المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام


كيف حالك ؟

البلوشي
06-11-2006, 07:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
وكانا من أعظم أنبياء بني إسرائيل ، وجمع الله لهما بين النبوة والحكمة والملك العظيم القوي ، أما داود صلى الله عليه وسلم فكان من جملة العسكر الذين مع طالوت الذي اختاره أحد أنبياء بني إسرائيل ملكا على بني إسرائيل لشجاعته وقوته وعلمه في السياسة ونظام الجيوش ، كما قال تعالى :
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة : 247] .
ولما برزوا لجالوت وجنوده ، وصبر عسكر طالوت ، واستعانوا بالله تفوق داود صلى الله عليه وسلم على الجميع بالشجاعة العظيمة ، فباشر بنفسه قتل ملكهم جالوت ، وحصلت الهزيمة على بقيتهم ، ونصر الله بني إسرائيل ذلك النصر : نبَّأ الله داود وأعطاه الحكمة والملك القوي ، كما قال تعالى :
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص : 20] .
وكان قد أعطاه الله قوة في العبادة وبصيرة ، ووصفه الله بهذين الوصفين اللذين بهما كمال العبد فقال :
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص : 17] .
فوصفه بالقوة العظيمة على ما أمر الله ، وبأنه أواب لكمال معرفته بالله .
وكان الله تعالى قد سخَّر له الطير والجبال تسبِّح الله معه ، وكان قد أُعطي من حسن الصوت ورخامته ما لم يؤت أحد من العالمين ، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، ويصوم يوما ويفطر يوما ، وكان إذا لاقى العدو رأى الخلق من شجاعته ما يعجب الناظرين ، وقد ألان الله له الحديد ، وعلَّمه صنعة الدروع الواقية في الحروب ، وهو أول من صنع الدروع السردية ذوات الحلق التي يحصل فيها الوقاية وهي خفيفة المحمل ، وقد عاتبه الله بسبب ذنب أذنبه بأن أرسل إليه ملكين بصورة خصمين ، فدخلا عليه وهو في محرابه ففزع منهما ; لأنهما دخلا عليه في وقت لا يدخل عليه فيه أحد ، وتسورا المحراب وقالا :
لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص : 22] .
ثم قص عليه أحدهما القصة فقال : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة - والمراد بها المرأة - ولي نعجة واحدة ، فقال : أَكفلنيها ، وعزني في الخطاب ، أي : صار خطابه أقوى مني فغلبني ، فقال داود عليه السلام : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ، وعلم داود أنه هو المراد بهذه القضية فانتبه لذلك :
وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص : 24 و 25] .
فمحا الله عنه الذنب ، وعاد به بعد التوبة أحسن مما كان قبل ذلك : حصل له القرب العظيم من ربه وحسن العاقبة ، وقال الله له :
يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص : 26] .
وأما سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم فإن الله أعطاه النبوة وورث أباه : علمَه ونبوته وملكَه ، وزاده الله ملكا عظيما لم يحصل لأحد قبله ولا بعده : سخَّر الله له الريح تجري بأمره وتدبيره برخاء ، أي : بسهولة حيث أراد ، غدوها شهر ورواحها شهر ، وسخر الله له الجن والشياطين والعفاريت يعملون له الأعمال الفخمة بحسب إرادته ، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ، وقدور راسيات ، وتذهب وتجيء بأمره إلى حيث أراد ، وسخر له من الجنود من الإنس والجن والطير ، فهم يوزعون بتدبير عجيب ونظام غريب ، وعلَّمه منطق الطير وسائر الحيوانات ، فكانت تخاطبه ويفهم ما تكلم به ، ولهذا خاطب الهدهد وراجعه تلك المراجعة ، وسمع النملة إذ نادت في قومها :
يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل : 18] .
فحذرت وأمرت بما يقي من الخطر ، واعتذرت عن سليمان وجنوده ; فلهذا ابتسم سليمان ضاحكا من قولها وقال :
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل : 19] .
ومن حسن نظامه وحزمه أنه يتفقد الجنود بنفسه ، مع أنه قد جعل لهم مدبرين ، فإن قوله : فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل : 83] دليل على ذلك ، حتى أنه تفقد الطيور لينظر هل هي لازمة لمراكزها ، فقال : مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل : 20] .
وليس الأمر كما يقول كثير من المفسرين أنه طلبه لينظر له الأرض وبعد مائها ، فإن هذا خلاف اللفظ القرآني ، فإن الله لم يقل وطلب الهدهد ، بل وقال : وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ [النمل : 20] .
