المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم


كيف حالك ؟

البلوشي
04-25-2006, 04:54 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم
قد ذكر الله في كتابه سيرة وأخبارا كثيرة من سيرة إبراهيم ، فيها لنا الأسوة بالأنبياء عموما ، وبه على وجه الخصوص ; فإن الله أمر نبينا وأمرنا باتباع ملته ، وهي ما كان عليه من عقائد وأخلاق وأعمال قاصرة ومتعدية ، فقد آتاه الله رشده وعلَّمه الحكمة منذ كان صغيرا ، وأراه ملكوت السماوات والأرض ، ولهذا كان أعظم الناس يقينا وعلما وقوة في دين الله ورحمته بالعباد ، وكان قد بعثه الله إلى قوم مشركين يعبدون الشمس والقمر والنجوم ، وهم فلاسفة الصابئة الذين هم من أخبث الطوائف وأعظمهم ضررا على الخلق ، فدعاهم بطرق شتى ، فأول ذلك دعاهم بطريقة لا يمكن لصاحب عقل أن ينفر منها ، ولما كانوا يعبدون السبع السيارات التي منها الشمس والقمر ، وقد بنوا لها البيوت ، وسموها الهياكل ، قال لهم ناظرا ومناظرا : هلم يا قوم ننظر هل يستحق منها شيء الإلهية والربوبية ؟
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام : 76] .
* والمناظرة تخالف غيرها في أمور كثيرة :
منها : أن المناظر يقول الشيء الذي لا يعتقده ليبني عليه حجته ، وليقيم الحجة على خصمه ، كما قال في تكسيره الأصنام لما قالوا له :
أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء : 62] .
فأشار إلى الصنم الذي لم يكسره فقال :
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء : 63] .
ومعلوم أن غرضه إلزامهم بالحجة ، وقد حصلت .
فهنا يسهل علينا فهم معنى قوله : هَذَا رَبِّي أي : إن كان يستحق الإلهية بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي ، مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه لا يستحق من الربوبية والإلهية مثقال ذرة ، ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة :
فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام : 76] .
أي : غاب قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام : 76] .
فإن من كان له حال وجود وعدم ، أو حال حضور وغيبة ، قد علم كل عاقل أنه ليس بكامل ، فلا يكون إلها ، ثم انتقل إلى القمر ، فلما رآه بازغا : قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام : 77] .
يريهم صلوات الله وسلامه عليه ، وقد صور نفسه بصورة الموافق لهم ، لكن على وجه التقليد ، بل يقصد إقامة البرهان على إلهية النجوم والقمر ، فالآن وقد أفلت ، وتبين بالبرهان العقلي مع السمعي بطلان إلهيتها ، فأنا إلى الآن لم يستقر لي قرار على رب وإله عظيم ، فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا أكبر من النجوم ومن القمر ، فإن جرى عليها ما جرى عليهما كانت مثلهما ، فلما أفلت وقد تقرر عند الجميع فيما سبق أن عبادة من يأفل من أبطل الباطل ، فحينئذ ألزمهم بهذا الإلزام ووجه عليهم الحجة فقال :
يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي : ظاهري وباطني لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 78 و79] .
هذا برهان عقلي واضح أن الخالق للعالم العلوي والسفلي هو الذي يتعين أن يُقصد بالتوحيد والإخلاص ، وأن هذه الأفلاك والكواكب وغيرها مخلوقات مدبرات ، ليس لها من الأوصاف ما تستحق العبادة لأجلها ; فجعلوا يخوفونه آلهتهم أن تمسه بسوء ، وهذا دليل على أن المشركين عندهم من الخيالات الفاسدة والآراء الرديئة ما يعتقدون أن آلهتهم تنفع من عَبَدَها وتَضُر من تركها أو قدح فيها ، فقال لهم مبينا لهم أنه ليس عليه شيء من الخوف ، وإنما الخوف الحقيقي عليكم فقال :
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام : 81] .
أجاب الله هذا الاستفهام جوابا يعم هذه القصة وغيرها في كل وقت فقال :
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أي : بشرك أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام : 82] .
فرفع الله خليله إبراهيم بالعلم وإقامة الحجة ، وعجزوا عن نصر باطلهم ; ولكنهم صمموا على الإقامة على ما هم عليه ، ولم ينفع فيهم الوعظ والتذكير وإقامة الحجج ، فلم يزل يدعوهم إلى الله ، وينهاهم عما كانوا يعبدون نهيا عامًّا وخاصًّا ، وأخص من دعاه أبوه آزر ; فإنه دعاه بعدة طرق نافعة ، ولكن :
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس : 96 و97] .
