المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي


كيف حالك ؟

أبي التياح الضبعي
04-20-2006, 07:01 PM
صفة الفتوى والمفتي والمستفتي




تأليف : الإمام أحمد بن
حمدان الحراني الحنبلي


















بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يسر قال الشيخ الإمام العالم العامل الفاضل المحقق الصدر الكامل مفتي المسلمين أقضى القضاة نجم الدين أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان بن شبيب بن محمود الحراني الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه
الحمد لله الذي من على الأمة بهداية العلماء ووفقهم للفتوى والقضاء وإرشاد الجهال في الصباح والمساء وأمرهم بالقيام بأمره على الأقوياء والضعفاء ونهاهم عن مراعاة الأوداء والتحامل ظلماً على الأعداء وحرم الفتوى والقضاء على من فقد شرطهما من العلم المعتبر لهما والعدالة وترك الهوى والشحناء أحمده على ما أولانا من الهداية والنعماء ووفق له من منزلتي الفتوى والقضاء واتباع الكتاب والسنة البيضاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة موقن بيوم اللقاء وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيد بجند السماء والمخصوص بالشفاعة والمقام المحمود واللواء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان على السراء والضراء صلاة دائمة بدوام دار البقاء .
وبعد فإنه لما كان المفتى هو المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله هو المخبر عن الله بحكمه وقيل هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعا بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه عظم أمر الفتوى وخطرها وقل أهلها ومن يخاف إثمها وخطرها وأقدم عليها الحمقى والجهال ورضوا فيها بالقيل والقال واغتروا بالإمهال والإهمال واكتفوا بزعمهم أنهم من العدد بلا عدد وليس معهم بأهليتهم خط أحد واحتجوا باستمرار حالهم في المدد بلا مدد وغرهم في الدنيا كثرة الأمن والسلامة وقلة الإنكار والملامة أحببت أن أبين صفة المفتي والمستفتي والاستفتاء والفتوى وشروط الأربعة وما يتعلق بذلك من واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح لينكف عن الفتوى أو يكف عنها غير أهلها ويلتزم بها كفؤها وبعلها ويعلم حال السائل والمسئول ويمنع منها من لا حاصل له ولا محصول وهو إلى الحق بعيد الوصول وإنما دأبه الحسد والنكد والفضول ومن لا يصلح للفتوى لا يصلح للقضاء قال القاضي الإمام أبو يعلى بن الفراء الحنبلي رحمه الله من لم يكن من أهل الاجتهاد لم يجز له أن يفتي ولا يقضي ولا خلاف في اعتبار الاجتهاد فيهما عندنا ولو في بعض مذهب إمامه فقط أو غيره وكذا مذهب مالك والشافعي وخلق كثير وربما أذكر بعض ما يختص بالقضاء في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى فالله يلهم السداد والرشاد إنه رحيم كريم جواد .
باب وقت إباحة الفتيا واستحبابها وإيجابها وكراهتها وتحريمها الفتيا فرض عين إذا كان في البلد مفت واحد وفرض كفاية إذا كان فيه مفتيان فأكثر سواء حضر أحدهما أو هما وسئلا معا أو لا والورع إذن الترك للخطر والخوف من التقصير والقصور وتحرم الفتوى على الجاهل بصواب الجواب لقوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب الآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه رواه الإمام أحمد وابن ماجة وفي لفظ من أفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه رواه أحمد وأبو داود وقوله من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض ذكره ابن الجوزي في تعظيم الفتوى ولقوله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا حديث حسن وقال البراء لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا وقال ابن أبي ليلى أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول وفي رواية ما من أحد يحدث بحديث أو يسأل عنه وفي رواية عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتي في شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا وقال ابن مسعود من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون وعن ابن عباس نحوه وقال أبو حصين الأسدي إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر ونحوه عن الحسن والشعبي وقال محمد بن عجلان إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقالته ونحوه عن ابن عباس وسئل القاسم بن محمد بن أبي بكر عن شيء فقال لا أحسنه فقال السائل إني جئت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه يا ابن أخي ألزمها فو الله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي وقال سفيان بن عيينه وسحنون بن سعيد صاحب المدونة أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما وسأل رجل مالك بن أنس عن شيء أياما فقال إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه وقال الهيثم بن جميل شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري وقيل ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها وسئل عن مسألة فقال لا أدري فقيل له إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال ليس في العلم خفيف أما سمعت قول الله تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة وقال ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وقال أيضا لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك ولو نهياني انتهيت وقال إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا وقيل كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار وقال عطاء أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي البلاد شر فقال لا أدري فسأل جبريل فقال لا أدري فسأل ربه عز وجل فقال أسواقها ذكره ابن الجوزي في تعظيم الفتيا وسئل الشعبي عن شيء فقال لا أدري فقيل ألا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق فقال لكن الملائكة لم تستحي حين قالت لا علم لنا إلا ما علمتنا وقال أبو نعيم ما رأيت عالما أكثر قولا لا أدري من مالك بن أنس وقال أبو الذيال تعلم لا أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري وسئل الشافعي رحمه الله عن مسألة فسكت فقيل ألا تجيب فقال حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب وقال الأثرم سمعت الإمام أحمد يستفتي فيكثر أن يقول لا أدري وذلك فيما عرف فيه الأقاويل وقال من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تلجئ الضرورة وقيل له أيهما أفضل الكلام أو الإمساك فقال الإمساك أحب إلي إلا لضرورة وقال عقبة بن مسلم صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا وكان كثيرا ما يسأل فيقول لا أدري وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئا إلا قال اللهم سلمني وسلم مني وقال سحنون صاحب المدونة أشقى الناس من باع آخرته بدنياه وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره ففكرت فيمن باع آخرته بدنيا غيره فوجدته المفتي يأتيه رجل قد حنث في امرأته ورقيقه فيقول له لا شيء عليك فيذهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقه وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا وسأله رجل مسألة فتردد إليه فيها ثلاثة أيام فقال وما أصنع لك يا خليلي ومسألتك هذه معضلة وفيها أقاويل وأنا متحير في ذلك فقال له وأنت أصلحك الله لكل معضلة فقال له سحنون هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار وكان يزري على من يعجل في الفتوى ويذكر النهي عن ذلك عن معلميه القدماء وقال إني لأسأل عن المسألة أعرفها فما يمنعني من الجواب إلا كراهة الجرأة بعدي على الفتوى وقيل له إنك تسأل عن مسألة لو سئل عنها بعض أصحابك أجاب فتتوقف فيها فقال فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال وقال الخليل بن أحمد إن الرجل ليسأل عن المسألة ويعجل في الجواب فيصيب فأذمه ويسأل عن مسألة فيتثبت في الجواب فيخطئ فأحمده وقال أبو بكر الخطيب والصيمري قل من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره وإذا كان كارها لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتياه أغلب وقال بشر الحافي من أحب أن يسأل فليس بأهل أن يسأل وكان أبو الحسن القابسي ليس شيء أشد عليه من الفتيا وقال تارة ما ابتلى أحد بما ابتليت به أفتيت اليوم في عشر مسائل ورأى رجل ربيعة بن عبد الرحمن يبكي فقال ما يبكيك فقال أستفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم وقال ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق قلت فكيف لو رأى زماننا وأقدام من لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشؤم سريرته وإنما قصده السمعة والرياء ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين والعلماء الراسخين والمتبحرين السابقين ومع هذا فهم ينهون فلا ينتهون وينبهون فلا ينتبهون قد أملي لهم بانعكاف الجهال عليهم وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم فمن أقدم على ما ليس له أهلا من فتيا أو قضاء أو تدريس أثم فإن أكثر منه وأصر واستمر فسق ولم يحل قبول قوله ولا فتياه ولا قضاؤه هذا حكم دين الإسلام والسلام ولا اعتبار لمن خالف هذا الصواب فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد قال ابن داود وغيره إن الشافعي شرط في المفتي والقاضي شروطا لا توجد إلا في الأنبياء وقال بعض أصحابه شرط الشافعي فيهما شروطاً تمنع أن يكون بعده حاكم وكتب سليمان إلى أبي الدرداء بلغني أنك قعدت طبيباً فاحذر أن تقتل مسلماً وتحرم الفتوى على الجاهل بما يسأل عنه لما سبق من الحديث وإن كان عارفا بغيره وقال سفيان أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بدا من أن يفتوا وقال أدركت العلماء والفقهاء يترادون المسائل يكرهون أن يجيبوا فيها فإذا أعفوا منها كان أحب إليهم وقال أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها وأجهلهم بها أنطقهم فيها .
باب صفة المفتي وشروطه وأحكامه وآدابه وما يتعلق به ومن صفته وشروطه أن يكون مسلما عدلا مكلفا فقيها مجتهدا يقظا صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه وما يتعلق به أما اشتراط إسلامه وتكليفه وعدالته فبالإجماع لأنه يخبر عن الله تعالى بحكمه فاعتبر إسلامه وتكليفه وعدالته لتحصل الثقة بقوله ويبنى عليه كالشهادة والرواية .
فصل والعدل من استمر على فعل الواجب والمندوب والصدق وترك الحرام والمكروه والكذب مع حفظ مروءته ومجانبة الريب والتهم بجلب نفع ودفع ضرر فإن كان هذا وصفه ظاهرا وجهل باطنه ففي كونه عدلاً خلاف وظاهر مذهبنا أنه ليس عدلا كما لو علم أن باطنه بخلاف ظاهره وعلى كلا القولين ليس بعدل من يقول على الله أو على رسوله أو غيرهما أو جازف في أقواله وأفعاله مع إثمه بذلك أو إسقاط مروءته وتفصيل ذلك في كتب الفقه وبالجملة كل ما يأثم بفعله مرة يفسق بفعله ثلاثا وإن كان كبيرة فمرة وكل ما أسقط العدالة إذا كثر وإن لم يكثر لم يأثم به .
فصل فأما الفقيه على الحقيقة فهو من له أهلية تامة يمكنه أن يعرف الحكم بها إذا شاء معرفته جملة كثيرة عرفها من أمهات مسائل الأحكام الشرعية الفروعية العملية بالاجتهاد والتأمل وحضورها عنده فكل فقيه حقيقة مجتهد قاض لأن الاجتهاد بذل الجهد والطاقة في طلب الحكم الشرعي بدليله وكل مجتهد أصولي فلهذا كان علم أصول الفقه فرضا على الفقهاء وقد ذكر ابن عقيل أنه فرض عين وقال العالمي الحنفي إنه فرض عين على من أراد الاجتهاد والفتوى والقضاء وفرض كفاية على غيرهم وهو أولى إن شاء الله تعالى والمذهب أنه فرض كفاية كالفقه قلت نحمله على غير الثلاثة ولأن به يعرف الدليل والتعليل والصحيح والفاسد والعليل والنبيل والرذيل وكيفية الاستدلال والاستنباط والإلحاق والاجتهاد والمجتهد والفتوى والمفتي والمستفتي ومن يجوز له الاجتهاد والفتوى أو يجبان عليه أو يحرمان أو يندبان له ومن يلزمه التقليد أو يمتنع عليه وفيما يجوز أو يمتنع ومن جهله كان حاكي فقه وفرضه التقليد وقد أوجب ابن عقيل وغيره تقديم معرفته على الفروع ولهذا ذكره القاضي وابن أبي موسى وابن البنا وأبو بكر عبد العزيز في أوائل كتبهم الفروعية وقال أبو البقاء العكبري أبلغ ما يتوصل به إلى أحكام الأحكام اتقان أصول الفقه وطرف من أصول الدين لكن القاضي أوجب تقديم الفروع لتحصل الدربة والملكة وهو أولى إن شاء الله تعالى
فصل فأما المجتهد مطلقا فهو من حفظ وفهم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائله إذا كانت له أهلية تامة يمكنه معرفة أحكام الشرع فيها بالدليل وسائر الوقائع إذا شاء فإن كثرت إصابته صلح مع بقية الشروط أن يفتي ويقضي وإلا فلا .
فصل والمجتهد أربعة أقسام مجتهد مطلق ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره ومجتهد في نوع من العلم ومجتهد في مسألة منه أو مسائل .
القسم الأول المجتهد المطلق وهو الذي ذكرناه آنفا إذا استقل بإدراكه للأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها مع حفظه لأكثر الفقه ولا يقلد أحدا ولا يتقيد بمذهب أحد وقيل لا يشترط حفظه لفروع الفقه لأنه فرع الاجتهاد وفيه بعد وقيل يشترط فيمن يتأدى بفتواه فرض الكفاية ومن شرطه أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام وحقيقة ذلك ومجازه وأمره ونهيه ومجمله ومبينه ومحكمه ومتشابهه وخاصة وعامه ومطلقه ومقيده وناسخه ومنسوخه والمستثنى منه وصحيح السنة من ذلك وسقيمها وتواترها وآحادها ومرسلها ومسندها ومتصلها ومنقطعها ويعرف الوفاق والخلاف في مسائل الأحكام الفقهية في كل عصر والأدلة والشبهة والفرق بينهما والقياس وشروطه وما يتعلق بذلك والعربية المتداولة بالحجاز واليمن والشام والعراق ومن حولهم من العرب ولا يضر جهله ببعض ذلك لشبهة أو إشكال لكن يكفيه معرفة وجوه دلالة الأدلة وكيفية أخذ الأحكام من لفظها ومعناها وهل تشترط معرفة الحساب ونحوه في المسائل المتوقفة عليه فيه خلاف ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول لأن الحديث والفقه قد دونا وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك لكن الهمم قاصرة والرغبات فاترة ونار الجد والحذر خامدة اكتفاء بالتقليد واستعفاء من التعب الوكيد وهربا من الأثقال وأربا في تمشية الحال وبلوغ الآمال ولو بأقل الأعمال وهو فرض كفاية قد أهملوه وملوه ولم يعقلوه ليفعلوه وقيل المفتي هو من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يسر من غير تعلم آخر .
القسم الثاني مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره وأحواله أربعة :
الحالة الأولى أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه وقد ادعى هذا منا القاضي أبو علي ابن أبي موسى الهاشمي في شرح الإرشاد الذي له والقاضي أبو يعلى وغيرهما ومن الشافعية خلق كثير واختلفت الشافعية والحنفية في أبي يوسف ومحمد والمزني وابن سريج هل كانوا مجتهدين مستقلين أو في مذهب الإمامين وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها والاعتداد بها في الاجماع والخلاف .
فصل وقال بعض الشافعية إذا كان رجل مجتهدا في مذهب إمام ولم يكن مستقلا بالفتوى فيه عن نفسه فهل له أن يفتي بقول ذلك الإمام على وجهين :
أحدهما يجوز ويكون متبعه مقلدا للميت لا له والثاني المنع لأنه مقلد له لا للميت والسائل إنما أراد الاستفتاء على قول الميت والأول أصح لأن مستفتيه عمل بقول الميت الذي عرف المفتي صحته بالدليل فقد وافقه فيه فصحت فتياه وإن منعنا تقليد الميت في وجه لنا بعيد ومذهب لغيرنا ضعيف لاحتمال تغير اجتهاده لو كان حيا وجدد النظر عند حدوث المسألة حين الفتوى وفي وجوبه مذهبان سنذكرهما إن شاء الله تعالى .