ثم توعده لمخالفته لأمره ، ولما كان ملكه مبنيا على كمال العدل استثنى فقال :
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل : 21 - 26] .
ففي هذه المدة القصيرة جاء الهدهد بهذه المعلومات العظيمة ، أخبر سليمان عن ملك الديار اليمانية ، وأن ملكتهم امرأة ، وأنها قد أُعطيت من كل شيء يحتاج الملك إليه ، وأن لها عرشا عظيما ، ومع فهمه لملكهم وقوتهم فهم أيضا دينهم ، وأنهم مشركون يعبدون الشمس ، وأنكر الهدهد عليهم غاية الإنكار .
هذا من الأدلة على أن الحيوانات تعرف ربها وتسبِّحه وتوحِّده ، وتحب المؤمنين وتدين لربها بذلك ، وتبغض الكفار المكذبين ، وتدين بذلك ، فقال له سليمان :
سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [النمل : 27 و 28] .
فذهب بالكتاب فألقاه في حجر المرأة : ملكة سبأ ، فلما قرأته عظمته جدا ، وأُرعبت منه فزعا ، وجمعت رؤساء قومها فقالت :
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل : 29 - 31] .
كتاب مختصر جامع فيه المقصود كله ، قالت :
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [النمل : 32] .
أي : أشيروا عليَّ ، وهذا من حزمها وحسن تدبيرها استعملت المشورة مع رؤساء قومها .
مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل : 32 و 33] .
أي : مستعدون لما تقولين حربا وسلما ، وأرجعنا الأمر إلى ما تختارين ، فمن عزمها وحزمها وبعد نظرها عدلت عن الحرب ، واختارت السلم لكن بصورة حازمة ، فقالت : سأهدي له هدية حاضرة :
فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل : 35] .
إن كان من الملوك الذي ليس لهم هم إلا الدنيا فربما أن الهدية كسرت سورته ، وفلَّت عزيمته ، وسالمنا وسالمناه من بعيد ، وإن كان غير ذلك بان لنا الأمر .
فأرسلت أناسا ذوي عقل وحزم وخبرة ومعرفة ، فلما جاءوا لسليمان بالهدية قال :
أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل : 36] .
فبين لهم أنه لا غرض له في الدنيا ، وإنما غرضه إقامة الدين ، ودخول عباد الله في الإسلام .
ثم وصى الرسل ، واستغنى بذلك عن الكتاب ، وقال للرسول :
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل : 37] .
وعلم سليمان أنهم سينقادون ويسلمون ، فقال لأهل مجلسه :
أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل : 38 و 39] .
وسليمان بالديار الشامية ، وبينه وبينها مسافة شهرين ذهابا وشهرين إيابا ، ثم قال الذي عنده علم من الكتاب :
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل : 40] .
يحتمل أنه كما قال أكثر المفسرين : إنه رجل صالح قد أُعطي الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وأنه دعا الله فأتي به قبل أن يرتد إليه طرفه ، ويحتمل أن الذي عنده علم من الكتاب عنده من الأسباب التي يسخرها الله لسليمان أسباب يحصل بها تقريب المواصلات وجلب الأشياء البعيدة .
وعلى كُلٍّ فهذا ملك عظيم بلحظة يحضر له هذا العرش العظيم ; ولهذا لما رآه مستقرا عنده حمد الله على ذلك ، فقال :
هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل : 40] .
ثم خاطب من حوله : قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا أي : غيروا فيه وزيدوا وأنقصوا ، نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ [النمل : 41] .
وكان قد مُدح له رأيها وعقلها ، فأحبَّ أن يقف على الحقيقة ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ : أَهَكَذَا عَرْشُكِ [النمل : 42] .
وعرض عليها ، فلما رأته عرفته ، ورأت ما فيه من التنكير ، فأنكرته فقالت مرددة للاحتمالين : كَأَنَّهُ هُوَ [النمل : 42] .
لم تقل : هو ; لما فيه من التغيير ، ولم تنف أنه هو ; لما كانت تعرفه ، فأتت بلفظ صالح للأمرين ، فعرف سليمان رجاحة عقلها .
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل : 42] .
