا من الرهبان؛ فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد، من أجل خروجه عن السنة‏.‏
مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه
المجلد الرابع عشر 468الى 475 تفسير سورة المائدة

12d8c7a34f47c2e9d3==