الحالة الثانية أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه مستقلا بتقريره بالدليل لكن لا يتعدى أصوله وقواعده مع إتقانه للفقه وأصوله وأدلة مسائل الفقه عارفا بالقياس ونحوه تام الرياضة قادرا على التخريج والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه وقيل وليس من شرطه معرفة هذا علم الحديث واللغة العربية لكونه يتخذ أصول إمامه أصولا يستنبط منها الأحكام كنصوص الشارع وقد يرى حكما ذكره إمامه بدليل فيكتفي بذلك من غير بحث عن معارض أو غيره وهو بعيد وهذا شأن أهل الأوجه والطرق في المذاهب وهو حال أكثر علماء الطوائف الآن فمن عمل بفتيا هذا فقد قلد إمامه دونه لأن معوله على صحة إضافة ما يقول إلى إمامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع بلا واسطة إمامه والظاهر معرفته بما يتعلق بذلك من حديث ولغة ونحو وقيل أن فرض الكفاية لا يتأدى به لأن تقليده نقص وخلل في المقصود وقيل يتأدى به في الفتوى لا في إحياء العلوم التي تستمد منها الفتوى لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلق فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيا قائما بالفرض منها وهذا على الصحيح في جواز تقليد الميت ثم قد يوجد من المجتهد المقيد استقلال بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة أو باب خاص فيجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا عليها عن إمامه لما يخرجه على مذهبه وعلى هذا العمل وهو أصح فالمجتهد في المذهب أحمد مثلا إذا أحاط بقواعد مذهبه وتدرب في مقاييسه وتصرفاته تنزل من الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه منزلة المجتهد المستقل في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه وهذا أقدر على ذا من ذاك على ذاك فإنه يجد في مذهب إمامه قواعد مميزة وضوابط مهذبة مما لا يجده المجتهد في أصول الشرع ونصوصه وقد سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عمن يفتي بالحديث هل له ذلك إذا حفظ أربعمائة ألف حديث فقال أرجو فقيل لأبي اسحق ابن شاقلا فأنت تفتي ولست تحفظ هذا القدر فقال لكنني أفتي بقول من يحفظ ألف ، ألف حديث يعني الإمام أحمد ثم إن المستفتي فيما يفتيه به من تخريجه هذا مقلد لإمامه لا له وقيل ما يخرجه أصحاب الإمام على مذهبه هل يجوز أن ينسب إليه وأنه مذهبه فيه لنا ولغيرنا خلاف وتفصيل والحاصل أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله كما يتمكن المجتهد من التفريع على ما انعقد عليه الاجماع ودل عليه الكتاب أو السنة أو الاستنباط وليس من شرط المجتهد أن يفتي في كل مسألة بل يجب أن يكون على بصيرة فيما يفتي به بحيث يحكم فيما يدري ويدري أنه يدري بل قد يجتهد المجتهد في القبلة ويجتهد العامي فيمن يقلده ويتبعه ثم تخريجه تارة يكون من نص لإمامه في مسألة معينة وتارة لا يجد لإمامه نصا معينا يخرج منه فيخرج على وفق أصوله وقواعده بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه وعلى شرطه فيفتي بموجبه وجعل هذا مذهبا لإمامه بعيد ثم إن وقع النوع الأول من التخريج في صورة فيها نص لإمامه مخرجا هو فيها بخلاف نصه فيها من نص آخر في صورة أخرى فهي قول مخرج كنصه على حكمين مختلفين في مسألتين متشابهتين في وقتين فيخرج من كل واحدة في الأخرى فيكون له في مسألة قولان قول منصوص وقول مخرج وإن قلنا الأول من قوليه ليس مذهبا له لم يجز النقل والتخريج من المسألة المتقدمة إلى المتأخرة ويجوز عكسه هذا قول الشافعية وأصحابنا وفي جوازه خلاف وتفصيل نذكره آنفا وأكثر الشافعية يطلقون النقل والتخريج من غير تفصيل فيلزم التخريج من المسألة المتقدمة إلى المتأخرة فيكون القديم مذهبا والجديد ليس مذهباً
وإذا وقع النوع الثاني في صورة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك سمي ذلك وجها لمن خرجه ويقال فيها وجهان وقد يخرج بعض الأصحاب في بعض المسائل خلاف نص الإمام فيها على ما يراه دليلا من جنس أدلة الإمام وذلك بين أصحابنا كثير والخلاف هنا اصطلاح لفظي وشرط التخريج المذكور أولا عند اختلاف النصين أن لا يوجد بين المسألتين فرق يؤثر ولا يكون الإمام فرق بينهما أو كان زمن القولين قريبا ولا حاجة في مثل ذلك إلى علة جامعة وهو كإلحاق الأمة بالعبد في العتق ومتى أمكن الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما للفارق والمؤثر واختلفوا في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق وتمام ذلك يأتي إن شاء الله تعالى .
الحالة الثالثة أن لا يبلغ به رتبة أئمة المذاهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريره ونصرته يصور ويجوز ويمهد ويقرر ويزيف ويرجح لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن أطراف من قواعد أصول الفقه ونحوه وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات للإجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها وصنفوا فيها تصانيف بها يشتغل الناس اليوم غالبا ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب وإما في فتاويهم فقد كانوا يتبسطون فيها كتبسط أولئك أو نحوه ويقيسون غير المنقول والمسطور على المنقول والمسطور في المذهب غير مقتصرين في ذلك على القياس الجلي وقياس لا فارق نحو قياس المرأة على الرجل في رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول واستنباط وجه واحتمال وفتاويهم مقبولة أيضاً .
الحالة الرابعة أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه فهذا يعتمد على نقله وفهمه فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم وأما ما يجده منقولا في مذهبه فإن وجد في المنقول ما هذا في معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط ومنقول ممهد في المذهب وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتيا به ومثل هذا يقع نادرا في حق مثل الفقيه المذكور إذ يبعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب ولا هي في معنى بعض المنصوص عليه فيه من غير فرق ولا مندرجة تحت شيء من ضوابط المذهب المحررة فيه ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس لأن تصوير المسائل على وجهها ونقل أحكامها بعده لا يقوم به إلا فقيه النفس ويكفي استحضار أكثر المذهب مع قدرته على مطالعة بقيته قريباً .
القسم الثالث المجتهد في نوع من العلم فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وأن جهل أحاديث النكاح وغيره وقيل يجوز ذلك في الفرائض دون غيرها وقيل بالمنع فيهما وهو بعيد .
القسم الرابع المجتهد في مسائل أو في مسألة وليس له الفتوى في غيرها وأما فيها فالأظهر جوازه ويحتمل المنع لأنه مظنة القصور والتقصير .
فصل فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة فهو عاص آثم لأنه لا يعرف الصواب وضده فهو كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم قال ابن الجوزي يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنوا أمية ومن تصدى للفتيا ظاناً أنه من أهلها فليتهم نفسه وليتق ربه فإن الماهر في علم الأصول أو الخلاف أو العربية دون الفقه يحرم عليه الفتيا لنفسه ولغيره لأنه لا يستقل بمعرفة حكم الواقعية من أصول الاجتهاد لقصور آلته ولا من مذهب إمام لعدم حفظه وإطلاعه عليه على الوجه المعتبر فلا يحتج بقوله في ذلك وينعقد الإجماع دونه على أصح المذهبين وأجاز أبو حنيفة تقليده فيما يفتي به غيره والحكم به ولا وجه له مع جهل المفتي والحاكم وعاميتهما لما سبق آنفا ولا يجوز للمقلد الفتوى بما هو مقلد فيه وقيل إن جهل دليله وقيل يجوز لمن حفظ مذهب ذي مذهب ونصوصه أن يفتي به عن ربه وإن لم يكن عارفا بغوامضه وحقائقه وقيل لا يجوز أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن متبحرا فيه عالما بغوامضه وحقائقه كما لا يجوز للعامي الذي جمع فتاوي المفتين أن يفتي بها وإذا كان متبحرا فيه جاز أن يفتي به والمراد بقول من منع الفتوى به أنه لا يذكره على صورة ما يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى غيره ويحكيه عن إمامة الذي قلده لصحة تقليد الميت كما سبق فعلى هذا من عددناه من أصناف المفتين من المقلدين ليس على الحقيقة من المفتين ولكن قاموا مقامهم وأدوا عنهم فعدوا معهم وسبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلا مذهب أحمد كذا وكذا ومقتضى مذهبه كذا وكذا أو نحو ذلك ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامة إن كان ذلك منه اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال جاز وإذا عرف العامي حكم المسألة ودليلها فقيل يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده فيه لأنه قد وصل إلى العلم به كوصول العالم إليه وقيل يجوز ذلك إن كان دليلها نص كتاب أو سنة وهو ظاهر وظهور دلالة النقلي بخلاف النظري وقيل لا يجوز ذلك مطلقا وهو أظهر وقد سبق نحوه وسيأتي تمامه ولأنه ربما كان له معارض يجهله هو فلو استفتى عامي فقيها في حادثة فأفتاه بشيء فاعتقده مذهبا لم يجز له أن يفتي به ولا لغيره أن يقلده فيه وإن كان معتقدا له لأنه غير عالم بصحته لكن له الاخبار به .
فصل ليس له أن يفتي بما سمع من مفت إنما يجوز أن يعمل هو به ولا يفتي بالحكاية عن غيره بل باجتهاد نفسه لأنه إنما سئل عما عنده ذكره ابن بطة والقاضي وغيرهما منا ومن الشافعية وقد قال عبد الله سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ولا للإسناد القوي من الضعيف فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير ما أحب من متنه فيفتي ويعمل به قال لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح يسأل عن ذلك أهل العلم .
فصل ومن تفقه وقرأ كتاباً أو كتباً من المذهب وهو قاصر لم يتصف بصفة بعض المفتين المذكورين فللعامي أن يقلده إذا لم يجد غيره في بلده وقريباً منه وإن كان يقدر على السفر إلى مفت لزمه وقيل إذا خلت البلدة عن مفت حرم السكنى فيها فإن شق السفر عليه ذكر مسألته للقاصر المذكور فإن وجدها مسطورة وهو ممن يقبل خيره أخبره به بعينه وكان المستفتي له مقلدا لصاحب المذهب لا للحاكي له وإن لم يجدها فليس له أن يقيسها على ما عنده من المسطور وإن اعتقده مثل قياس الأمة على العبد في العتق لأنه يعرض لأن يعتقد ما ليس من هذا القبيل دليلا فيه .
فصل فإن لم يجد العامي من يسأله عنها في بلده ولا غيره فقيل له حكم ما قبل الشرع على الخلاف في الحظر والإباحة والوقف وهو أقيس لما روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسري على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها فقال صلة بن زفر لحذيفة ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة فردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال يا صلة تنجيهم من النار تنجيهم من النار تنجيهم من النار رواه ابن ماجه في السير والحاكم أبو عبد الله في صحيحه وقال هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه .
باب بقية أحكام المفتي وآدابه وما يتعلق به تصح فتيا العبد والمرأة والغريب والأمي والأخرس المفهوم بالإشارة أو الكتابة وتصح مع جر النفع ودفع الضرر وكذا من العدو وقيل لا كالحاكم والشاهد ولا تصح من فاسق لغيره وإن كان مجتهدا لكن يفتي نفسه ولا يسأله غيره وأما مستور الحال فتجوز فتياه وقيل لا وقيل تجوز إن اكتفينا بالعدالة الظاهرة وإلا فلا .
فصل من كان من أهل الفتيا قاضيا فهو كغيره وقيل يكره للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به دون الطهارة والصلاة ونحوهما وقد قال شريح أنا أقضي لكم ولا أفتي ولأنه يصير كالحكم منه على الخصم فلا يمكن نقضه وقت المحاكمة إذا ترجح عنده ضده أو حجته أو قرائن حالهما .
فصل إذا سأل عامي عن مسألة لم تقع لم تجب إجابته لكن تستحب وقيل يكره لأن بعض السلف كان لا يتكلم فيما لم يقع وقال أحمد لبعض أصحابه إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام وقلت إن كان غرض السائل معرفة الحكم لاحتمال أن يقع له أو لمن سأل عنه فلا بأس وكذا إن كان ممن ينفعه في ذلك ويقدر وقوع ذلك ويفرع عليه .
فصل فإن أفتى المفتي بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي به ولم يكن عمل بالأول حرم عمله به ولو نكح بفتواه واستمر على النكاح ثم رجع باجتهاد لزمه مفارقتها في الأقيس لأن المرجوع عنه ليس مذهبا له في الأصح كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في أثناء صلاته فإنه يتحول معه في الأصح وإن كان المستفتي قد عمل به قبل رجوعه وكان مخالفا لدليل قاطع لزمه نقض عمله ذلك والرجوع إلى قوله الثاني وإن اختلف اجتهاده ولم يرجع لم ينقض عمله بالأول وإن لم يكن عمل به تركه وإن لم يعلم برجوعه استمر كما لو كان ولا يلزمه إعلامه وقيل بلى لأن ما رجع عنه لا يعمل هو به فكذا من قلده فيه لأنه ليس مذهبا له في الأصح قال القاضي أبو يعلى في الكفاية من أفتى بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده لم يلزم إعلام المستفتي بذلك إن كان قد أعلم به وإلا أعلمه بتغير مذهبه الذي اتبعه فيه وقال غيره يعلمه به قبل العلم وكذا بعده حيث يجب النقض وإلا فلا وإذا كان المفتي إنما يفتى على مذهب إمام معين فإذا رجع لكونه بأن له قطعا أنه خالف في فتواه نص مذهب إمامه وجب نقضه وإن كان عن اجتهاد لأن نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل .
فصل إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف ثم بأن خطؤه بمخالفة القاطع ضمنه المفتي وإن لم يكن أهلا للفتوى لم يضمن لتقصير المستفتي في تقليده وقيل يضمن لأنه تصدى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك .
فصل يحرم التساهل في الفتوى واستفتاء من عرف بذلك إما لتسارعه قبل تمام النظر والفكر أو لظنه أن الإسراع براعة وتركه عجز ونقص فإن سبقت معرفته لما سئل عنه قبل السؤال فأجاب سريعا جاز وإن تتبع الحيل المحرمة كالسريجية أو المكروهة أو الرخص لمن أراد نفعه أو التغليظ على من أراد مضرته فسق وإن حسن قصده في حيلة لا شبهة فيها ولا تقتضي مفسدة ليتخلص بها المستفتي من يمين صعبة أو نحوها جاز لقوله تعالى لأيوب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث لما حلف ليضربن امرأته مئة جلدة وقد قال سفيان الثوري إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد .
فصل ويحرم التحيل لتحليل الحرام وتحريم الحلال بلا ضرورة لأنه مكر وخديعة وهما محرمان لقول الله تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقوله تعالى ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وقوله تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ولقول النبي صلى الله عليه وسلم ملعون من ضار مسلما أو مكر به رواه مسلم ولقوله عليه السلام المكر والخديعة في النار ولقوله عليه السلام لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل ذكره ابن بطة ولقوله عليه السلام ما بال أقوام يلعبون بحدود الله تعالى ويستهزؤون بآياته خلعتك راجعتك طلقتك راجعتك رواه ابن ماجه وابن بطة وفي لفظ طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك وقوله عليه السلام لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها حديث صحيح وجملوها بمعنى أذابوها وقال ابن عباس من يخدع الله يخدعه وقال الإمام أحمد هذه الحيل التي وضعها هؤلاء عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها أتوا إلى الذي قيل لهم إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه وقال إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها فقد صار إلى ذلك الذي حلف عليه بعينه وقال من احتال بحيلة فهو حانث وقال ما أخبثهم يعني أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصل ليس له الفتوى في حال شغل قلبه ومنعه التثبت والتأمل لغضب أو جوع أو عطش أو غم أو هم أو خوف أو حزن أو فرح غالب أو نعاس أو ملل أو مرض أو حر مزعج أو برد مؤلم أو مدافعة الأخبثين أو أحدهما وهو أعلم بنفسه فمتى أحسن باشتغال قلبه وخروجه عن حال اعتداله أمسك عن الفتيا فإن أفتى في شيء من هذه الأحوال وهو يرى أن ذلك لا يمنعه من إدراك الصواب صحت فتياه وإن خاطر بها فالترك أولى في الحكم خلاف وتفصيل .