إن كان هذا من كلام سليمان فمعناه إننا أُخبرنا عن عقلها ، وعلمنا بذلك قبل هذه الحالة فتحققناها لما سبرناها ، وإن كان الكلام كلام ملكة سبأ ، فإنها تقول : وَأُوتِينَا الْعِلْمَ عن ملك سليمان ، وأنه ملك نبوة ورسالة وقوة هائلة من قبل هذه الحالة ، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ مذعنين لما قاله سليمان بعدما تحققنا أمره ، فكأنه قيل : مع عقلها هذا ورأيها السديد فكيف كانت تعبد غير الله ؟ وكيف اجتمع العقل وعبادة من لا ينفع ولا يضر ، وإنما يضر من عبده ؟
حاصل الجواب قوله :
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل : 43] .
أي : العقائد التي نشأت عليها ، والمذاهب الفاسدة تسيطر على عقل العاقل ، وتذهب لب اللبيب حتى يقيض له من الأسباب المباركة ما يبين له الحق ، ويمن عليه باتباعه .
وكان له صرح من قوارير أجرى تحته الأنهار ، فكان من ينظر إليه يظنه ماء يجري ؛ لأن الزجاج شفاف ، فلما قيل لها : ادخلي الصرح ، فرأته لجة وكشفت عن ساقيها ، قال : إنه صرح ممرد من قوارير ، قالت :
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل : 44] .
فأسلمت لله ، واتبعها قومها ، فيقال : إن سليمان تزوجها ، فالله أعلم .
ولما كانت الشياطين زمن سليمان قد سخرهم الله له ، وبلَّغه أنهم باجتماعهم بالإنس يعلمونهم السحر ، فجمعهم وتوعدهم وأخذ كتبهم ودفنها ، فلما توفي سليمان جاءت الشياطين للناس وقالوا : إن ملك سليمان مشيد على السحر ، واستخرجوا الكتب التي دفنها ، وأشاعوا من إغوائهم للناس أنها مأخوذة من سليمان ، وأن سليمان ساحر ، وروج ذلك طائفة من اليهود ، فبرأ الله سليمان من هذا الأمر ، وبين أن السحر من العلوم الضارة فقال تعالى :
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ [البقرة : 102] .
أي : بتعليم السحر والرضاء به .
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة : 102] .
وهذا من عظمة القرآن أنه يأمر الخلق بالإيمان بجميع الرسل ، ويذكرهم بأوصافهم الجميلة وينزِّههم عما قاله الناس فيهم مما ينافي رسالتهم .
وكان الله قد ابتلى سليمان ، وألقى على كرسيِّه جسدا ، أي : شيطانا عتابا له على بعض الهفوات ، وإرجاعا له إلى كمال الخضوع لربه ، ولهذا قال تعالى : ثُمَّ أَنَابَ [ص : 34] .
إلى الله بقلبه ولسانه وبدنه بظاهره وباطنه فقال :
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص : 35] .
فاستجاب الله له دعاءه وأعطاه ما طلبه من مغفرة الذنب ، وأعطاه جميع ما طلب كما تقدم .
وقد أثنى الله على داود وسليمان بالعلم والحكم ، وخص سليمان بزيادة الفهم فقال :
وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الأنبياء : 78] .
أي : دخلت الغنم بستانهم ليلا فرعت زرعه وأشجاره ، فحكم داود بحسب اجتهاده وتقديره أن الغنم تكون لصاحب الحرث ؛ لظنه أن الذي تلف من الحرث يقابل قيمتها ، ثم رفعت القضية إلى سليمان ، فحكم على صاحب الغنم أن يقوم على حرث صاحب البستان بالسقي والتعمير والملاحظة حتى يعود كما كان قبل نفشها ، ويدفع له صاحب الغنم الغنم ينتفع بدرها ولبنها ودهنها وصوفها ومغلها مقابل ما كان بصدد أن ينتفع بحرثه في هذه المدة ، فكان هذا الحكم من سليمان أقرب إلى الصواب ، وأنفع لصاحب الغنم والحرث ، فلهذا قال تعالى :
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء : 79] .
