المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة شعيب عليه السلام


كيف حالك ؟

البلوشي
05-05-2006, 03:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة شعيب عليه السلام
نبأه الله وأرسله إلى أهل مدين ، وكانوا مع شركهم يبخسون المكاييل والموازين ، ويغشون في المعاملات ، وينقصون الناس أشياءهم ، فدعاهم إلى توحيد الله ، ونهاهم عن الشرك به ، وأمرهم بالعدل في المعاملات ، وزجرهم عن البخس في المعاملات ، وذكرهم الخير الذي أدره الله عليهم ، والأرزاق المتنوعة ، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ظلم الناس في أموالهم ، وخَوَّفهم العذاب المحيط في الدنيا قبل الآخرة ، فأجابوه ساخرين وردوا عليه متهكمين فقالوا :
يا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود : 87] .
أي : فنحن جازمون على عبادة ما كان آباؤنا يعبدون ، وجازمون على أننا نفعل في أموالنا ما نريد من أي معاملة تكون ، فلا ندخل تحت أوامر الله وأوامر رسله ; فقال لهم :
يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا .
أي : أغناني الله .
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود : 88] .
أي : ما نهيتكم عن المعاملات الخبيثة وظلم الناس فيها ، إلا وأنا أول تارك لها ، مع أن الله أعطاني ووسَّع عليَّ وأنا محتاج إلى المعاملة ، ولكني متقيد بطاعة ربي ، إن أريد في فعلي وأمري لكم إلا الإصلاح ، أي : أن تصلح أحوالكم الدينية والدنيوية ما استطعت :
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود : 88] .
ثم خوفهم أخذات الأمم التي حولهم في الزمان والمكان فقال :
لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود : 89] .
ثم عرض عليهم التوبة ، ورغبهم فيها فقال : وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود : 90] .
فلم يفد فيهم ، فقالوا : مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ .
وهذا لعنادهم وبغضهم البليغ للحق وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ .
[ثم لما رأى عتوهم قال :]
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود : 91 - 94] .
وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود : 58] .
فأرسل الله عليهم حرا أخذ بأنفاسهم حتى كادوا يختنقون من شدته ، ثم في أثناء ذلك أرسل سحابة باردة فأظلتهم ، فتنادوا إلى ظلها غير الظليل ، فلما اجتمعوا فيها التهبت عليهم نارا ، فأحرقتهم وأصبحوا خامدين معذبين مذمومين ملعونين في جميع الأوقات .
* وفي قصة شعيب فوائد متعددة :
منها : أن بخس المكاييل والموازين خصوصا ، وبخس الناس أشياءهم عموما من أعظم الجرائم الموجبة لعقوبات الدنيا والآخرة .
ومنها : أن المعصية الواقعة لمن عدم منه الداعي والحاجة إليها أعظم ، ولهذا كان الزنا من الشيخ أقبح من الشباب ، والكبر من الفقير أقبح من الغني ، والسرقة ممن ليس بمحتاج أعظم من وقوعها من المحتاج ؛ لهذا قال شعيب لقومه :
إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [هود : 84] .
أي : بنعم كثيرة ، فأي أمر أحوجكم إلى الهلع إلى ما بأيدي الناس بطرق محرمة .
ومنها : قوله :
بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ [هود : 86] .
فيه الحث على الرضا بما أعطى الله ، والاكتفاء بحلاله عن حرامه ، وقصر النظر على الموجود عندك من غير تطلع إلى ما عند الناس .
ومنها : فيه دلالة على أن الصلاة سبب لفعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وللنصيحة لعباد الله ، وقد علم ذلك الكفار بما قالوا لشعيب : أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ، وقال تعالى :
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت : 45] .
ومن هنا تعرف حكمة الله ورحمته في أنه فرض علينا الصلوات ، تتكرر في اليوم والليلة لعظم وقعها ، وشدة نفعها ، وجميل آثارها ، فللَّه على ذلك أتم الحمد .