فصل الأولى التبرع بالفتيا وله أخذ الرزق من بيت المال وإن تعين على ذلك وله كفاية تامة احتمل المنع والجواز فإن كان اشتغاله بها وبما يتعلق بها يقطعه عما يعود به على حاله فله الأخذ وإذا كان له رزق من بيت المال لم يجز له أخذ أجرة وإن لم يكن له رزق منه لم يأخذ أجرة من أعيان من يفتيه وقيل لو قال للمستفتي إنما يلزمني أن أفتيك بقولي وأما بخطي فلا فله أخذ الأجرة على خطه وقيل لو اجتمع أهل بلد على أن يجعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم جاز وهو بعيد وأما الهدية له فله قبولها وقيل يحرم إذا كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد قلت أو يكون له فيه نفع من جاه أو مال فيفتيه لذلك بما لا يفتي به غيره ممن لا ينتفع به كنفع الأول .
فصل ولا يفتي في الأقارير والإيمان ونحو ذلك مما يتعلق باللفظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ بإقرار أو يمين أو غيرهما أو خبيرا به عارفا بتعارفهم في ألفاظهم فإن العرف قرينة حالية يتعين الحكم بها ويختل مراد اللافظ مع عدم مراعاتها وكذا فقد كل قرينة تعين المقصود كما يأتي بيانه .
فصل من كانت فتياه نقلا من مذهب إمامه واعتمد على كتاب يوثق بصحته جاز كاعتماد الراوي على كتابه والمستفتي على ما يكتبه المفتي وقد تحصل له الثقة بما يجده في كتاب غير موثوق به بأن يجده في نسخ أخر كذلك وقد تحصل الثقة بما يجده في نسخة غير موثوق بها بأن يراه كاملا منتظما وهو خبير فطن لا يخفى في الغالب عليه مواقع للإسقاط والتغيير وإذا لم يجده إلا في موضع لم يثق بصحته نظر فإن وجوه موافقا لأصول المذاهب وهو أهل لتخريج مثله على المذهب أو لم يجده منقولا فله أن يفتي به فإن أراد أن يحكيه عن إمامة فلا يقل قال أحمد كذا وكذا بل وجدت عنه كذا وكذا أو بلغني أو نحو ذلك من الألفاظ وإن لم يكن أهلا لتخريج مثله لم يجز له ذلك منه ولم يذكره بلفظ جازم مطلق فإن سبيل مثله النقل المحض ولم يحصل له ما يجوز له مثل ذلك ويجوز له أن يذكره في غير مقام الفتوى مفصحا بحاله فيه فيقول وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني أو من كتاب فلان ولا أعرف صحته أو وجدت عن فلان كذا وكذا أو بلغني عنه كذا وما ضاهى ذلك من العبارات فلا يجوز لعامي أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء .
فصل إذا أفتى في حادثة ثم وقعت له مرة أخرى فإن كان ذاكراً مستنده فيها أفتى به وإن ذكرها دون مستندها ولم يظهر له ما يوجب رجوعه عنها لم يفت به حتى يجدد النظر وقيل بلى لأن الأصل بقاؤه على ذلك الاجتهاد والأولى أنه لا يفتي بشيء حتى يجدد النظر في دليله بكل حال ومن لم تكن فتواه حكاية عن غيره فلا بد من استحضار الدليل فيها .
فصل قول الشافعي رضي الله عنه إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلته وقوله إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث وقلت قولا فأنا راجع عن قولي قائل بذلك الحديث وفي لفظ فاضربوا بقولي الحائط صريح في مدلوله وإن مذهبه ما دل عليه الحديث لا قوله المخالف له فيجوز الفتوى للحديث على أنه مذهبه وليس لكل فقيه أن يعمل بما رآه حجة من الحديث حتى ينظر هل له معارض أو ناسخ أم لا أو يسأل من يعرف ذلك ويعرف به وقد ترك الشافعي العمل بالحديث عمدا لأنه عنده منسوخ لما بينه وقد قيل لابن خزيمة هل تعرف سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه قال لا فمن وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه فإن كلمت آلة الاجتهاد فيه مطلقا أو في مذهب إمامه أو في ذلك النوع أو في تلك المسألة فله العمل بذلك الحديث وإن لم تكمل آلته ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابا شافيا فلينظر هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل أم لا فإن وجده فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث ويكون ذلك عذرا له في ترك مذهب إمامه في ذلك وقد ذهب الشافعية إلى أن مذهب الشافعي أن الصلاة الوسطى صلاة العصر وأن للمغرب وقتين للأحاديث الواردة فيهما وهو مذهب أحمد وغيره .
فصل وهل للمفتي المنتسب إلى مذهب أن يفتي بمذهب آخر أم لا فإن كان مجتهدا فأداه اجتهاده إلى مذهب إمام آخر تبع اجتهاده وإن كان اجتهاده مقيدا مشوبا بشيء من التقليد نقل ذلك الشوب من التقليد إلى ذلك الإمام الذي أداه اجتهاده إلى مذهبه ثم إذا أفتى بين ذلك في فتياه ولهذا قال القفال : لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة قلت مذهب الشافعي كذا لكني أقول بمذهب أبي حنيفة لأنه جاء السائل يستفتي على مذهب الشافعي فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره وإن لم يكن كذلك بنى على اجتهاده فإن ترك مذهبه إلى مذهب هو أسهل منه وأوسع فالمنع أصح وإن تركه لكون الآخر أحوط المذهبين فالظاهر جوازه ثم عليه بيان ذلك في فتواه كما سبق .
فصل ليس لمن انتسب إلى مذهب إمام في مسألة ذات قولين أو وجهين أن يتخير فيعمل أو يفتي بأيهما شاء بل إن علم تاريخ القولين عمل بالمتأخر إن صرح قائلهما برجوعه عن الأول ولا عبرة بغير ذلك وكذا إن أطلق القول وقيل يجوز العمل بأحدهما إذا ترجح على أنه مذهب لقائلهما كسا يأتي لأن كل واحد منهما قاله بدليل وإن ذكرهما قائلهما معا ورجح أحدهما تعين وإن لم يرجح أحدهما أو جهل الحال هل قالهما معا أم لا عمل بالأرجح على الأصح للأشبه بقواعد الإمام وأصوله كما يأتي هذا إن كان مجتهدا في مذهبه أهلاً للترجيح وإن لم يكن أهلاً فليأخذه عن بعض أئمة المذهب فإن لم يجده توقف ولا بد في الوجهين من ترجيح أحدهما ومعرفة أصحهما عند الفتوى والعمل بمثل الطريق المذكور ولا عبرة بالتقدم والتأخر وسواء وقعا معا أو لا من إمام أو إمامين لأنهما نسبا إلى المذهب نسبة واحدة وتقدم أحدهما لا يجعله بمنزلة تقدم أحد القولين من صاحب المذهب ولأن ذلك أيضا من قبيل اختلاف المفتيين على المستفتي بل كل ذلك اختلاف راجع الى شخص واحد وهو صاحب المذهب فليلحق باختلاف الروايتين عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يتعين العمل بأصحهما عنه وأصرحهما وأوضحهما وإن كان أحد الرأيين منصوصا عليه وللآخر مخرجا فالظاهر أن الذي نص عليه منهما يقدم كما يقدم ما يرجحه من القولين المنصوصين على الآخر لأنه أقوى نسبة منه إلا إذا كان القول المخرج مخرجا من نص آخر لتعذر الفارق ومن يكتفي بأن يكون في فتياه أو عمله موافق لقول أو وجه في المسألة ويعمل بما شاء من الأقوال أو الأوجه من غير نظر في الترجيح ولا يقتدى به فقد جهل وخرق الاجماع وقد حكي عن بعض الفقهاء المالكية أنه قال الذي علي لصديقي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه ووقعت لرجل واقعة فأفتى فيها جماعة بما يضره فلما عاد وسألهم قالوا ما علمنا أنها لك وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه وذلك يفعلونه لقلة خيرهم وكثرة نفاقهم ولا خلاف في تحريم ذلك بين العلماء وقد قال مالك ليس كل ما فيه توسعة قلت لا توسعة فيه يعني أن اختلافهم يدل على أن للاجتهاد مجالا في ما بين أقوالهم وإن ذلك مما ليس يقطع فيه بقول واحد متعين لا مجال للاجتهاد في خلافه وقال في اختلاف الصحابة منهم مخطئ ومصيب فعليك بالاجتهاد قلت ويتعين العمل بالأرجح من أقوال الصحابة في كل مسألة اختلفوا فيها وما فيها قول واحد لأحدهم ولم يشتهر بينهم أخذ به من يرى تقليدهم وإن اشتهر فلم ينكر فبطريق الأولى وهو عند أصحابنا إجماع سكوتي وفيه لبقية العلماء خلاف مشهور .
فصل إذا اعتدل عند المفتي قولان وقلنا يجوز ذلك فقد قال القاضي أبو يعلى له أن يفتي بأيهما شاء كما يجوز أن يعمل المفتي بأي القولين شاء وقيل أنه يخير المستفتي لأنه إنما يفتيه بما يراه والذي يراه التخيير على قول من قال بالتخيير وإن قلنا يمتنع تعارض الإمارات وتعادلها تعين الأحوط من القولين وإن أفتاه بقول مجمع عليه لم يخيره في القبول منه وإن كان فيه خلاف خيره بين القبول منه أو من غيره قبل العمل أما إن قلنا كل مجتهد مصيب فظاهر وأما إن قلنا المصيب واحد فلأنه غير متعين منهما كتخيير الإمام أحمد من أفتاه بالطلاق بين قوله له وبين قول من يفتيه بخلافه فلا يلزمه أن يخبره صريحا بذلك .
فصل إذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح بالدليل اختلافا بين أئمة المذاهب في الأصح من القولين أو الوجهين فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بآرائهم فيعمل بقول الأكثر والأعلم والأورع فإذا اختص واحد منهم بصفة منها والآخر بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة فالأعلم الأورع مقدم على الأورع العالم كما قلنا في الترجيح عند تعارض الأخبار في صفاة الرواة وكذلك إذا وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد من أئمته بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما وقائليهما ويرجح ما وافق منهما أئمة أكثر المذاهب المتبوعة أو أكثر العلماء وقد قال القاضي حسين بن محمد الشافعي إذا اختلف قولا الشافعي في مسألة وأحد القولين موافق مذهب أبي حنيفة ولم يترجح أحدهما ظاهرا بشيء فأيهما أولى بالفتوى فقيل المخالف لأنه إنما خالفه لمعنى خفي علينا وقيل بل الموافق للتعاضد والموافقة في الاجتهاد ودليله وقيل الأولى الترجيح بالمعنى لا بموافقة ولا بمخالفة وهذه التراجيح معتبرة بالنسبة إلى أئمة المذاهب وما رجحه الدليل مقدم عندهم وهو أولى .
فصل كل مسألة فيها لإمام روايتان أو قولان جديد وقديم فالفتوى من أتباعه على الجديد المتأخر على الأصح إلا في عشرين مسألة للشافعي فإن الفتوى فيها على القديم منها مسألة التثويب في أذان الفجر ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير وأنه لا تستحب قراءة السورة بعد الركعتين الأوليين فيكون اختيارهم للقديم كاختيارهم لمذهب غير الشافعي إذا أداهم إليه اجتهادهم إذ القديم لم يبق مذهبا له لرجوعه عنه لما سبق وبل أولى لكون القديم قد كان قولا منصوصا ويلتحق بذلك ما إذا اختار أحدهم القول المخرج على القول المنصوص أو اختار من القولين اللذين رجح الشافعي أحدهما على غير ما رجحه وبل أولى من القول
القديم ثم حكم من لم يكن أهلا للتخريج من المتبعين لمذهب الشافعي مثلا أن لا يتبع شيئا من اختياراتهم هذه المذكورة لأنهم مقلدون للشافعي دون من خالفه
وكذا الكلام بين الإمام أحمد وأصحابه إن قلنا أول قوليه في مسألة ليس مذهبا له وإلا فلا .
فصل إذا اقتصر المفتي في جوابه على ذكر الخلاف وقال فيها روايتان أو قولان أو وجهان أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح فإنه لم يفت فيها بشيء وإذا لم يذكر خلافا فلا شيء عليه إذا حصل غرض السائل من الجواب بنفي أو إثبات وإن سأله عن الخلاف ذكره فربما أراد أن يعلم أنه لا إجماع في ذلك ليمكن تقليد غير إمامه .