ونظير هذه القضية حكم داود وسليمان بين المرأتين اللتين خرجتا ومع كل واحدة ابنها ، فعدا الذئب على ابن الكبرى ، فادعت الكبرى على الصغرى أن الذئب أكل ابن الصغرى ، وأن الذي سلم من الذئب ابنها ، والمرأة الصغرى نكرت وقالت : بل الذئب أكل ابن الكبرى فتحاكما إلى داود ، فلم ير لكل منهما بيِّنة إلا قولها ، رأى أن يحكم به للكبرى اجتهادا ورحمة بها لكبرها ، وأن الصغرى في مستقبل عمرها سيرزقها الله ولدا بدله ، ثم رفعت القضية إلى سليمان فقال لهما : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فرضيت الكبرى ، وقالت الصغرى : لما دار الأمر بين تلفه أو بقائه بيد غيرها وهو أهون الأمرين عليها : هو ابنها يا نبي الله ، فعلم سليمان بهذا الأمر الطبيعي الذي هو من أقوى البينات أنه ليس ابنا للكبرى لكونها رضيت بشقه وإتلافه ، وأن دعواها على الأخرى إنما حملها عليه الحسد ، وأنه ابن الصغرى حين فزعت من شقه إلى التنازل عن دعواها ، فقضى به سليمان للصغرى ، ولا ريب أن استخراج الصواب في القضايا بالبينات والقرائن وشواهد الأحوال من الفهم الذي يخص الله به من يشاء .
فصل
في بعض الفوائد المستنبطة من قصة داود وسليمان عليهما السلام
فمنها : أن الله يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أخبار من قبله لتثبيت فؤاده وتطمين نفسه ، ويذكر له من عباداتهم ، وشدة صبرهم وإنابتهم ما يشوق إلى منافستهم ، والتقرب إلى الله الذي تنافسوا في قربه والصبر على أذى قومه ، ولهذا ذكر تعالى في أول سورة ( ص ) ما قاله المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم وما آذوه به ، قال بعدها :
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص : 17] .
ومنها : أن قوله : ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ مدح عظيم من الله لهذين الوصفين : قوة القلب والبدن على طاعة الله والإنابة ، باطنا وظاهرا ، إلى الله المستلزمة لمحبته وكمال معرفته ، وأن هذين الوصفين للأنبياء على وجه الكمال ، ولمن بعدهم من أتباعهم على حسب اتباعهم ، والثناء من الله عليهما يقتضي الحث على جميع الأسباب التي تعين على القوة والإنابة ، وأن يكون العبد رجَّاعا إلى الله في حال السَّراء والضَّراء ، وفي جميع الأحوال .
ومنها : ما أكرم الله به نبيه داود صلى الله عليه وسلم من حسن الصوت ورخامته ، وأن الجبال والطيور تسبح الله معه وتجاوبه ، وذلك من زيادة درجاته ومقاماته العالية .
ومنها : أن من أكبر نعم الله على عبده أن يرزقه العلم النافع ، ويعرف الحكم بين الناس في المقالات والمذاهب ، وفي الخصومات والمشاحنات كما قال تعالى : وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ .
ومنها : كمال اعتناء المولى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الهفوات بفتنة إياهم ، وابتلائهم بما يزول عنهم المحذور حتى يعودوا أكمل من أحوالهم الأولى ، كما جرى لداود وسليمان .
ومنها : أن الأنبياء معصومون فيما يبلغون عن الله ، فإن الله أمر بطاعتهم مطلقا ، ومقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك ، وقد يجري منهم أحيانا بعض مقتضيات الطبيعة من المخالفات ، ولكن الله تعالى يبادرهم بلطفه ، ويتداركهم بالتوبة والإنابة .
ومنها : أن داود في أغلب أوقاته ملازما محرابه لخدمة ربه ، وله وقت يجلس فيه لحوائج الخلق ، فقد أتم القيام بحق الله وحق عباده .
ومنها : أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الناس ، خصوصا الحكام والرؤساء ; فإن الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة ، ومن غير الباب فزع منهم ، واشتد عليه ذلك ، ورآه غير لائق بالحال .
ومنها : أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم ، وفعله ما لا ينبغي .
ومنها : كمال حلم داود ; فإنه ما غضب منهما حين جاءاه بغير استئذان ، ولا انتهرهما ولا وبخهما .
ومنها : جواز قول المظلوم لمن ظلمه أنت ظلمتني ، أو : يا ظالم ونحوه ، أو : يا باغي لقوله : خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ .
ومنها : أن المنصوح ولو كان كبير القدر كثير العلم عليه أن لا يغضب ولا يشمئز ، بل يبادر بقبول النصيحة والشكر لمن نصحه ، ويحمد الله إذ قيض له النصيحة على يد الناصح ، فإن داود لم يشمئز من قول الخصمين : فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ بل حكم بالحق الصرف .