فمن جملة مقالاته لأبيه إذ قال لأبيه :
يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم : 42 و43] .
انظر إلى حسن هذا الخطاب الجاذب للقلوب : لم يقل لأبيه : إنك جاهل ؛ لئلا ينفر من الكلام الخشن ، بل قال له هذا القول : فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم : 53 - 45] .
فانتقل بدعوته من أسلوب لآخر لعله ينجع فيه أو يفيد ، ولكنه مع ذلك قال له أبوه :
أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم : 46] .
هذا وإبراهيم لم يغضب ولم يقابل أباه ببعض ما قال ، بل قابل هذه الإساءة الكبرى بالإحسان فقال :
سَلَامٌ عَلَيْكَ [مريم : 47] .
أي : لا أتكلم معك إلا بكلام طيب لا غلظة فيه ولا خشونة ، ومع ذلك فلست بآيس من هدايتك : سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم : 47] .
أي : برا رحيما قد عودني لطفه وأجراني على عوائده الجميلة ، ولم يزل لدعائي مجيبا .
فلم يزل إبراهيم مع قومه في دعوة وجدال ، وقد أفحمهم وكسر جميع حججهم وشُبههم ، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقاومهم بأعظم الحجج ، وأن يصمد لبطشهم وجبروتهم وقدرتهم وقوتهم ، غير هائب ولا وجل ، فلما خرجوا ذات يوم لعيد من أعيادهم وخرج معهم ، فنظر نظرة في النجوم فقال : إني سقيم ؛ لأنه خشي إن تَخَلَّف لغير هذه الوسيلة لم يدرك مطلوبه ؛ لأنه تظاهر بعداوتها والنهي الأكيد عنها وجهاد أهلها ، فلما برزوا جميعا إلى الصحراء كرَّ راجعا إلى بيت أصنامهم ، فجعلها جذاذا كلها إلا صنما كبيرا أبقى عليه ليلزمهم بالحجة ، فلما رجعوا من عيدهم بادروا إلى أصنامهم صبابة ومحبة ، فرأوا فيها أفظع منظر رآه أهلها فقالوا : مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء : 59 و 60] .
أي : يعيبها ويذكرها بأوصاف النقص والسوء :
يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء : 60] .
فلما تحققوا أنه الذي كسرها :
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء : 61] .
أي : بحضرة الخلق العظيم ، ووبخوه أشد التوبيخ ثم نكلوا به ، وهذا الذي أراد إبراهيم ؛ ليظهر الحق بمرأى الخلق ومسمعهم ، فلما جمع الناس وحضروا ، وحضَّروا إبراهيم قالوا :
أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء : 62 و63] .
مشيرا إلى الصنم الذي سلم من تكسيره ، وهم في هذه بين أمرين : إما أن يعترفوا بالحق ، وأن هذا لا يدخل عقل أحد أن جمادا معروفا أنه مصنوع من مواد معروفة لا يمكن أن يفعل هذا الفعل ، وإما أن يقولوا : نعم هو الذي فعلها وأنت سالم ناج من تبعتها ، وقد علم أنهم لا يقولون الاحتمال الأخير ، قال : فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، وهذا تعليق بالأمر الذي يعترفون أنه محال ، فحينئذ ظهر الحق وبان ، واعترفوا هم بالحق فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ، ثم نكسوا على رؤوسهم ، أي : ما كان اعترافهم ببطلان إلهيتها إلا وقتا قصيرا ظهرت الحجة مباشرة التي لا يمكن مكابرتها ، ولكن ما أسرع ما عادت عليهم عقائدهم الباطلة التي رسخت في قلوبهم ، وصارت صفات ملازمة ، إن وجد ما ينافيها فإنه عارض يعرض ثم يزول :
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء : 65] .
فحينئذ وبخهم بعد إقامة الحجة التي اعترف بها الخصوم على رؤوس الأشهاد ، فقال لهم :
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء : 66 و 67] .
فلو كان لكم عقول صحيحة لم تقيموا على عبادة ما لا ينفع ولا يضر ولا يدفع عن نفسه من يريده بسوء ، فلما أعيتهم المقاومة بالبراهين والحجج عدلوا إلى استعمال قوتهم وبطشهم وجبروتهم في عقوبة إبراهيم فقالوا : حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، فأوقدوا نارا عظيمة جدا فألقوه بها ، فقال وهو في تلك الحال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقال الله للنار :
يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء : 69] .