فصل ليس له أن يفتي في شيء من مسائل الكلام مفصلا بل يمنع السائل وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلا ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان المجمل من غير تفصيل وأن يقولوا فيها وفيما ورد من الآيات والأخبار المتشابهة إن الثابت فيها في نفس الأمر كل ما هو اللائق فيها بالله تعالى وبكماله وعظمته وجلاله وتقديسه من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تكييف ولا تأويل ولا تفسير ولا تعطيل وليس علينا تفصيل المراد وتعيينه وليس البحث عنه من شأننا في الأكثر بل نكل علم تفصيله إلى الله تعالى ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا فهذا ونحوه هو الصواب عند أئمة الفتوى وهو مذهب السلف الصالح وأئمة المذاهب المعتبرة وأكابر العلماء منا ومن غيرنا وهو أصوب وأسلم للعامة وأشباههم ممن يدخل قلبه بالخوض في ذلك ومن كان منهم قد اعتقد اعتقاداً باطلاً مفصلاً ففي إلزامه بهذا الطريق صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة فقد تأسى بعمر ابن الخطاب رضي الله عنه في تعزيره صبيغ بن غسل الذي كان يسأل عن المتشابهات وعلى ذلك المتكلمون من الشافعية معترفون بصحة هذه الطريقة وأنها أسلم لمن سلمت له حتى الغزالي أخيرا فإنه قال كل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين بل من المضلين وهو كمن يدعو صبيا يجهل السباحة إلى خوض البحر وقال الصواب للخلق إلا النادر سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل وما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بلا بحث وتفتيش وقال وفي الاشتغال بالفتوى شغل شاغل وقال في التفرقة في حق عوام الخلق إن الحق فيه والإتباع الكف عن تغيير الظواهر رأسا والجور عن إبداع تأويلات لم يصرح بها الصحابة وحسم باب السؤال رأسا والزجر عن الخوض في الكلام والبحث واتباع ما تشابه من الكتاب والسنة الثائر بين النظار الذين اضطربت عقائدهم المأثورة المشهورة الموروثة وينبغي أن يكون بحثهم بقدر الضرورة وتركهم للظاهر لضرورة البرهان القاطع وقال فيها أيضا من الناس من يبادر إلى التأويل ظنا لا قطعا فإن كان فتح هذا الباب والتصريح به يؤدي إلى تشويش قلوب العوام بدع به صاحبه وكل ما لم يؤثر عن السلف ذكره وما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع وقال فيها أيضا كل ما يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ولم يتصور أن يقوم على خلافه برهان فمخالفته تكذيب محض وما تطرق إليه احتمال تأويل ولو بمجال بعيد فإن كان برهانه قاطعا وجب القول به لكن إن كان في إظهاره مع العوام ضرر لقصور إفهامهم فإظهاره بدعة وإن كان البرهان يفيد ظنا غالبا ولا يعظم ضرره في الدين فهو بدعة وإن عظم ضرره فهو كفر وفيه احتمال قال ولم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه المحادثات بل شددوا القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال وقال فيها أيضا الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها ويؤكده ملازمة العبادة والذكر فإن كلام المتكلمين يشعر السامع أن فيه صنعة يعجز عنها العامي لا أنه حق وربما كان ذلك سبب عناده وقال شيخه أبو المعالي يحرص الإمام ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك وقال الصيمري : أجمع أهل الفتوى على أن من عرف بها لا ينبغي أن يضع خطه بفتوى في مسألة كلام كالقضاء والقدر وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة ونقل ابن عبد البر الامتناع من الكلام في ذلك عن الفقهاء العلماء قديما وحديثا من أهل الفتوى والحديث قال وإنما خالف في ذلك أهل البدع وقيل إن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب مفضلا بأن يكون جوابها مختصرا مفهوما فيما ليس له أطراف يتجاذبها إليهم المتنازعون والسؤال عنه صادر من مسترشد خاص منقاد أو من عامة قليلة التنازع والمماراة والمفتي ممن ينقادون لفتياه ونحو هذا وعلى هذا ونحوه يخرج ما جاء عن بعض السلف من الفتوى في بعض المسائل الكلامية وذلك منهم قليل نادر وقد ورد في ذم الكلام عن السلف والخلف شيء كثير مشهور حتى أن شيخ الإسلام الأنصاري جمع من ذلك مجلداً وقد قال أحمد لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء إلا ما كان في كتاب الله أو سنة رسوله وقال كنا نؤمر بالسكوت فلما دعينا إلى الكلام تكلمنا يعني زمن المحنة للضرورة في دفع شبههم لما ألجئ إلي ذلك وقال لا يكون الرجل من أهل السنة حتى يدع الجدال وأن أراد به السنة وقال من ارتدى بالكلام لم يفلح وقال لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة وقال مالك ليس من السنة أن تجادل عن السنة بل السنة أن تخبر بها فإن سمعت منك وإلا سكت وإذا كان هذا حال متكلمي الشافعية وغيرهم فكيف نحن ومن يتبع الآثار وقال بعض العلماء الناس يكتبون أحسن ما يسمعون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويتحدثون بأحسن ما يحفظون وقال النبي صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء كذبا أو إثما أن يحدث بكل ما سمع فما كان يعلمه الإنسان ينبغي أن لا يعلم به من ليس أهلا له ولا يأمن عليه من ضرر أو على غيره بسببه وأكثر أهل السنة يعرفون اليسير منه ولا ينتمون إليه ولا يدلون الناس عليه ولا يدعونهم إليه وقد قال الشافعي : حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل بالكلام أو معنى ذلك وقال لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء لأن يبتلى المرء بكل شيء نهي عنه غير الكفر أهون من أن يبتلي به أو نحو ذلك وعلم الكلام المذموم هو أصول الدين إذا تكلم فيه بالمعقول المحض أو المخالف للمنقول الصريح فإن تكلم فيه بالنقل فقط أو بالنقل والعقل الموافق له فهو أصول الدين وطريقة أهل السنة وعلم السنة وأهلها واجتناب الجواب في جميع المسائل المتعلقة بذلك لغير المسترشد أولى وأسلم في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى أن الخطأ في أصول الدين إما كفر أو فسق وليس ذلك هيناً وقد قال الغزالي أخيرا الخوض في الكلام حرام لكثرة الآفة فيه إلا الرجل وقعت له شبهة ليست تزول بكلام قريب وعظي ولا بحديث نقلي فيجوز أن يكون القول المرتب الكلامي رافعا شبهته ودواء له من مرضه فيستعمل معه ويحرس عنه سمع الصحيح الذي ليس كذلك أو لرجل كامل العقل راسخ القدم في الدين ثابت الإيمان كأنوار اليقين يريد أن يحصل هذا العلم ليداوي به مريضا إذا وقعت له شبهة ويفحم به مبتدعا إذا نبغ وليحرس به معتقدة إذا قصد مبتدع أن يغويه فتعلم ذلك لهذا الغرض فرض كفاية وتعلم قدر ما يزيل به الشك والشبهة في حق المشكك فرض عين إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه فمن وقعت له شبهة جاز جوابه إذا أمن عليه وعلى غير من التشويش
فصل لا يجوز التقليد فيما يطلب فيه الجزم ولا إثباته بدليل ظني لأنه لا يحصل بهما فلا يجوز التقليد في معرفة الله تعالى وتوحيده وصفاته ولا في نبوة رسله وتصديقهم فيما أتوا به وغير ذلك مما يشترك في وجوب معرفته كل مكلف قبل النظر في المعجزة وثبوت النبوة بها قاله القاضي أبو يعلى وأصحابه كلهم كأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهما وابن الجوزي وسائر المتميزين منا ومن غيرنا وهو المشهور المنصور عند الأصحاب وغيرهم لأنه قد لا يستدل عليه إلا بالعقل الذي يشترك فيه المكلفون فيصير كل مكلف مجتهدا في ذلك لاشتراكهم في العقل الذي تعرف به هذه الأشياء وغيرها فلم يجز لبعضهم تقليد بعض كالعلماء الذين لا يجوز لبعضهم تقليد بعض لاشتراكهم في آلة الاجتهاد والتقليد هو الأخذ بقول الغير من غير حجة ملزمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم حجة فليس الأخذ به تقليدا قاله الشيخ موفق الدين المقدسي رحمه الله وغيره وإذا ثبتت النبوة بالمعجزة وجب اتباع الرسول وتصديقه فيما جاء به لقيام الدليل على وجوب ذلك والله أعلم .
وقد قال أصحابنا وغيرهم أن المعلوم إما أن يعلم بالشرع أو العقل أو بهما فما يتوقف عليه الشرع لا يتوقف على الشرع بل يعلم بدونه وتفصيل ذلك وتحريره وتقريره في أصول الفقه والدين .
فصل وأدلة منع التقليد بوجوب النظر في الكتاب كثيرة ، وقد قال ابن مسعود ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن ،آمن وإن كفر ، كفر وقال ألا لا يوطنن أحدكم نفسه إن كفر الناس أن يكفر وقال لا يكن أحدكم إمعة يقول إنما أنا رجل من الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن نفسه إن كفر الناس أن يكفر وقال أحمد من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده وقال لرجل لا تقلد دينك أحدا وعليك بالأثر و قال المفضل بن زياد لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا ولأن الأمة أجمعت على أن المكلف لا بد له من اعتقاده جازم والتقليد لا يفيده كما سبق وقد استوفينا الكلام في ذلك في المرتضى وغيره .
فصل ويجوز التقليد فيما يطلب فيه الظن من الأحكام الشرعية وإثباتها بدليل ظني وكل حكم يثبت بدليل ظني فهو اجتهادي إذ لا اجتهاد مع القطع فإن الاجتهاد بذل الوسع في طلب الحكم الشرعي بدليله وقيل يجب التقليد في الأحكام الشرعية الفروعية العملية المعروفة بالدليل إذا لم يعلم بالضرورة أنها من الدين وما علمنا بالضرورة أنه من الدين فلا تقليد فيه كما سبق وإن كان من الفروع ودليل وجوب التقليد فيها قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر في الذي أصابته الشجة وهو جنب فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة فقالوا لا نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات قتلوه قاتلهم الله أو قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال رواه أبو داود وغيره إذ لو منع كل الناس من التقليد وكلفوا معرفة الأحكام بدليل تعين فرض العلم على الكافة وتعطلت المعايش وفسد النظام والجهاد وكثير من أمر الدين والدنيا وقد دل على أنه فرض كفاية قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون لأن في ذلك عسراً أو حرجا ينتفيان بقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم وقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار في الإسلام رواه مالك وغيره ولو جاز للكل التقليد بطل الاجتهاد وسقط فرض التعلم والتعليم واندرس العلم وإنما طلب العلم بالأحكام الشرعية الفروعية فرض كفاية ليكون الباقون تبعا ومقلدين له والآية المذكورة لم تسقط الاجتهاد عن الكل ولا أوجبته على الكل بل على البعض وهو المدعى .
فصل يجب إتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما شرعه وأمر به ونهى عنه وتصديقه فيما أخبر به لثبوت عصمته وصدقه ولزوم طاعته وإتباعه فيما عرف في أماكنه من الأصول وغيرها و قال الشيخ أبو محمد المقدسي وبعض الشافعية ليس الأخذ بقوله عليه السلام تقليدا لأن قوله حجة لما سبق وعرف في مواضعه والتقليد أخذ السائل بقول من قلده بلا حجة ملزمة له يعرفها كما سبق ويجوز تقليد أهل الإجماع فيه بل يجب ويمكن أن يقال الأخذ به ليس تقليدا لأنه حجة كما قلنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم وأما أقوال الصحابة ومذاهبهم ففيه مذهبان أصحهما أنه حجة يجوز إتباعهم فيها وقيل إذا خالفت القياس وهل يكون تقليدا على ما تقدم من الكلام والظاهر أنه تقليد ممن دونهم إن قلنا ليسا بحجة فلا يقلدون وهو بعيد وللجاهل تقليدهم بشرطه كبقية الأئمة ولا اعتبار بقول الغزالي في المنخول يجب تقليد الشافعي ولا يجوز تقليد أبي بكر وعمر لقوله عليه السلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ويجوز التقليد في الأخبار لمن هو من أهل الرواية والفقه والخبرة ولا تكفي عدالته ولا عدالة المفتي بل لا بد من معرفة أهليتهما لذلك وقيل يجب التقليد في الأخبار للصدوق من أهل الرواية والخبرة لدعوة الحاجة إليه فيما غاب عنا لعدم الدلالة عليه إذ عدالة المخبر ليست دليلا على صحة الخبر كما أن عدالة العلم ليست دليلا على صحة فتياه وإنما الدليل اختص بالقول المنقول من حكم أو خبر لا ما اختص بالقائل من عدالة وصدق ويجوز تقليد المفضول مع وجود الفاضل وإمكان سؤاله وقيل لا يجوز فلو استفتى فقيها فلم تسكن نفسه إليه سأل ثانيا وثالثا حتى تسكن نفسه وعلى الأول يكفي الأول والأولى الوقوف مع سكون النفس لقوله صلى الله عليه وسلم استفت نفسك وإن أفتوك وأفتوك وقوله دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله الإثم ما حاك في النفس وقوله الإثم جواز القلوب فإن حصل السكون والطمأنينة بقول واحد وإلا زاد ليحصل ذلك .
باب كيفية الاستفتاء والفتوى وما يتعلق بهما إذا لزم المفتي الجواب لزمه بيانه إما شفاها أو كتابة فإن جهل لسان السائل أجزأته ترجمة واحد ثقة لأنها خبر ويكره أن يكون السؤال بخطه لا بإملائه وتهذيبه وفيهم من كان يكتب السؤال على ورقة من عنده ثم يكتب الجواب فإن كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب وله أن يستفصل السائل إن حضر ويقيد السؤال في رقعة الاستفتاء ثم يجيب عنه وهو أولى وأسلم وليس له أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل ولكن يقول هذا إذا كان كذا وكذا وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم وقيل هذا ذريعة إلى تعليم الناس الفجور وفتح باب التمحل والتحيل الباطل ولأن ازدحام الأقسام بأحكامها على فهم العامي يكاد يضيعه وإذا لم يجد المفتي من يستفتوه في ذلك احتاج إلى التفصيل فليتثبت وليجتهد في استيفاء الأقسام وأحكامها وتحريرها
فصل فإن كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به المفتي في التفهم منه والتفهم له ويستر عليه ويحسن الإقبال نحوه ويتأمل ورقة الاستفتاء مرارا لا سيما آخرها ويسأل المفتي عن المشتبه وينقطه ويشكله لمصلحته ومصلحة من يفتي بعده وإن رأى لحنا فاحشا أو خطأ يحيل المعنى أصلحه لأن قرينه الحال تقتضي ذلك فإن صاحب الورقة إنما قدمها إليه ليكتب فيها ما يرى وهذا منه وكذا إن رأى بياضا في أثناء بعض الأسطر أو في آخرها خط عليه وشغله كما يفعل الشاهد في كتب الوثائق ونحوها لأنه ربما قصد المفتي أحد بسوء فكتب في ذلك البياض بعد فتواه ما يفسدها .
فصل يستحب أن يقرأ ما في الورقة على الفقهاء الحاضرين الصالحين لذلك ويشاورهم في الجواب ويباحثهم فيه وإن كانوا دونه وتلامذته إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح إلا أن يكون فيها ما لا يحسن إبداؤه أو ما لعل السائل يؤثر ستره أو ما في إشاعته مفسدة لبعض الناس فينفرد هو بقراءتها وجوابها .
فصل فإن كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به المفتي في التفهم منه والتفهم له ويستر عليه ويحسن الإقبال نحوه ويتأمل ورقة الاستفتاء مرارا لا سيما آخرها ويسأل المفتي عن المشتبه وينقطه ويشكله لمصلحته ومصلحة من يفتي بعده وإن رأى لحنا فاحشا أو خطأ يحيل المعنى أصلحه لأن قرينه الحال تقتضي ذلك فإن صاحب الورقة إنما قدمها إليه ليكتب فيها ما يرى وهذا منه وكذا إن رأى بياضا في أثناء بعض الأسطر أو في آخرها خط عليه وشغله كما يفعل الشاهد في كتب الوثائق ونحوها لأنه ربما قصد المفتي أحد بسوء فكتب في ذلك البياض بعد فتواه ما يفسدها .
فصل يستحب أن يقرأ ما في الورقة على الفقهاء الحاضرين الصالحين لذلك ويشاورهم في الجواب ويباحثهم فيه وإن كانوا دونه وتلامذته إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح إلا أن يكون فيها ما لا يحسن إبداؤه أو ما لعل السائل يؤثر ستره أو ما في إشاعته مفسدة لبعض الناس فينفرد هو بقراءتها وجوابها .
فصل ينبغي أن يكتب الجواب بخط واضح وسط ولفظ واضح حسن تفهمه العامة ولا تستقبحه الخاصة ويقارب سطوره وأقلامه وخطه لئلا يزور أحد عليه ثم ينظر الجواب بعد سطره .