ومنها : أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب والمعاملين وكثرة التعلقات الدنيوية المالية موجبة للتعادي ، وبغي بعضهم على بعض ، وأنه لا يرد عن هذا الداء العضال إلا التقوى والصبر بالإيمان والعمل الصالح ، وأن هذا من أقل شيء في الناس .
ومنها : إكرام الله لداود وسليمان بالزلفى عنده وحسن المآب ، فلا يتوهم أحد أن ما جرى منهما منقص لدرجتهما عند الله ، وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين ، وأنه إذا غفر لهم وأزال عنهم أثر الذنوب ، أزال الآثار المترتبة عليها حتى ما يقع في قلوب الخلق ، وما ذلك على فضل الكريم بعزيز .
ومنها : أن مرتبة الحكم بين الناس مرتبة دينية تولاها رسل الله وخواص خلقه ، وأن على القائم بها الحكم بالحق ، وأن لا يتبع الهوى ; فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية ، والعلم بصورة القضية المحكوم بها ، وكيفية إدخالها في الأحكام الشرعية الكلية ، فالجاهل بواحد من هذه الأمور لا يحل له الإقدام على الحكم بين الناس .
ومنها : أن سليمان يعد من فضائل داود ، ومن منن الله عليه ، قال تعالى : وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص : 30] .
وهذا أعظم تزكية ، وأكبر فخر لسليمان .
ومنها : كثرة خير الله وفضله على عبيده الأخيار يمنُّ عليهم بالأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة ، ثم يثني عليهم بها ويرتِّب عليها من الثواب أنواعا منوعة ، وهو المتفضل بالأسباب ومسبباتها .
ومنها : أن سليمان قدَّم محبة الله على محبة كل شيء ، وأتلف الخيل التي ألهته عن ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب .
ومنها : أن كل ما أشغل العبد عن طاعة مولاه فهو مشؤوم فليفارقه ، وليقبل على ما هو أنفع له .
ومنها أنه يؤخذ من أن سليمان لما أتلف الخيل الجياد - التي ألهته عن طاعة الله - سخَّر الله له الريح والشياطين : أن من ترك شيئا لله عوَّضه الله خيرا منه .
ومنها : أن تسخير الشياطين ، وتسخير الريح على الوجه الذي سخرت لسليمان لا تكون لأحد بعد سليمان ، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الشيطان الذي تفلَّت عليه ليلة فيربطه في سارية المسجد قال : ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته .
ومنها : أن سليمان كان ملكا نبيا مباح له أن يفعل ما يريد ، ولكنه لكماله لا يريد إلا الخير والعدل ، وهذا بخلاف النبي العبد ، فإنه لا يكون له إرادة مستقلة ، بل إرادته تابعة لمراد الله منه ، فلا يفعل ولا يترك إلا تبعا للأمر ، كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ومنها : أن الله أعطى سليمان ملكا عظيما ، فيه أمور لا يمكن أن تدرك بالأسباب ، وإنما هي من تقدير الملك الوهاب مثل تسخير الريح تبعا لأمره ، وتسخير الشياطين ، وكون جنوده من الإنس والجن والطير ، وأن الطيور كانت تخدمه الخدمة العظيمة ، يرسلها للجهات توصل منه الأخبار ، وتأتيه بأخبار تلك الجهات ، وقد أعطاها الله من الفهم ومعرفة أحوال الآدميين ما قص الله علينا نبأه في هذه القصة ، وكذلك الذي عنده علم من الكتاب حين استعد أن يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه ، وهذه آيات أنبياء ، فلهذا مهما بلغ الخلق في الترقي في علوم الطبيعة والمهارة بالمخترعات فلن يصلوا إلى ما أُعطيه سليمان .
ومنها : أنه ينبغي للملوك والرؤساء أن يسألوا عن أحوال الأمراء والرؤساء والرجال المتميزين ، ولا يكتفوا بمجرد السؤال ، بل يختبرونهم ويختبرون معرفتهم للأمور وعقولهم ، كما فعل سليمان مع ملكة سبأ : امتحنها ليستدل على كمال عقلها ورجاحته ، ولم يكتف بالسؤال ، وهذا فيه للملوك فوائد عظيمة ، وهم محتاجون لهذا أشد الحاجة ، وتمام الملك أن يدير دفته الرجال الكاملون .
منقول من كتاب تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام للشيخ العلامة الإمام عبدالرحمن السعدي رحمه الله

12d8c7a34f47c2e9d3==