فلم تضره بشيء ، وأرادوا به كيدا لينصروا آلهتهم ، ويقيموا لها في قلوبهم وقلوب أتباعهم الخضوع والتعظيم ، فكان مكرهم وبالا عليهم ، وكان انتصارهم لآلهتهم نصرا عظيما عند الحاضرين والغائبين والموجودين والحادثين عليهم ، وانتصر الخليل على الخواص والعوام والرؤساء والمرؤوسين حتى إن ملكهم حاجَّ إبراهيم في رَبِّه بغيا وطغيانا ، أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فقال إبراهيم :
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة : 258] .
فألزمه الخليل بطرد دليله بالتصرف المطلق ، فقال :
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258] .
فصل
ثم خرج من بين أظهرهم مهاجرا وزوجته وابن أخيه لوط إلى الديار الشامية ، وفي أثناء مدة إقامته بالشام ذهب إلى مصر بزوجته سارة ، وكانت أحسن امرأة على الإطلاق ، فلما رآها ملك مصر وكان جبارا عنيدا لم يملك نفسه حتى أرادها على نفسها ، فدعت الله عليه ، فكاد أن يموت ، ثم أطلق ، ثم عاد ثانية ، وكلما أرادها دعت عليه فصرع ، ثم دعت له فأطلق ، فكفاهما الله شره ، ووهب لها هاجر جارية قبطية ، وكانت سارة عاقرا منذ كانت شابة ، فوهبت هذه الجارية لإبراهيم ليتسررها لعل الله يرزقه منها ولدا ، فأتت هاجر بإسماعيل على كبر إبراهيم ففرح به فرحا شديدا ، ولكن سارة رضي الله عنها أدركتها الغيرة فحلفت أن لا يساكنها بها ، وذلك لما يريده الله ، وهذا من جملة الأسباب لذهابه بها إلى موضع البيت الحرام ، وإلا فهو متقرر عنده ذلك عليه السلام .
فذهب بها وبابنها إسماعيل إلى مكة ، وهي في ذلك الوقت ليس فيها سكن ولا مسكن ولا ماء ولا زرع ولا غيره ، وزودهما بسقاء فيه ماء وجراب فيه تمر ، ووضعهما عند دوحة قريبة من محل بئر زمزم ثم قفى عنهما ، فلما كان في الثنية بحيث يشرف عليهما دعا الله تعالى فقال :
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم : 37] إلى آخر الدعاء .
ثم استسلمت لأمر الله ، وجعلت تأكل من ذلك التمر ، وتشرب من ذلك الماء حتى نفدا ، فعطشت ثم عطش ولدها ، فجعل يتلوى من العطش ، ثم ذهبت في تلك الحال لعلها ترى أحدا أو تجد مغيثا ، فصعدت أدنى جبل منها وهو الصفا ، وتطلعت فلم تر أحدا ، ثم ذهبت إلى المروة فصعدت عليه فتطلعت ، فلم تر أحدا ، ثم جعلت تتردد في ذلك الموضع وهي مكروبة مضطرة مستغيثة بالله لها ولابنها ، وهي تمشي وتلتفت إليه خشية السباع عليه ، فإذا هبطت الوادي سعت حتى تصعد من جانبه الآخر ؛ لئلا يخفى على بصرها ابنها .
والفرج مع الكرب ، والعسر يتبعه اليسر ، فلما تمت سبع مرات تسمعت حس الملك ، فبحث في الموضع الذي فيه زمزم فنبع الماء ، فاشتد فرح أم إسماعيل به ، فشربت منه وأرضعت ولدها ، وحمدت الله على هذه النعمة الكبرى ، وحوطت على الماء لئلا يسيح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : رحم الله أم إسماعيل : لو تركت ماء زمزم - أي لم تحوطه - لكانت زمزم عينا معينا ثم عثر بها قبيلة من قبائل العرب يقال لهم جرهم ، فعزلوا عندها وتمت عليها النعمة .