فصل وإذا ابتدأ بالإفتاء كتب في جانبها الأيسر إن شاء لأنه أمكن وإن كتب في الأيمن أو أسفل جاز وأن ترفع فيها كره لا سيما فوق البسملة وأكثر من يفتي يقول الجواب وبالله التوفيق وحذف ذلك آخرون والأولى أن يكتب فيما طال من المسائل ويحذف فيما سوى ذلك ويختم الجواب بقوله وبالله التوفيق أو والله الموفق أو والله أعلم وكان بعض السلف يقول إذا أفتى إن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه الكلالة من لا ولد له ولا والد ويكره في هذا الزمان لأنه يضعف نفس السائل ويدخل قلبه الشك في الجواب وليس يصح منه أن يقول الجواب عندنا أو الذي عندنا أو يقول والذي نراه كذا وكذا لأنه من جملة أصحاب وأرباب مقالته وكان مالك ومكحول لا يفتيان حتى يقولا لا حول ولا قوة إلا بالله وقيل يقول المفتي أيضا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ففهمناها سليمان الآية رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . لا حول ولا قوة إلا بالله اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسائر النبيين والصالحين وسلم اللهم وفقني وأهدني وسددني وأجمع لي بين الصواب والثواب وأعذني من الخطأ والحرمان آمين وإن لم يأت بذلك عند كل فتوى فليأت بها عند أول كل فتيا يفتيها في يومه لما يفتيه في سائر يومه مضيفا إليها قراءة الفاتحة وآية الكرسي وما تيسر فإن من ثابر على ذلك كان حقيقا بأن يكون موفقا في فتاويه وإن تركه جاز وقد قيل للإمام أحمد ربما اشتد علينا الأمر من جهتك فلمن نسأل بعدك فقال سلوا عبد الوهاب الوراق فإنه أن يوفق للصواب .
فصل وعلى المفتي أن يختصر جوابه فيكتفي فيه بأنه يجوز أو لا يجوز أو حق أو باطل ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج ليفرق بين الفتيا والتصنيف ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير ولصار المفتي مدرساً ولكل مقام مقال وقد قيل لبعض الفقهاء أيجوز كذا فكتب لا وقيل الجواب بنعم أو لا ، لا يليق بغير العامة وإنما يحسن منه الاقتصار الذي لا يخل بالبيان المشترط عليه دون ما يخل به فلا يدع إطالة لا يحسن البيان بدونها فإذا كانت فتياه فيما يوجب القود أو الرجم مثلا فليذكر الشروط التي يتوقف عليها القود والرجم وإذا استفتي فيمن قال قولاً يكفر به بأن قال الصلاة لعب أو الحج عبث أو نحو ذلك فلا يبادر بأن يقول هذا حلال الدم أو يقتل بل يقول إذا ثبت عليه ذلك بالبينة أو بالإقرار استتابة السلطان فإن تاب قبلت توبته وإن أصر ولم يتب قتل وفعل به كذا وكذا وبالغ في تغليظ أمره وإن كان الكلام الذي قاله يحتمل أمورا لا يكفر ببعضها فلا يطلق جوابه وله أن يقول ليسأل عما أراد بقوله فإن أراد كذا فالجواب كذا فإن أراد كذا فالحكم كذا وقد سبق الكلام فيما شأنه التفصيل وإذا استفتي عما يوجب التعزير فليذكر قدر ما يعذره به السلطان فيقول يضرب ما بين كذا إلى كذا ولا يزاد على كذا خوفا من أن يضرب بفتواه إذا أطلق القول ما لا يجوز ضربه وإذا قال عليه التعزير بشرطه أو القود بشرطه فليس بإطلاق وتقييده بشرطه بحيث من لا يعرف الشرط من الولاة على السؤال عن شرطه والبيان أولى .
فصل إذا سئل عن مسألة ميراث فيها إخوة وأخوات أو أعمام أو بنوهم سأل من أبوين أو من أب أو من أم وإن سئل عن مسألة عائلة بين سهم الوارث مما عالت إليه فمن خلف زوجة وأبوين وابنتين قال للزوجة ثمن عائل وهو ثلاثة من سبعة وعشرين أو يقول صار ثمنها تسعا كما قاله فيها علي رضي الله عنه على المنبر أو يقول لها كذا وكذا سهما من أصل كذا وكذا سهما وإن كان في المذكورين من لا يرث أو يسقط تارة بينه وإن سئل عن ذكور وإناث بمن ترث الأنثى مع أخيها غير ولد الأم قال للذكر كذا وكذا سهما من أصل كذا وكذا سهما وللأنثى نصفه وهو كذا وكذا سهما من أصل المذكور أو نحو ذلك ولا يقل للذكر مثل حظ الأنثيين 4 10 ويتحرز ويتحفظ في جواب مسائل المناسخات وليقل لفلان كذا وكذا من ذلك كذا وكذا بإرثه من فلان وكذا بإرثه من فلان ويحسن أن يقول في قسمة المواريث تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين ونحوه أو وصية إن كانا .
فصل ليس للمفتي أن يبين ما يكفيه من جوابه على ما يعلمه من صورة الواقعة المسئول عنها إذا لم يكن في الرقعة تعرض له وكذا إذا زاد السائل شفاها ما ليس في الورقة ولا له به تعلق وليس للمفتي أن يكتب جوابه في الرقعة ولا بأس أن يضيفه إلى السؤال بخطه وإن لم يكن من الأدب كون السؤال جميعه بخط المفتي ولا بأس لو كتب بعد جوابه عما في الرقعة زاد السائل من لفظه كذا وكذا والجواب عنه كذا وكذا وإذا كان المكتوب في الرقعة على خلاف الصورة الواقعة وعلم المفتي بذلك فليفت على ما وجده في الرقعة وليقل هذا إن كان الأمر على ما ذكر وإن كان كيت ، وكيت ويذكر ما علمه من الصورة فالحكم كذا وكذا وإن زاد المفتي على جواب المذكور في السؤال بما له به تعلق ويحتاج إلى التنبيه عليه فحسن .
فصل لا ينبغي إذا ضاق موضع الفتوى عنها أن يكتب الجواب في رقعة أخرى خوفا من الحيلة عليه ولهذا ينبغي أن يكون جوابه موصولا بآخر سطر في الرقعة فلا يدع فرجه خوفا من أن يثبت السائل فيها غرضا له ضارا وكذا إذا كان في موضع الجواب ورقة ملتزقة كتب على موضع الالتزاق وشغله بشيء وإذا أجاب على ظهر الرقعة فينبغي أن يكون الجواب في أعلاها لا في ذيلها إلا أن يبتدئ الجواب في أسفلها متصلا بالإستفتاء فيضيق عليه الموضع فيتمه وراءها مما يلي أسفلها ليتصل جوابه واختار بعضهم أن يكتب على ظهرها ولا يكتب على حاشيتها بطولها وحاشيتها أولى بذلك من ظهرها والأمر في ذلك قريب .
فصل إذا سبق بالجواب من ليس أهلا للفتوى لم يفت معه لأنه تقرير لمنكر بل يضرب على ذلك بإذن صاحب الرقعة ولو لم يستأذنه في هذا القدر جاز لكن ليس له احتباس الرقعة إلا بإذن صاحبها وله انتهار السائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وأنه قد كان واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى وطلب فتيا من يستحق ذلك وإن رأى فيها إسم من لا يعرفه سأل عنه فإن لم يعرفه فواسع وله أن يمتنع من الفتوى معه خوفا مما قلناه وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها والأولى في هذه المواضع أن يشير على صاحبها بإبدالها فإن أبى ذلك أجابه شفاها وإن خاف فتنة من الضرب على فتيا من ليس أهلا لها ولم يكن خطأ امتنع من الفتيا معه فإن غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه أو تلبيس أو غير ذلك بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا معه ضارا بالمستفتين فليفت معه وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله .

فصل وإذا ظهر له أن الجواب على خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضي بأن يكتب في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب ولا يكتب فيها إلا بإذنه فإنه إذا وافق الجواب غرض المستفتي دعاء للمفتي وإن خالفه سكت أو تكره .
فصل وإن رأى في ورقة الاستفتاء فتيا غيره وهي خطأ قطعا إما خطأ مطلقا فمخالفتها لدليل قاطع وإما على مذهب من يفتي ذلك الغير على مذهبه قطعا لم يجز له الامتناع من الإفتاء تاركا للتنبيه على خطئها إذ لم يكفه ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره أو للإبدال وتقطيع الرقعة بإذن صاحبها ونحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ ثم إن كان المخطئ أهلا للفتوى فحسن أن تعاد إليه بإذن صاحبها وإن وجد فيها فتوى من هو أهل للفتوى على خلاف ما يراه هو غير أنه لا يقطع بخطئها فليقتصر على أن يكتب جواب نفسه ولا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض ولا يسوغ لمفت إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة بل يجيب بما عنده من وفاق أو خلاف فقد يفتي أصحاب الشافعي بما يخالفهم فيه أصحاب أبي حنيفة ولا يرد أحدهما على الآخر في مسائل الاجتهاد التي ليس فيها نص ولا إجماع .
فصل إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلا ولم يحضر صاحب الواقعة كتب يزاد في الشرح ليجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب عنه وقال بعضهم لا يكتب شيئا أصلا ولا يحضر السائل ليشافهه وإذا اشتملت الرقعة على مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كلها ولم يرد الجواب عن بعضها أو احتاج في بعضها إلى مطالعة رأيه أو كتب هو فيها سكت عن ذلك البعض وأجاب عن البعض الآخر أو يقول أما باقي المسائل فلنا فيه نظر أو يقول مطالعة أو يقول زيادة تأمل وإذا فهم من السؤال صورة وهو يحتمل غيرها فلينص عليها في أول جوابه فيقول إن كان قد قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا وما أشبه هذا فالحكم كذا وكذا وإلا فكذا .
فصل يجوز أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا وأما الأقيسة وشبهها فلا ينبغي له أن يذكر شيئا منها ولم تجر العادة أن يذكر المفتي طريق الاجتهاد ولا وجه القياس والاستدلال إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاض فيومئ فيها على طريق الاجتهاد ويلوح بالنكتة التي عليها بني الجواب أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلط فيها عنده فيلوح بالنكتة التي أوجبت خلافه ليقيم عذره في مخالفته وكذا لو كان فيما لقي به غموض فحسن أن يلوح بحجته وهذا التفصيل أولى مما سبق من إطلاق المنع من تعرضه للإحتجاج وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافا أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو ترك الإجماع أو فقد أثم وفسق وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه الألفاظ على ما تقتضيه المصلحة ويوجبه الحال .
فصل يجب عليه عند اجتماع الرقاع عنده أن يقدم الأسبق فيما يجب عليه فيه الفتيا وعند التساوي أو الجهل يقدم السابق بقرعة وقيل له تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله وفي تأخيره بتخلفه عن رفقته ضرر على من سبقهما إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم من تقديمهم ضرر كثير فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة ثم لا يقدم من يقدمه إلا في فتيا واحدة .
فصل وليحذر أن يميل في فتياه مع المستفتي أو مع خصمه بأن يكتب في جوابه ما هو له أو يسكت عما هو عليه ونحو ذلك وليس له أن يبتدئ في مسائل الدعاوي والبينات بذكر وجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم بأي شيء تندفع دعوى كذا وكذا وبينه كذا وكذا لم يجبه لئلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع
باب صفة المستفتي وأحكامه وآدابه وما يتعلق بذلك أما صفته فهو كل من لا يصلح للفتيا من جهة العلم وإن كان متميزاً والتقليد قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجة على نفس ما قبل قوله فيه وقيل هو قبول قول الغير من غير حجة ملزمة كما سبق أخذاً من القلادة في العنق لأن المستفتي يتقلد قول المفتي كالقلادة في عنقه أو أنه قلد ذلك للمفتي وتقلد المفتي في عنقه حكم مسألة المستفتي ويجب الاستفتاء في كل حادثة له ويلزم تعلم حكمها ويجب عليه البحث حتى يعرف صلاحية من يستفتيه للفتيا إذا لم يكن قد عرفه وهل يجب عليه الترجيح لمفت يفتيه على غيره فيه وجهان ولا يكتفي بكونه عالماً أو منتسباً إلى العلم وإن اتنصب في منصب التدريس أو غيره من مناصب أهل العلم فلا يكتفي بمجرد ذلك ويجوز له استفتاء من تواتر بين الناس خيره واستفتاء من فهم أنه أهل للفتوى وقيل إنما يعتمد قوله أنا مفت لا شهرته بذلك ولا التواتر لأنه لا يفيد علما إذا لم يستند إلى معلوم محس والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس وله استفتاء من أخبر المشهور المذكور عن أهليته ولا ينبغي أن يكفي في هذه الأزمان مجرد تصديه للفتوى واشتهاره بمباشرتها إلا بأهليته لها وقد قيل يقبل فيها خبر العدل الواحد وينبغي أن يكون عند العدل من العلم والبصر ما يميز به الملبس من غيره ولا يعتمد في ذلك على خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك .
فصل فإن اجتمع اثنان أو أكثر ممن له أن يفتي فهل يلزمه الاجتهاد والبحث عن الأعلم والأورع الأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان ولبقية العلماء مذهبان :
أحدهما لا يجب بل له أن يستفتي من شاء منهم لأهليتهم وقد سقط الاجتهاد عنه لا سيما إن قلنا كل مجتهد مصيب لقول النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم والثاني يجب لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال فلم يسقط عنه والعمل بالراجع واجب كالأدلة والأول أصح لأنه ظاهر حال السلف لما سبق ومتى اطلع على الأوثق منهما فالأظهر أنه يلزمه تقليده دون الآخر كما وجب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايتين فعلى هذا يلزمه تقليد الأروع من العلماء والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلد الأعلم على الأصح لأنه أرجح والعمل بالراجح واجب كالأدلة وقبل بل الأورع لقول الله تعالى اتقوا الله ويعلمكم الله ولقوله عليه السلام إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه .
فصل يجوز تقليد الميت في أصح المذهبين وأشهرهما لأن المذاهب لا تبطل بموت أصحابها ولهذا يعتدبها بعدهم في الإجماع والخلاف ويؤكده أن موت الشاهد قبل الحكم وبعد الأداء لا يمنع من الحكم بشهادته بخلاف الفسق ، والثاني لا يجوز لأن أهليته زالت بموته فهو كما لو فسق ولأنه لو عاش لوجب عليه تجديد الاجتهاد فيها في أحد المذاهب فربما تغير اجتهاده ورأيه فيها ، ذكره القاضي وغيره احتمالا لاحتمال تغير اجتهاده لو كان حيا وقلت هذا إن لزم السائل تجديد السؤال بتجدد الحادثة له ثانياً ومن نصر الأول قال الأصل بقاء الاجتهاد والحكم وقال أبو الخطاب إن مات المفتي قبل عمل المستفتي بفتياه فله العمل بها قال وقيل لا لما سبق وإن كان قد عمل بها لم يجز له تركه إلى قول غيره في تلك الواقعة .
فصل هل للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء أم لا فإن كان منتسبا إلى مذهب معين بنينا ذلك على أن العامي هل له مذهب أم لا وفيه مذهبان :
أحدهما أنه لا مذهب له لأن المذاهب إنما تكون لمن يعرف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي لا سيما إن قلنا كل مجتهد مصيب لقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم
والثاني أن له مذهبا ن لأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده ذلك فإن كان حنبليا أو مالكيا أو شافعيا لم يكن له أن يستفتي حنفيا فلا يخالف إمامه وقد ذكرنا قي المفتي المنتسب إلى مذهب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه وإن لم يكن قد انتسب الى مذهب معين انبنى على أن العامي هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه وفيه مذهبان أحدهما لا يلزمه ذلك كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة أن يخص العامي عالما معينا بتقليد لا سيما إن قلنا كل مجتهد مصيب فعلى هذا هل له أن يستفتي على أي مذهب شاء أو يلزمه أن يبحث حتى يعلم علم مثله أسد المذاهب وأصحها أصلا فسيتفتي أهله فيه مذهبان كالمذهبين اللذين سبقا في إلزامه بالبحث عن الأعلم والأفقه من المفتيين
والثاني يلزمه ذلك وهو جار في كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد من الفقهاء وأرباب سائر العلوم لأنه لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى الى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه ومتخيرا بين التحريم والتجويز وفيه انحلال عن التكليف بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث حينئذ قد مهدت وعرفت فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقدره على التعيين وهذا أولى بايجاب الاجتهاد قيه على العامي مما سبق في الاستفتاء .