ومنها : أن العبد في حركات بدنه وتصرفاته ، وفي معاملاته المالية ، داخل تحت حجر الشريعة ، فما أبيح له منها فعله ، وما منعه الشرع تعين عليه تركه ، ومن يزعم أنه في ماله حر له أن يفعل ما يشاء من معاملات طيبة وخبيثة ، فهو بمنزلة من يرى أن عمل بدنه كذلك ، وأنه لا فرق عنده بين الكفر والإيمان ، والصدق والكذب ، وفعل الخير والشر ، الكل مباح ، ومن المعلوم أن هذا هو مذهب الإباحيين الذين هم شر الخليقة ، ومذهب قوم شعيب يشبه هذا ؛ لأنهم أنكروا على شعيب لما نهاهم عن المعاملات الظالمة ، وأباح لهم سواها ، فردوا عليه أنهم أحرار في أموالهم ، لهم أن يفعلوا فيها ما يريدون ، ونظير هذا قول من قال : إنما البيع مثل الربا ، فمن سوَّى بين ما أباحه وبين ما حرمه الله فقد انحرف في فطرته وعقله بعدما انحرف في دينه .
ومنها : أن الناصح للخلق الذي يأمرهم وينهاهم من تمام قبول الناس له : أنه إذا أمرهم بشيء أن يكون أول الفاعلين له ، وإذا نهاهم عن شيء كان أول التاركين ؛ لقول شعيب : وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ .
ومنها : أن الأنبياء جميعهم بُعثوا بالإصلاح والصلاح ، ونهوا عن الشرور والفساد ، فكل صلاح وإصلاح ديني ودنيوي فهو من دين الأنبياء ، وخصوصا إمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه أبدا وأعاد في هذا الأصل ، ووضع للخلق الأصول النافعة التي يجرون عليها في الأمور العادية والدنيوية ، كما وضع لهم الأصول في الأمور الدينية ، وأنه كما أن على العبد السعي والاجتهاد في فعل الصلاح والإصلاح ، فعليه أن يستمد العون من ربه على ذلك ، وأن يعلم أنه لا يقدر على ذلك ، ولا على تكميله إلا بالله ؛ لقول شعيب : إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .
ومنها : أن الداعي إلى الله يحتاج إلى الحلم وحسن الخلق ومقابلة المسيئين بأقوالهم وأفعالهم بضد ذلك ، وأن لا يُحبطه أذى الخلق ولا يصده عن شيء من دعوته ، وهذا الخلق كماله للرسل صلوات الله عليهم وسلم ، فانظر إلى شعيب عليه السلام ، وحسن خلقه مع قومه ، ودعوته لهم بكل طريق وهم يسمعونه الأقوال السيئة ، ويقابلونه المقابلة الفعلية ، وهو صلى الله عليه وسلم يحلم عليهم ويصفح ، ويتكلم معهم كلام من لم يصدر منهم له وفي حقه إلا الإحسان ، ويهون هذا الأمر أن هذا خُلُقٌ من ظفر به وحازه فقد فاز بالحظ العظيم ، وأن لصاحبه عند الله المقامات العالية والنعيم المقيم ، ويهونه أنه يعالج أمما قد طبعوا على أخلاق إزالتها وقلعها أصعب من قلع الجبال الرواسي ، ومرنوا على عقائد ومذاهب بذلوا فيها الأموال والأرواح ، وقدموها على جميع المهمات عندهم ، أفتظن مع هذا أن أمثال هؤلاء يقتنعون بمجرد القول بأن هذه مذاهب باطلة وأقوال فاسدة ، أم تحسبهم يغتفرون لمن نالها بسوء ؟ . . كلا والله ، إن هؤلاء يحتاجون إلى معالجات متنوعة بالطرق التي دعت إليها الرسل ، يذكرون بنعم الله ، وأن الذي تفرد بالنعم يتعين أن يفرد بالعبادة ، ويذكر لهم من تفاصيل النعم ما لا يعد ولا يحصى ، ويذكرون بما في مذاهبهم من الزيغ والفساد والاضطراب ، والتناقض المزلزل للعقائد ، الداعي إلى تركها ، ويذكرون بما بين أيديهم وما خلفهم من أيام الله ووقائعه بالأمم المكذبة للرسل ، المنكرة للتوحيد ، ويذكرون بما في الإيمان بالله وتوحيده ودينه من المحاسن والمصالح والمنافع الدينية والدنيوية ، الجاذبة للقلوب ، المسهلة لكل مطلوب ، ومع هذا كله فيحتاج الخلق إلى الإحسان إليهم ، وبذل المعروف ، وأقل ذلك الصبر على أذاهم ، وتحمل ما يصدر منهم ، ولين الكلام معهم ، وسلوك كل سبيل حكمة معهم ، والتنقل معهم في الأمور بالاكتفاء ببعض ما تسمح به أنفسهم ليستدرج بهم إلى تكميله ، والبداءة بالأهم فالأهم ، وأعظمهم قياما بهذه الأمور وغيرها سيدهم وخاتمهم وإمام الخلق على الإطلاق : محمد صلى الله عليه وسلم .
منقول من كتاب تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام العلامةعبدالرحمن السعدي رحمه الله

12d8c7a34f47c2e9d3==