وشب إسماعيل شابا حسنا ، وأعجب القبيلة بأخلاقه وعلو همته وكماله ، فلما بلغ تزوج منهم امرأة ، ففي أثناء هذه المدة ماتت أمه رضي الله عنها ، وجاء إبراهيم بغيبة إسماعيل يتصيد ، فدخل على امرأته فسألها عن زوجها وعن عيشهم ، فأخبرته أن زوجها قد ذهب يتصيد ، وأن عيشهم عيش الشدة ، فقال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام ، وقولي له يغير عتبة بابه ، ورجع من فوره لحكمة أرادها الله ، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا ، فسأل امرأته فأخبرته أنه جاءهم شيخ بهذا الوصف ، وأنه سأل عنك فأخبرته ، وسألنا عن عيشنا فأخبرته أننا في شدة ، وأنه يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : غير عتبة بابك ، فقال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، الحقي بأهلك ، ثم تزوج إسماعيل غيرها .
ثم جاء إبراهيم مرة أخرى وإسماعيل أيضا في الصيد ، فدخل على امرأته فسألها عن إسماعيل فأخبرته ، وسألها عن عيشهم فأخبرته أنهم في نعمة وخير ، وكانت امرأة طيبة شاكرة لله وشاكرة لزوجها ، ثم قال لها : إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له يثبت عتبة بابه ، ثم رجع أيضا من فوره قبل مواجهة إسماعيل لحكمة أرادها الله تعالى ، فلما رجع إسماعيل من صيده قال : هل جاءكم من أحد ؟ فقالت : جاءنا شيخ بهذا الوصف ، فقال : هل قال لكم من شيء ؟ فقالت : سألنا عنك فأخبرته ، وسألنا عن عيشنا فأخبرته أنا في نعمة ، وأثنيت على الله ، فقال : فما قال ؟ قالت : هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ، فقال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك .
ثم عاد إبراهيم المرة الثالثة فوجد إسماعيل يبري نبلا عند زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد الشفيق والولد الشفيق ، فقال : يا إسماعيل إن الله أمرني أن أبني هنا بيتا يكون معبدا للخلق إلى يوم القيامة ، قال : سأعينك على ذلك ، فجعلا يرفعان القواعد من البيت ، إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان :
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة : 127 - 129] .
فلما تَمَّ بنيانه ، وتَمَّ للخليل هذا الأثر الجليل أمره الله أن يدعو الناس ويؤذن فيهم بحج هذا البيت ، فجعل يدعو الناس وهم يفدون إلى هذا البيت من كل فَجٍّ عميق ؛ ليشهدوا منافع دنياهم وأخراهم ، ويسعدوا ويزول عنهم شقاؤهم ، وفي هذه الأثناء حين تمكن حب إسماعيل من قلبه ، وأراد الله أن يمتحن إبراهيم لتقديم محبة ربه وخلته التي لا تقبل المشاركة والمزاحمة ، فأمره في المنام أن يذبح إسماعيل ، ورؤيا الأنبياء وحي من الله ، فقال لإسماعيل :
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا .
أي : خضعا لأمر الله ، وانقادا لأمره ، ووطنا أنفسهما على هذا الأمر المزعج الذي لا تكاد النفوس تصبر على عشر معشاره .
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ نزل الفرج من الرحمن الرحيم .
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات : 102 - 105] .
فحصل توطين النفس على هذه المحنة والبلوى الشاقة المزعجة ، وحصلت المقدمات والجزم المصمم ، وتم لهما الأجر والثواب ، وحصل لهما الشرف والقرب والزلفى من الله ، وما ذلك من ألطاف الرب بعزيز ، قال تعالى :
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات : 105 - 107] .
وأي ذِبْحٍ أعظم من كونه حصل به مقصود هذه العبادة التي لا يشبهها عبادة ، وصار سُنَّة في عقبه إلى يوم القيامة يتقرب به إلى الله ، ويدرك به ثوابه ورضاه :
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات : 108 و 109] .
فصل
ثم إن الله أتم النعمة على إبراهيم ، ورحم زوجته سارة على الكبر والعقم واليأس بالبشارة بالابن الجليل وهو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فحين أرسل الله لوطا إلى قومه ، وتمرَّدوا عليه وحتَّم الله عقوبتهم ، وكان لوط تلميذا لإبراهيم ، ولإبراهيم عليه حقوق كثيرة ، فمرت الملائكة الذين أرسلوا لإهلاك قوم لوط بإبراهيم بصورة آدميين ، فلما دخلوا عليه وسلموا ردَّ عليهم السلام ، بادرهم بالضيافة ، وكان الله قد أعطاه الرزق الواسع والكرم العظيم ، وكان بيته مأوى للأضياف ، فبالحال راغ إلى أهله بسرعة وخفية منهم ، فجاء بعجل سمين محنوذ مشوي على الرضف فقربه إليهم ، فقال :
أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات : 27] .