فصل ونحن نمهد طريقا سهلا منقول ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي والميل إلى ما وجد عليه أباه وأهله قبل تأمله والنظر في صوابه وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة وحده أو غيرهم من السلف دون غيره وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم مع أن قول الصحابة عندنا حجة في أصح الروايتين لأنهم لم يتفرغوا لتدريس العلم وضبط أصوله وفروعه وليس لأحدهم مذهب مهذب محرر مقرر مستوعب وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين لمذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها ومعرفة الوفاق والخلاف كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأصمد وأمثالهم فإن اتفاقهم نعمة تامة واختلافهم رحمة عامة .
فصل ولما كان من اللازم الالتزام بأهل الدين وعلماء الشريعة المبرزين وأكابر الأئمة المتبعين المتبوعين والمشهورين من المحققين المحقين المتدينين المتورعين والموفقين المسددين المرشدين وكان الإمام العالم السالك الناسك الكامل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه قد تأخر عن أئمة المذاهب المشهورة ونظر في مذاهبهم ومذاهب من قبلهم وأقاويلهم وسبرها وخبرها وانتقدها واختار أرجحها وأصحها ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير والتأصيل والتفصيل فتفرغ للاختيار والترجيح والتنقيح والتكميل والإشارة بين الصحيح مع كمال آلته وبراعته في العلوم الشرعية وترجحه على من سبقه لما يأتي ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك كان مذهبه أولى من غيره بالإتباع والتقليد وهذا طريق الإنصاف والسلامة من القدح في بعض الأئمة وقد ادعى الشافعية ذلك في مذهب الشافعي أيضا وأنه أولى من غيره ونحن نقول كان الإمام أحمد أكثرهم علما بالأخبار وعملا بالآثار واقتفاء للسلف واكتفاء بهم دون الخلف وهو من أجلهم قدرا وذكرا وأرفعهم منزلة وشكرا وأسدهم طريقة وأقومهم سطرا وأشهرهم ديانة وصيانة وأمانة وأمرا وأعلمهم برا وبحرا قد اجتمع له من العلم والعمل والدين والورع والإتباع والجمع والاطلاع والرحلة والحفظ والمعرفة والشهرة بذلك كله ونحوه ما لم يجتمع مثله لإنسان وأثنى عليه أئمة الأمصار وأهل الأعصار وإلى الآن واتفقوا على إمامته وفضيلته واتباعه لمن مضى بإحسان وأنه إمام في سائر علوم الدين مع الإكثار والإتقان وكان أولى بالأتباع وأحرى بالبعد عن الابتداع وقد صنف الناس في فضائله ومناقبه كتباً كثيرةً تدل على إمامته ورجحانه على غيره فلذلك ونحوه تعين الوقوف ببابه والانتماء إليه والاقتداء به والاهتداء بنور صوابه والارتداء بهديه في وروده وإيابه والاقتفاء لمطالبه وأسبابه والاكتفاء بصحبة أصحابه ولأن مذهبه من أصح المذاهب وأكمل وأوضح المناهج وأجمل لكثرة أخذه له من الكتاب والسنة مع معرفته بهما وبأقوال الأئمة وأحوال سلف الأمة وتطلعه على علوم الإسلام وتطلعه من الأدلة الشرعية والأحكام ودينه التام وعمله العام والثناء عليه من أكابر العلماء وشهادتهم له بالإمامة والتقدم على أكثر القدماء وإطنابهم في مدحه وشكره وإسهابهم في نشر فضله وذكره ولم يشكوا في صحة اعتقاده وانتقاده وأن الصحة تحصل بإخباره والنفرة بإنكاره والعبرة باعتباره والخبرة باختباره والخيرة لاختياره بل يرجعون في دينهم إليه ويعولون عليه ويرضون بما ينسب إليه ولو كذب عليه فلله الحمد إذ وفقنا لإتباع مذهبه والابتداء بتحصيله وطلبه وللانتهاء إلى الرضى به لصحة مطلبه وهذا وأمثاله قليل من كثير ونقطة من بحر غزير والغرض الحث على إتباعه ومعرفة أتباعه في العلوم واتساع باعه فرضي الله عنه وأرضاه وجعلنا من أتباعه وحشرنا في زمرة أتباعه وقد ذكرنا جملة من مناقبه وكلام العلماء في مدحه وإمامته في كتب أخرى ولو لم يقل فيه الناس سوى ما نذكره الآن لكان فيه أبلغ غاية وأنهى نهاية وفي بعضه كفاية قال الشافعي أحمد إمام في ثمان خصال إمام في الحديث إمام في الفقه إمام في القرآن إمام في اللغة إمام في السنة إمام في الزهد إمام في الورع إمام في الفقر وقال خرجت من بغداد وما خلفت بها أورع ولا أتقى ولا أفقه ولا أعلم من أحمد ابن حنبل وقال لأحمد أنتم أعلم منا بالحديث فإذا كان الحديث كوفيا أو شاميا فأعلموني حتى أذهب إليه وقال كل ما في كتبي حدثني الثقة فهو أحمد بن حنبل وقال يحيى بن معين والله ما تحت أديم السماء أفقه من أحمد ابن حنبل ليس في شرق ولا غرب مثله وقال إبراهيم الحربي رأيت أحمد كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويدع ما شاء وعد الأئمة وقال كان أحمد أفقه القوم وقال أبو القاسم الختلي كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كأن علم الدنيا بين عينيه وقال الخلال كان أحمد بن حنبل إذا تكلم في الفقه تكلم بكلام رجل قد انتقد العلم فتكلم على معرفة وقال أحمد بن سعيد ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد وقال عبد الرزاق ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أورع وما رأيت مثله وما قدم علينا مثله وقال أبو يعقوب وما رحل إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رحل إلى عبد الرزاق وقال أبو عبيد انتهى العلم إلى أربعة علي بن المديني ويحيى بن معين وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وكان أحمد أفقههم فيه وقال قتيبة بن سعيد لو أدرك أحمد عصر الثوري ومالك والأوزاعي والليث ونظر إليهم لكان هو المقدم وقيل تقيس أحمد إلى التابعين فقال إلى كبار التابعين كسعيد بن المسيب وسعيد ابن جبير وقال أحمد وإسحاق إماما الدنيا وقال أبو بكر بن داود لم يكن في زمن أحمد مثله وقال عبد الوهاب الوراق كان أحمد أعلم أهل زمانه وهو من الراسخين في العلم وما رأيت مثله قال وقد أجاب عن ستين ألف مسألة بأخبرنا وحدثنا وقال أبو ثور أجمع المسلمون على أحمد بن حنبل وقال كنت إذا رأيته خيل إليك أن الشريعة لوح بين عينيه وقال إسحق أنا أقيس أحمد إلى كبار التابعين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وهو حجة بين الله وبين عبيده في أرضه ولا يدرك فضله وقال ابن مهدي لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماما في بطن أمه وقال أبو زرعة كان أحمد يحفظ ألف ، ألف حديث قيل وما يدريك قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب وقال حزرنا استشهادات أحمد في العلوم فوجدناه يحفظ سبعمائة ألف حديث فيما يتعلق بالأحكام وقال ما اعلم في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه وما رأيت أكمل منه اجتمع فيه فقه وزهد وأشياء كثيرة وما رأيت مثله في فنون العلم والفقه والزهد والمعرفة وكل خير وهو أحفظ مني وما رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ منه وقال عبد الله بن أحمد كان أبي يذاكر بألفي ألف حديث وقال مهنا ما رأيت أجمع لكل خير من أحمد وما رأيت مثله في عمله وفقهه وزهده وورعه وقال الهيثم بن جميل إن عاش هذا الفتى سيكون حجة على أهل زمانه وقال أحمد رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور والشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراقين جميعاً وفارس وخراسان والجبال والأطراف ثم عدت إلى بغداد وقال استفاد منا الشافعي أكثر مما استفدنا منه وقال أبو الوفاء علي بن عقيل قد خرج عن أحمد إختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاد لهم وربما زاد على كبارهم وله التصانيف الكثيرة منها المسند وهو بزيادة ابنه عبد الله أربعون ألف حديث إلا أربعين حديثا ومنها التفسير وهو مائة ألف وعشرون ألفا وقيل بل مائة ألف وخمسون ألفا ومنها الزهد وهو نحو مائة جزء ومنها الناسخ والمنسوخ ومنها المقدم والمؤخر في القرآن وجوابات أسئلة ومنها المنسك الكبير والمنسك الصغير والصيام والفرائض وحديث شعبة وفضائل الصحابة وفضائل أبي بكر وفضائل الحسن والحسين والتاريخ والأسماء والكنى والرسالة في الصلاة ورسائل في السنة والأشربة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والرد على الزنادقة والجهمية وأهل الأهواء في متشابه القرآن وغير ذلك كثير ومشايخه أعيان السلف وأئمة الخلف وأصحابه خلق كثير قال الشريف أبو جعفر الهاشمي لا يحصيهم عدد ولا يحويهم بلد ولعلهم مائة ألف أو يزيدون وروى الفقه عنه أكثر من مائتي نفس أكثرهم أئمة أصحاب
تصانيف وروى عنه الحديث أكابر مشايخه كعبد الرزاق وابن عليه وابن مهدي ووكيع وقتيبة ومعروف الكرخي وابن المديني وخلق غيرهم وما من مسألة في الفروع والأصول إلا له فيها قول أو أكثر نصا أو إيماء وهو من ولد شيبان بن ذهل لا من ولد ذهل بن شيبان يلتقي نسبه بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزار .
فصل إذا اختلف على المستفتي فتيا مفتيين فأكثر ففيه مذاهب الأول أنه يأخذ بأشدها وأغلظها فيأخذ بالحظر دون الإباحة وغيرها لأنه أحوط ولأن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي ، والثاني أن يأخذ بأخفها لقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وقوله وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله يريد الله أن يخفف عنكم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعثت بالحنيفية السمحة السهلة وقال أيضا أن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه والثالث يجتهد في الأوثق فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع فمذهبان كما سبق والرابع يسأل مفتيا آخر فيعمل بفتوى من يوافقه للتعاضد كتعدد الأدلة والرواة لزيادة غلبة الظن والخامس يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء مطلقا وقيل إذا تساوى المفتيان عنده فإن ترجح أحدهما تعين قوله وقيل عليه أن يجتهد ويبحث عن أرجح القولين وإن كان قائله مرجوحا فإنه حكم التعارض وقد وقع وليس كالترجيح المختلف فيه عند الاستفتاء فليبحث إذن عن الأوثق من المفتيين فيعمل بفتياه فإن لم يترجح أحدهما عنده استفتى الآخر وعمل بفتوى من وافقه الآخر كما سبق فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في الحظر والإباحة وقبل العمل اختار جانب الحظر والترك فإنه أحوط وإن تساويا من كل وجه تخير بينهما كما سبق وإن منعناه التخيير في غيره لأنه ضرورة وفي صورة نادرة ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتيين والمقلدين لهما أو يسأل مفتيا آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به في ذلك وهذا يجمع محاسن الوجوه المذكورة مع التحقيق .
فصل إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه ويجوز أن يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل يلزمه إذا وقع في نفسه صحته وأنه حق وهذا أولى الأوجه وإن أفتاه بما هو مختلف فيه خير بين أن يقبل منه أو من غيره سئل الإمام أحمد عن مسألة في الطلاق فقال إذا فعله يحنث فقال له السائل إن أفتاني أحد بأنه لا يخنث يعني يصح فقال نعم ودله على من يفتيه بذلك والأقرب أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره ورجحه باجتهاده ولا يجب تخييره والذي تقتضيه القواعد أن نقول إذا أفتاه المفتي فإن لم يجد مفتيا آخر لزمه الأخذ بفتياه ولا يتوقف ذلك على التزامه لا في الأخذ بالعمل به ولا بغيره ولا يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته في نفس الأمر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به بناء على الأصح في تعينه كما سبق وإن لم يتبين ذلك له لم يلزمه ما أفتاه به بمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ .
فصل وإذا استفتى فأفتي ثم حدثت تلك الحادثة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال فيه مذهبان ولنا وجهان أحدهما يلزمه لجواز تغير رأي المفتي والثاني لا يلزمه لأنه قد عرف الحكم والأصل استمرار المفتي عليه وقيل الخلاف فيما إذا قلد حيا وإن كان خبرا عن ميت لم يلزمه وفيه ضعف لأن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه .
فصل ويجوز له الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله إنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلك الجواب بخطه وله أن يستفتي بنفسه وأن ينفذ ثقة يقبل خبره فيستفتي له .
فصل ينبغي للمستفتي التأدب مع المفتي وأن يجله في خطابه وسؤاله ونحو ذلك فلا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا وكذا أو ما مذهب إمامك فيه ولا يقل إذا أجابه وهكذا قلت أنا أو كذا وقع لي ولا يقل له أفتاني فلان أو أفتاني غيرك بكذا وكذا ولا يقل إذا استفتي في رقعة إن كان جوابك موافقا لمن أجاب فيها فاكتبه وإلا فلا تكتبه ولا يسأل وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب ويبدأ بالأسن الأعلم من المفتيين وبالأولى فالأولى على ما سبق بيانه وقيل إذا أراد جمع الجوابات في رقعة قدم الأسن والأعلم وإذا أراد إفراد الجوابات في رقاع يبالي بأيهم بدأ .
فصل ينبغي أن تكون رقعة الاستفتاء واسعة ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب وأنه إذا ضاق البياض اختصر فأضر ذلك بالسائل ولا يدع الدعاء فيها لمن يفتي إما خاصا إن خص واحداً باستفتائه وإما عاماً إن استفتى الفقهاء مطلقا واختار بعضهم أن بعضهم أن يدفع الرقعة إلى المفتي منشورة ولا يحوجه إلى نشرها ويأخذها من يده إذا أفتي ولا يحوجه إلى طيها ويكون كاتب الاستفتاء يحسن الجواب ويضعه على الغرض كما يحسن إبانة اللفظ والخط وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف ويكون كاتبها عالما وكان بعض الرؤساء لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من علماء بلده .
فصل لا ينبغي لعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه به ولا يقول له لم ولا كيف فإن أحب أن يسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في مجلس آخر وفي ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة عن الحجة وقيل له أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه وانه يلزمه أن يذكر الدليل إن كان قطعيا ولا يلزمه ذلك إن كان ظنيا لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه العامي باب في معرفة ألفاظ إمامنا أحمد وسائر أقواله وأفعاله واجتهاداته وأحواله في حركاته وسكناته وعلى أي وجه يحملها الأصحاب لما علم من دينه وتحريه في ذلك إذ ربما حمل ذلك أحد على غير مراده فإذا ذكرنا الغرض تساوى في معرفة المراد منه كل منه ينظر فيه إن شاء الله تعالى ولأن مذهبه غالبا إنما أخذ من فتاويه وأجوبته وسائر أحواله لا من تصنيف قصد به ذلك وبالكلام في ذلك يعرف مراد أكثر الأئمة بأقوالهم وأفعالهم وسائر أحوالهم وسيأتي الكلام على التأليف ونحوه في باب آخر إن شاء الله تعالى
فصل وألفاظ الإمام أحمد رضي الله عنه على أربعة أقسام :
القسم الأول صريح لا يحتمل تأويلا ولا معارض له فهو مذهبه فإن رجع عنه صريحا كقوله كنت أقول الإقراء الأطهار وإن المتيمم لا يخرج إذا رأى الماء في الصلاة وإن زوجة المفقود تتربص أربع سنين ونحو ذلك أو قاله عنه قديما أصحابه الذين يخبرون أقواله وأفعاله وأحواله فلا وقيل بلى ويستمر عليه المقلد حيث كان الإمام قاله بدليل لا سيما إن قلنا لا يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد بتجدد الحادثة له
ثانيا ولا أن يعلم من قلده بتغير اجتهاده ولا رجوع المقلد إلى اجتهاده الثاني قبل علمه بالأول ولا تجديد السؤال بتجدد حادثته له ثانياً.
فصل فإن نقل عنه في مسألة واحدة قولان مختلفان ولم يصرح هو ولا غيره برجوعه عنه فإن أمكن الجمع بينهما بحملهما على اختلاف : حالين أو محلين أو بحمل عامهما على خاصهما ومطلقهما على مقيدهما على الأصح فيهما اختاره ابن حامد فكل واحد منهما مذهبه وقد نقل عنه في التيمم بالرمل روايتان حمل القاضي الجواز على رمل له غبار والمنع على رمل لا غبار له ونقل عنه القطع فيما قيمته ثلاثة دراهم وأنه لا يقطع في الطائر يريد إن نقص عن ثلاثة دراهم وإن تعذر الجمع بينهما وعلم التاريخ فالثاني مذهبه اختاره الخلال وصاحبه وقيل والأول أيضا لا على التخيير ولا التعاقب ولا على الجمع في حق شخص واحد في واقعة واحدة من مفت واحد في حالة واحدة اختاره ابن حامد وغيره لما سبق كمن صلى صلاتين بإجتهادين إلى جهتين في وقتين ولم يبن له الخطأ جزما وفي أيهما تبعه من قلده لم يكن خارجا عما ذهب إليه تارة بدليل لم يقطع بخلافه ولمن قلده أيضا أن يستمر إذن على القول الأول الذي عمل به ولا يتغير عنه بتغير اجتهاد من قلده فيه في الأقيس ويجوز التخريج منه والتفريع والقياس إن قلنا ما قيس على كلامه مذهب له وإلا فلا وإن قلنا يلزم المجتهد تجديد اجتهاده فيما أفتى به لتجدد الحادثة ثانيا وإعلام المقلد له بتغير اجتهاده فيما أفتاه به ليرجع عنه وإن من قلده يلزمه تجديد السؤال بتجدد الحادثة له ثانيا وأنه يلزمه العمل بالاجتهاد الثاني لم يكن القول الأول مذهبا له ولا يعمل به من قلده وإن كان عمل به لم يستمر عليه إذن فلو كان المفتي في صلاة فدار لتغير اجتهاده في القبلة تبعه إذن من قلده في الأول وإلا فلا وإن جهل التاريخ فمذهبه أقربهما من كتاب أو سنة أو إجماع أو أثر أو قواعد الإمام أو عوائده ومقاصده وأصوله وتصرفاته كمذهبه فيما اختلف من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتعذر الجمع والنسخ أو أقوال الصحابة أو أحدهم إذا تعذر الجمع فإنه يعمل بالأشبه منها بالكتاب أو السنة أو اتفاق الأمة أو أقوال الأئمة وقد أشار أبو الخطاب وغيره إلى ذلك ونحوه وقلت إن جعلنا أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له مع معرفة التاريخ فمع الجهل به أولى لجواز تأخير الراجح منهما فيكون كآخر قوليه فيما ذكرنا وإن لم يجعل أولهما ثم ذهبا له احتمل هذا الوقف لاحتمال تقديم أرجحهما وإن تساويا فالوقف أولى قلت ويحتمل التخيير والتساقط وإن اتحد حكم القولين دون الفعل كإخراج الحقاق أو بنات اللبون عن مائتي بعير وكل واجب موسع أو مخير خير المجتهد بينهما وله أن يخير المقلد له إن لم يكن حاكما وإن منعنا تعادل الإمارات وهو الظاهر عن الإمام أحمد فلا وقف ولا تخيير ولا تساقط وإن جهل تاريخ أحدهما فهو كما لو جهل تاريخهما ويحتمل الوقف .
فصل وما قيس على كلامه فهو مذهبه اختاره الأثرم والخرقي وابن حامد وقيل لا
اختاره الخلال وصاحبه وقيل إن جاز تخصيص العلة وإلا فلا وقلت إن نص الإمام على علته أو أومأ إليها كان مذهبا له وإلا فلا إلا أن تشهد أقواله وأفعاله أو أحواله للعلة المستنبطة بالصحة والتعيين .
فصل وإذا قلنا ما قيس على كلامه مذهبه فأفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين كقوله في اليمين بالعتق إنها تنحل بزوال الملك وقوله في اليمين بالطلاق لا تنحل بزوال الملك جاز نقل الحكم وتخريجه من إحداهما إلى الأخرى في أحد الوجهين لإتحاد معناهما أو تقاربه والثاني المنع اختاره أبو الخطاب وأبو محمد المقدسي لأن الجمع عند الإمام مظنون فهو كما لو فرق بينهما صريحا أو منع النقل والتخريج أو قرب الزمن بحيث يظن أنه ذاكر حكم الأولة حين أفتى بالثانية ولا يجوز نقل الحكم ولا تخريجه لأنه لولا ظهور دليل الحكم الثاني له وبيان الفارق في المسألة الثانية مع ذكره نظيرتها ودليلها لما أفتى به بل سوى بينهما ولعله ظهر لنا ما يقتضي التسوية وظهر له وحده فرق لأن نصه في كل مسألة يمنع الأخذ بغيره فيها وإن كان بعيد العهد بالمسألة الأولى ودليلها وما قاله فيها احتمل التسوية عنده فننقل نحن حكم الثانية إلى الأولى في الأقيس ولا ننقل حكم الأولى إلى الثانية إلا أن نجعل أول قوله في مسألة واحدة مذهبا له مع معرفة التاريخ وإن جهل التاريخ جاز نقل حكم أقربهما من كتاب أو سنة أو إجماع أو أثر أو قواعد الإمام وأصوله إلى الأخرى في الأقيس ولا عكس إلا أن نجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا مع معرفة التاريخ فننقل حكم المرجوحة من الراجحة وأولى لجواز كونها الأخيرة دون الراجحة فأما من هو أهل للنظر في مثل هذه الأشياء غير مقلد فيها فله التخريج والنقل بحسب ما يظهر له وإذا أفضى النقل والتخريج إلى خرق إجماع أو رفع ما أتفق عليه الجم الغفير من العلماء أو عارضه نص كتاب أو سنة لم يجز القسم الثاني ظاهر يجوز تأويله بدليل أقوى منه فإذا لم يعارضه أقوى منه ولم يكن له مانع شرعي أو لغوي أو عرفي فهو مذهبه القسم الثالث المجمل المحتاج إلى بيان القسم الرابع ما دل سياق كلامه عليه وقوته وإيماؤه وتنبيهه .
فصل فإن قال هذا لا ينبغي أو لا يصلح فهو للتحريم عند أصحابنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس فروجا من حرير أي قباء ثم نزعه نزعا كريها وقال إن هذا لا ينبغي للمتقين ولأنه أحوط فتعين ولعله قال بعد ذلك هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها وكان توكيد التحريم السابق إذ لو كان تحريمه سابقا لم يلبسه ولو كان مباحا لم ينزعه نزعا كريها ويقول ما قاله ولأنه صلى الله عليه وسلم قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التكبير والتسبيح وقراءة القرآن ولهذا قال إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة .
فصل وقول الإمام أحمد لا بأس بكذا وأرجو أن لا بأس به للإباحة وفاقا لقوله عليه السلام لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل .
فصل وقول أحمد أخشى أو أخاف أن يكون كذا أو أ ن يكون كذا كقوله يجوز أو لا يجوز اختاره ابن حامد والقاضي كقول أحمد في الجماعة أخشى أن تكون فريضة وفي إخراج القيمة في الزكاة أخشى أن لا يجزئه وقوله في الطلاق إذا أخبر به وهو كاذب أخشى أن يكون وقع والكل على ظاهره عندنا كقوله تعالى يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، وقوله إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم وقيل هما للوقف والشك كقول أحمد في الحل علي حرام يعني به الطلاق أخشى أن يكون ثلاثا وفيه بعد لأن هذه الألفاظ تستعمل عرفا غالبا في الامتناع من فعل شيء خوف الضرر منه وحيث امتنع من الفتوى إنما كان تخفيفا على الناس
فصل وقول أحمد أحب كذا للندب عند أصحابنا كقول أحمد يذبح إلى القبلة أحب إلي ويذهب إلى الجمعة ماشيا أحب إلي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب وقال إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل والمحبوب مندوب وقال ابن حامد للوجوب كقول أحمد في اثنين قطعا يدا أحب إلي أن يقطعا وعنده تؤخذ اليد باليد والنفس بالنفس فكأنه أراد أستحب من المذاهب كذا ولأنه أحوط وكذا لوجهان في قول أحمد هذا حسن أو أحسن أو أستحسن كذا ا وفي قوله يعجبني كذا أو هو أحب إلي وقال ابن حامد إذا استحسن شيئا أو قال هو حسن فهو للندب لأنه المتيقن وإن قال يعجبني فهو للوجوب لأنه أحوط .
فصل وقول أحمد أكره كذا أو لا يعجبني للتنزيه في أحد الوجهين إن لم يحرم وقيل ذلك كقوله أكره النفخ في الطعام وإدمان اللحم والخبز الكبار لقوله تعالى ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم . الآية ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها وقيل بل للتحريم أختاره الخلال وصاحبه وابن ماجد كقول أحمد أكره المتعة والصلاة في المقابر وكقوله هذا قبيح أو أنا أستقبحه أو لا أراه لقوله تعالى كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها . أي حراما ولأنه أحوط والأولى النظر إلى القرائن في الكل فإن دلت على وجوب أو ندب أو تحريم أو كراهة أو إباحة حمل قوله عليه سواء تقدمت أو تأخرت أو توسطت
فصل فإن سئل أحمد عن شيء فأجاب ثم سئل عن غيره فقال ذاك أهون أو أشد
فقال أبو بكر عبد العزيز هما عنده سواء لأن الشيئين قد يستويان في الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة ويكون أحدهما آكد لأن بعض الواجبات عنده آكد من بعض وقال ابن حامد لفظه يقتضي الفرق في الحكم فإن قوله أهون يجوز أن يريد به نفي التحريم فيكون مكروها أو نفي الوجوب فيكون مندوبا والأولى النظر إلى القرائن في الكل وما عرف من عادة أحمد في ذلك ونحوه وحسن الظن به وحمله على أصلح المحامل وأربحها وأرجحها وأنجحها وقد وجه كل قول بما يطول ذكره هنا .
فصل فإن سئل أحمد عن شيء فأجاب ثم سئل عن غيره فقال ذاك شنع كقوله في العبيد تقبل شهادتهم في الأموال فقيل له تقبل في الحدود فقال ذاك شنع فقال القاضي أبو يعلى وأبو بكر بالفرق وإلا لم يتوقف وما شنع عند الناس إلا لدليل مانع من التسوية ، وقال ابن حامد عنده سواء لعدم ما يمنعها ظاهراً أو ترك الشيء للشناعة لا يدل على قبحه ومنعه شرعاً ولهذا ترك أحمد الركعتين قبل المغرب تأسياً بالناس في الترك وهاب مسألة المفقود وجعلها أصحابنا مذهبا له قلت والاعتماد في ذلك ونحوه على القرائن واستقراء النظائر فإن كثر التشابه بينهما وعسر الفرق لم تمتنع التسوية شرعا بالشناعة عرفاً وإن ظهر الفرق ترك له للإلحاق لا للشناعة .
فصل فإن سئل أحمد عن شيء فقال أجبن عنه فقال أبن حامد هو مذهبه وليس قويا عنده لأن جبنه لكثرة الشبهة أو لاختلاف الناس أو لتعادل الأدلة إن أمكن وقلت بل يكره .
فصل وما دل كلامه عليه وسياقه وقوته فهو مذهبه ما لم يعارضه أقوى منه كقوله في العراة فيها اختلاف إلا أن إمامهم يقوم في وسطهم وعاب من قال يقعد الإمام فدل على أن مذهبه أن يصلي العريان قائماً .
فصل فإن أفتى بحكم ثم اعترض عليه أحد فسكت لم يكن رجوعا عنه إلى ضده في أحد الوجهين اختاره بعض الأصحاب إن احتمل التدبر أو كراهية الكلام لشبهة أو فتنة أو تورعا والثاني يكون رجوعاً اختاره ابن حامد لتوقف أحمد عن الجواب مع وجوب دفع الشبهة خوفا من ضلال السائل أو بقائه على باطل وقد رجع الصحابة إلى قول أبي بكر رضي الله عنهم بعد لومهم على قتاله لمن منع الزكاة لقولهم لا إله إلا الله .
فصل وصفه الواحد من أصحابه ورواته في تفسير مذهبه وإخبارهم عن رأيه كنصه في أحد الوجهين اختاره ابن حامد وغيره وهو قياس قول الخرقي وغيره لأن الظاهر معرفتهم مذهبه ومراده بكلامه وهو عدل ثقة خبير بما رواه كقول ابنه عبد الله سألت أبي عن الخطاف فكان عنده أسهل من الخشاف والثاني لا يكون مذهبه اختاره الخلال وصاحبه لأنه ظن وتخمين ويجوز أن يعتقد خلافه وربما أراد غير ما ظهر للراوي بخلاف حال الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
فصل وإن انفرد بعض أصحابه أو رواته عنه بقول وقوي دليله فهو مذهبه
اختاره ابن حامد وقال يجب تقديمها على سائر الروايات لأن الزيادة من العدل مقبولة في الحديث النبوي عند أحمد فكيف عنه والراوي عنه ثقة خبير بما رواه وخالفه الخلال وصاحبه وأكثر الأصحاب لأن نسبة الخطأ إلى واحد أولى من نسبته إلى جماعة والأصل اتحاد المجلس .
فصل فإن أجاب في شيء بكتاب أو سنة أو إجماع أو قول صحابي كان الحكم مذهبه لأنه اعتقد ما ذكره دليلا حيث أجاب فيه وأفتى بحكمه وإلا لبين مراده منه غالبا ولأن ذلك كله حجة عنده فلو كان متأولاً أو معارضا لتوقف فيه
فصل فإن ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا أو قول صحابي وصححه أو حسنه أو رضي سنده أو دونه في كتبه ولم يرده لم يكن مقتضاه مذهبا له في أحد الوجهين إذ لو نسب إليه ما رواه أنه مذهبه لنسب إلى أرباب الحديث مثل ذلك فيما رووه ولهذا لو أفتى بحكم ثم روى حديثا يخالفه لم نجعل نحن مذهبه الحديث بل فتياه إذ يجوز أن يكون الخبر عنده منسوخا أو متأولاً أو معارضا بأقوى منه بخلاف ما رواه غيره ولأن أحمد صحح حديث سهل بن سعد في أن القرآن مهر ولم نجعله مذهبه في الأشهر والثاني يكون مقتضاه مذهبه أختاره أبناه والمروذي والأثرم لأن من أصله أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ به فلا نظن أنه يفتي بخلافه والأصل عدم المعارض حتى يتبين وإن أفتى بخلافه دل على ظفره بدليل يجوز ترك الخبر به وذهب بعض العلماء إلى تقديم الخبر على الفتوى فيتقدم ما رواه على ما رآه في حق غيره فكذا في حقه وقلت يقدم المتأخر منهما مع ذكره أولهما .