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ، إذ ظن أنهم لصوص :
قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود : 70] .
وكانت سارة قائمة في خدمتهم ، وبشره بغلام عليم ، فصرخت سارة وصكت وجهها متعجبة ومستبشرة ومترددة ومتحيرة وقالت :
أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [هود : 72] .
وقبل ذلك كنت عقيما ، وهذا بعلي شيخا ، إن هذا لشيء عجيب ، قالوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، فبشراهما بإسحاق وأنه يعيش ويولد له يعقوب ويدركانه ، ولهذا حمد الله إبراهيم على تمام نعمته وقال :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم : 39] .
فصل
فيما في قصة إبراهيم الخليل من الفوائد
ليعلم أن جميع ما قصه الله علينا من سيرة إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فإننا مأمورون به أمرا خاصا ، قال تعالى :
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج : 78] أي : الزموها .
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل : 123] .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ . . الآية [الممتحنة : 4] .
فما هو عليه في التوحيد والأصول والعقائد والأخلاق وجميع ما قص علينا من نبئه ، فإن اتباعنا إياه من ديننا ; ولهذا لما كان هذا أمرا عاما لأحواله كلها استثنى الله حالة من أحواله فقال :
إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة : 4] .
أي : فلا تقتدوا به في هذه الحال بالاستغفار للمشركين ، فإن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه .
ومنها : أن الله اتخذه خليلا ، والخلة أعلى درجات المحبة ، وهذه المرتبة لم تحصل لأحد من الخلق إلا للخليلين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم .
ومنها : ما أكرمه الله به من الكرامات المتنوعة ، جعل في ذريته النبوة والكتاب ، وأخرج من صلبه أمتين هما أفضل الأمم : العرب وبنو إسرائيل ، واختاره الله لبناء بيته الذي هو أشرف بيت ، وأول بيت وضع للناس ، ووهب له الأولاد بعد الكبر واليأس ، ملأ بذكره ما بين الخافقين ، وامتلأت قلوب الخلق من محبته وألسنتهم من الثناء عليه .
ومنها : أن الله رفعه بالعلم واليقين وقوة الحجج ، قال جل ذكره :
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام : 75] .
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام : 83] .
ومن شوقه إلى الوصول إلى غاية العلم ونهايته أن سأل ربه :
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة : 260] .
ومنها : أن من عزم على فعل الطاعات وبذل مقدوره في أسبابها ، ثم حصل مانع يمنع من إكمالها ، أن أجره قد وجب على الله ، كما قال الله ذلك في المهاجر الذي يموت قبل أن يصل إلى مهاجره ، وكما ذكره الله في قصة الذبح ، وأن الله أتَمَّ الأجر لإبراهيم وإسماعيل حين أسلما لله وأذعنا لأمره ، ثم رفع عنهما المشقة ، وأوجب لهما الأجر الدنيوي والأخروي .
ومنها : ما في قصصه من آداب المناظرة : طرقها ومسالكها النافعة ، وكيفية إلزام الخصم بالطرق الواضحة التي يعترف بها أهل العقول ، وإلجاؤه الخصم الألد إلى الاعتراف ببطلان مذهبه ، وإقامة الحجة على المعاندين وإرشاد المسترشدين .
ومنها : أن من نعمة الله على العبد هبة الأولاد الصالحين ، وأن عليه في ذلك أن يحمد الله ، ويدعو الله لذريته كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم في قوله :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم : 39] . . إلى آخر الدعاء .
وقال جلَّ ذكره في الثناء عموما على من يدعو الله بصلاح ذريته :
حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف : 15] .
فإن العبد إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له .
ومنها : أن المشاعر ومواضع الأنساك من جملة الحكم فيها ، أن فيها تذكيرات بمقامات الخليل وأهل بيته في عبادات ربهم ، وإيمان بالله ورسله ، وحث على الاقتداء بهم في كل أحوالهم الدينية وكل أحوال الرسل دينية ، لقوله تعالى :
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة : 125] .
ومنها : الأمر بتطهير المسجد الحرام من الأنجاس ، ومن جميع المعاصي القولية والفعلية ؛ تعظيما لله وإعانة وتنشيطا للمتعبدين فيه ، ومثله بقية المساجد لقوله عز وجل :
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج : 26] .
وقال : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور : 36] .
ومنها : أن أفضل الوصايا على الإطلاق ما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب ، وهو الوصية بملازمة القيام بالدين وتقوى الله والاجتماع على ذلك ، وهي وصيته تعالى للأولين والآخرين ، إذ بها السعادة الأبدية والسلامة من شرور الدنيا والآخرة .
ومنها : أن العامل - كما عليه أن يتقن عمله ويجتهد في إيقاعه على أكمل الوجوه - فعليه مع ذلك أن يكون بين الخوف والرجاء ، وأن يتضرع إلى ربه في قبوله وتكميل نقصه ، والعفو عما وقع فيه من خلل أو نقص ، كما كان إبراهيم وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت ، وهما بهذا الوصف الكامل .
ومنها : أن الجمع بين الدعاء لله بمصالح الدنيا والدين من سبيل أنبياء الله ، وكذلك السعي في تحصيلهما الدين هو الأصل والمقصود الذي خلق له الخلق والدنيا وسيلة ومعونة عليه لدعاء الخليل لأهل البيت الحرام بالأمرين ، وتعليله الدعاء بالأمور الدنيوية أنه وسيلة إلى الشكر فقال :
وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم : 37] .
ومنها : ما اشتملت عليه قصة إبراهيم من مشروعية الضيافة وآدابها ، فإن الله أخبر عن ضيفه أنهم مكرمون ، يعني : أنهم كرماء على الله ، وأيضا إبراهيم أكرمهم بضيافته قولا وفعلا ، فإكرام الضيف من الإيمان ، وأنه خدمهم بنفسه وبادر بضيافتهم قبل كل شيء ، وأتى بأطيب ماله : عجل حنيذ سمين ، وقرَّبه إليهم ولم يحوجهم إلى الذهاب إلى عمل آخر ، وعرض عليهم الأكل بلفظ رقيق فقال : ألا تأكلون ؟
ومنها : مشروعية السلام ، وأن المبتدئ فيه هو الداخل وهو الماشي ، وأنه يجب رده ، ومشروعية الوقوف على اسم من يتصل بك من صاحب ومعامل وضيف لقوله :
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات : 25] .
أي لا أعرفكم فأحب أن تعرفوني بأنفسكم ، وهذا ألطف من قوله أنكرتكم ونحوه .
ومنها : الترغيب في أن يكون أهل الإنسان ومن يتولى شؤون بيته حازمين مستعدين لكل ما يراد منهم من الشؤون والقيام بمهمات البيت ، فإن إبراهيم في الحال بادر إلى أهله فوجد طعام ضيوفه حاضرا لا يحوج إلا إلى تقديمه .
ومنها : أن إتيان الولد والبشارة به من سارة ، وهي عجوز عقيم ، يعد معجزة لإبراهيم وكرامة لسارة ، ففيه معجزة نبي وكرامة ولي ، ونظيره بشارة الملائكة لمريم بعيسى ، وبشارتهم بيحيى لزكريا وزوجته ، وكون زكريا جعل الله آية وجود المبشر به أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام ، وهو سويٌّ لا آفة فيه إلا بالرمز والإشارة ، وكل هذا وما أشبهه من آيات الله ، وأعجب من هذا إيجاده آدم من تراب ، فسبحان من هو على كل شيء قدير .
ومنها : ثناء الله على إبراهيم أنه أتى ربه بقلب سليم ، وقد قال :
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء : 88 و 89] .
والجامع لمعناه أنه سليم من الشرور كلها ومن أسبابها ، ملآن من الخير والبر والكرم ، سليم من الشبهات القادحة في العلم واليقين ، ومن الشهوات الحائلة بين العبد وبين كماله ، سليم من الكبر ومن الرياء والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق ، وسليم من الغل والحقد ، ملآن بالتوحيد والإيمان والتواضع للحق وللخلق ، والنصيحة للمسلمين والرغبة في عبودية الله ، وفي نفع عباد الله .
ومنها : ما ذكره في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس :
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات : 79] .
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات : 109] .
يتبعها بقوله : إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات : 105] .
فوعد الباري أن كل محسن في عبادته محسن إلى عباده أن الله يجزيه الثناء الحسن والدعاء من العالمين بحسب إحسانه ، وهذا ثواب عاجل وآجل ، وهو من البشرى في الحياة الدنيا ، ومن علامات السعادة .

منقول من كتاب تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام العلامةعبدالرحمن السعدي رحمه الله

12d8c7a34f47c2e9d3==