فصل فإن ذكر عن الصحابة في مسألة قولين ولم يرجح أحدهما فمذهبه أقربهما من كتاب أو سنة في أحد الوجهين لأنه قال إذا اختلفت الصحابة على قولين نظر أشبههما بالكتاب والسنة وأخذ به ولا نجعل ما حكاه عن غيرهم مذهبا له لأنه يجوز أن يذهب إلى قول ثالث لا يخرق إجماعهم بخلاف الصحابة فإنه يتعين الأخذ بقول أحدهم لأنه عنده حجة في أصح الروايتين والثاني ليس أحدهما مذهبا له لأنه أعلم بالأشبه فيهما فلما لم يذكره ولم يرجع أحدهما ولم يمل إليه مع معرفته دل على أنهما عند سواء فلا يكون أحدهما مذهبا له والأول أولى .
فصل فإن نقل عنه في مسألة قولان دليل أحدهما قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو عام ودليل الآخر قول الصحابي وهو خاص فالأول مذهبه اختاره ابن حامد لقوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا أو غير ذلك من الأدلة وقيل بل الثاني لأنه حجة عند أحمد على الأشهر ويخص به عموم الكتاب والسنة ويفسر به مجملهما في وجه وإن كان قول النبي صلى الله عليه وسلم أخص أو أحوط تعين مطلقا كما لو كانا عامين أو خاصين أو لم نجعل قول الصحابي حجة في رواية ولم نخص به الكتاب والسنة في وجه وإن وافق أحدهما مذهب صحابي وقلنا هو حجة يقدم على القياس ويخص به العموم والآخر مذهب تابعي وقلنا يعتد بقوله مع الصحابة وقيل وعضده عموم كتاب أو سنة أو أثر فأيهما مذهبه فيه وجهان وإن قدمنا القياس على قول الصحابي ولم نخص به عموم كتاب أو سنة قدم أشبههما بكتاب أو سنة .
فصل فإن كان أحد قوليه عاما أو مطلقا والآخر خاصا أو مقيدا حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد جمعا بينهما بحسب الإمكان وقيل يعمل بكل قول في محله وفاء بمقتضى اللفظ فإن أمكن هذا أو التنزيل على حالين تعين وإلا فلا .
فصل فإن ذكر اختلاف الصحابة أو التابعين أو غيرهم وعلة كل قول ولم يمل إلى أحدهما فمذهبه الأشبه منهما بكتاب أو سنة أو أثر وقيل بالوقف وفيه بعد
فصل وإن ذكر الاختلاف وحسن بعضه فهو مذهبه لأنه يلزمه الأخذ بأقوى الأقوال دليلا فميله إلى أحدهما دليل قوته وصحته عنده .
فصل فإن علل أحدهما واستحسن الآخر ولم يعلله فمذهبه ما استحسنه لأنه ما استحسنه إلا لعلة ووجه فقد ساوى ما علله وزاد عليه باستحسانه
اختاره ابن حامد وقيل مذهبه ما علله وفيه بعد .
فصل فإن أعاد ذكر أحدهما أو فرع عليه فهو مذهبه وقيل لا وهو أولى أو بلا شهود يقع احتياطا والثاني أنه مندوب والأولى النظر في الحكم فإن كان الوجوب فيه أحوط أو اقتضاه دليل أو قرينة تعين وإلا فلا .
فصل فإن توقف في مسألة جاز إلحاقها بما يشبهها إن كان حكمها أرجح من غيره وإن أشبهت مسألتين أو أكثر أحكامها مختلفة بالخفة والثقل فهل يلحق بالأخف أو الأثقل أو يخير المقلد بينهما يحتمل أوجها الأظهر هنا عنه التخيير وقال أبو الخطاب لا بتعادل الإمارات قلت فلا تخيير ولا وقف ولا تساقط إذن والأولى العمل بكل منهما لمن هو أصلح له .
فصل وإذا نص على حكم في مسألة ثم قال فيها ولو قال قائل أو ذهب ذاهب إلى كذا يريد خلاف نصه كان مذهبا لم يكن ذلك مذهبا للإمام كما لو قال وقد ذهب قوم إلى كذا قلت ويحتمل أن يكون مذهبا له كما لو قال يحتمل قولين
فصل ومفهوم كلامه مذهبه في أحد الوجهين : اختاره الخرقي وابن حامد وإبراهيم الحربي لأن التخصيص من الأئمة إنما يكون لفائدة وليس هنا سوى اختصاص محل النطق بالحكم المنطوق به وإلا كان تخصيصه به عبثا ولغوا والثاني لا اختاره أبو بكر بن جعفر لأن كلامه قد يكون خاصا بسؤال سائل أو حالة خرج الكلام لها مخرج الغالب فلا يكون مفهومه بخلافه ولهذا له أن يعقبه بخلافه ولو كان مراده ضده لبينه غالبا فإذا قلنا هو مذهبه فنص على خلافه بطل المفهوم في أحد الوجهين لقوة النص وخصوصه والثاني لا يبطل لأن المفهوم كالنص في إفادة الحكم فيصير في المسألة قولان إن كانا عامين كقوله في الأب والأخ لما سئل عن عتق الأب بالشراء فقال يعتق وعن عتق الأخ به فقال يعتق فمفهوم الأولة أن الأخ لا يعتق ولفظ الثانية أنه يعتق فإن قلنا إن المفهوم يبطل بالمنطوق كانت المسألة رواية واحدة وإلا صار في الأخ روايتان إحداهما بنصه والأخرى بنقل وتخريج .
فصل فإن فعل شيئا فهو مذهبه في أحد الوجهين : اختاره ابن حامد وأكثر أصحابنا لأن العلماء ورثة الأنبياء في العلم والتبليغ والهداية والإتباع فلا يجوز أن يأتي بما لا دليل له عنده حذرا من الضلال والإضلال لا سيما مع الدين والورع وترك الشبهة والثاني المنع لجواز ذلك عليه سهوا أو نسيانا أو جهلا أو تهاونا وأن يقر ما لله عليه لعدم الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وربما فعل ذلك قبل رتبة الاجتهاد في ذلك الحكم ولأن خطأه لا يعم ضلاله به ولا إتباعه في كل شيء ولا تجنبه بخلاف الشارع في ذلك كله لكن جعله أولى .
فصل إذا حدثت مسألة لا قول فيها لأحد من العلماء فهل يجوز الاجتهاد فيها والفتوى والحكم لمن هو أهل لذلك فيه ثلاثة أوجه الأول يجوز لقوله عليه السلام إذ اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وهو عام وعلى هذا درج السلف والخلف ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع ومعرفة أحكامها شرعا مع قلة النصوص بالنسبة إليها وحذرا من توقف الحكم بين الخصوم ولأنه ربما احتيج إليه فتتعذر معرفته إذن لعدم الناظر فيه أو لتأخر اجتهاده مع دعوى الحاجة إليه والثاني لا يجوز فيهما قال أحمد لبعض أصحابه : إياك أن تتكلم بكلمة واحدة ليس لك فيها إمام وقد كان السلف من الصحابة وغيرهم يتدافعون المسائل والفتوى وكل واحد ود أن أخاه كفاه هي ونعلم أنهم لو اجتهدوا لظهر لهم الحق في المسألة لأهليتهم والثالث أنه يجوز ذلك في الفروع دون الأصول لأن الخطر في الأصول عظيم وترك الخوض فيها أسلم والمخطئ في أكثرها فاسق أو كافر بخلاف الفروع في ذلك فإن المخطئ ربما أثيب كالحاكم المخطئ للنص في اجتهاده وكيف لا والحاجة داعية إلى معرفة حكم الواقعة ليقضى فيها المجتهد بما يراه بخلاف الأصول إذ العقل كاف في أكثر ما يلزمه فيها فلا يتوقف على غيره كما يتوقف حكم الفروع حيث لا يعلم إلا من دليل شرعي باب عيوب التأليف وغير ذلك ليعرف المفتي كيف يتصرف في المنقول وما مراد قائله ومؤلفه فيصير نقله للمذهب وعزوه له إلى الإمام أو بعض أصحابه فنقول أعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي إهمال نقل الألفاظ بأعيانها والاكتفاء بنقل المعاني مع قصور التأمل عن استيعاب مراد المتكلم الأول بلفظه وربما كانت بقية الأسباب متفرعة عنه لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه أو الكاتب بكتابته مع ثقة الراوي يتوقف عليه انتفاء الإضمار والتخصيص والنسخ والتقديم والتأخير والاشتراك والتجوز والتقدير والنقل والمعارض العقلي فكل نقل لا نأمن معه حصول بعض الأسباب ولا نقطع بانتفائها نحن ولا الناقل ولا نظن عدمها ولا قرينة تنفيها فلا نجزم فيه بمراد المتكلم بل ربما ظنناه أو توهمناه ولو نقل لفظه بعينه وقرائنه وتاريخه وأسبابه انتفى هذا المحظور أو أكثره وهذا من حيث الإهمال وإنما يحصل الظن بنقل المتحري فيعذر تارة لدعو الحاجة إلى التصرف لأسباب ظاهرة ويكفي ذلك في الأمور الظنية وأكثر المسائل الفروعية وأما التفصيل فهو أنه لما ظهر التظاهر بمذاهب الأئمة والتناصر لها من علماء الأمة وصار لكل مذهب منا أحزاب وأنصار وصار دأب كل فريق نصر قول صاحبهم وقد لا يكون أحدهم اطلع على مأخذ إمامه في ذلك الحكم فتارة يثبته بما أثبته إمامه ولا يعلم بالموافقة وتارة يثبته بغيره ولا يعلم بالمخالفة ومحذور ذلك ما يستجيزه فاعل هذا من تخريج أقاويل إمامه من مسألة إلى أخرى والتفريع على ما اعتقده مذهبا له بهذا التعليل وهو لهذا الحكم غير دليل ونسبة القولين إليه بتخريجه وربما حمل كلام الإمام فيما خالف مصيره على ما يوافقه استمرار القاعدة تعليله وسعيا في تصحيح تأويله وصار كل منهم ينقل عن الإمام ما سمعه منه أو بلغه عنه من غير ذكر سبب و لا تاريخ فإن العلم بذلك قرينة في إفادة مراده من ذلك اللفظ كما سبق فيكثر لذلك الخبط لأن الآتي بعده يجد عن الإمام اختلاف أقوال واختلاف أحوال فيتعذر عليه نسبة أحدهما إليه على أنه مذهب له يجب على مقلده
المصير إليه دون بقية أقاويله إن كان الناظر مجتهدا وأما إن كان مقلدا فغرضه معرفة مذهب إمامه بالنقل عنه فلا يحصل غرضه من جهة نفسه لأنه لا يحسن الجمع ولا يعلم التاريخ لعدم ذكره ولا الترجيح عند التعارض بينهما لتعذره منه وهذا المحذور إنما لزم من الإخلال بما ذكرناه فيكون محذورا ولقد استمر كثير من المصنفين والحاكمين على قولهم مذهب فلان كذا ومذهب فلان كذا فإن أرادوا بذلك أنه نقل عنه فقط فلم يفتون به في وقت ما على أنه مذهب الإمام وإن أرادوا به المعول عليه عنده ويمتنع المصير إلى غيره للمقلد فلا يخلو حينئذ إما أن يكون التاريخ معلوماً أو مجهولاً فإن كان معلوماً فلا يخلو إما أن يكون مذهب إمامه أن القول الأخير ينسخ الأول إذا تناقضا كالأخبار أو ليس مذهبه كذلك بل يرى عدم نسخ الأول بالثاني أو لم ينقل عنه شيء من ذلك فإن كان مذهبه اعتقاد النسخ فالأخير مذهبه فلا تجوز الفتيا بالأول للمقلد ولا التخريج منه ولا النقض به وإن كان مذهبه أنه لا ينسخ الأول بالثاني عند التنافي فإما أن يكون الإمام يرى جواز الأخذ بأيهما شاء المقلد إذا أفتاه المفتي أو يكون مذهبه الوقف أو شيء آخر فإن كان مذهبه القول بالتخيير كان الحكم واحدا ولا تعدد وهو خلاف الغرض وإن كان ممن يرى الوقف تعطل الحكم حينئذ ولا يكون له فيها قول يعمل عليه سوى الامتناع من العمل بشيء من أقواله وإن لم ينقل عن إمامه القول بشيء من ذلك فهو لا يعرف حكم الإمام فيها فيكون شبيها بالقول بالوقف في أنه يمتنع عن العمل بشيء فيها هذا كله إن علم التاريخ وأما إن جهل فإما أن يمكن الجمع بين القولين باختلاف حالين أو محلين أو ليس فإن أمكن فإما أن يكون مذهب إمامه جواز الجمع حينئذ كما في الآثار أو وجوبه أو التخيير أو الوقف أو لم ينقل عنه شيء من ذلك فإن كان الأول والثاني فليس له حينئذ إلا قول واحد وهو ما اجتمع منهما فلا تحل حينئذ الفتيا بأحدهما على ظاهره على وجه لا يمكن الجمع وإن كان الثالث فمذهبه أحدهما بلا ترجيح وهو بعيد لا سيما مع تعذر تعادل الأمارات وإن كان الرابع والخامس فلا عمل إذن وأما إن لم يمكن الجمع مع الجهل بالتاريخ فإما أن يعتقد نسخ الأول بالثاني أو ليس فإن كان يعتقد ذلك وجب الامتناع عن الأخذ بأحدهما لأنا لا نعلم أيهما هو المنسوخ عنده وإن لم يعتقد النسخ فإما التخيير أو الوقف أو غيرهما والحكم في الكل سبق ومع هذا كله فإنه يحتاج إلى استحضار ما اطلع عليه من نصوص إمامه عند حكاية بعضها مذهبا له ثم لا يخلو إما أن يكون إمامه يعتقد وجوب تجديد الاجتهاد في ذلك أولا فإن اعتقده وجب عليه تجديده في كل حين أراد حكاية مذهبه وهذا يتعذر في مقدور البشر إن شاء الله تعالى لأن ذلك يستدعي الإحاطة بما نقل عن الإمام في تلك المسألة على جهته في كل وقت يسأل ومن لم يصنف كتبا في المذهب بل أخذ أكثر مذهبه من قوله وفتاويه كيف يمكن حصر ذلك عنه هذا بعيد عادة وإن لم يكن مذهب إمامه وجوب تجديد الاجتهاد عند نسبه بعضها إليه مذهبا له فإن قيل ربما لا يكون مذهب أحد القول بشيء من ذلك فضلا عن الإمام قلنا نحن لم نجزم بحكم فيها بل رددنا وقلنا إن كان لزم منه كذا ويكفي في إيقاف إقدام هؤلاء تكليفهم نقل هذه الأشياء عن الإمام فكثير من هذه الأقسام قد ذهب إليه كثير من الأئمة وليس هذا موضع بيانه فلينظر من أماكنه وإنما يقابلون هذا التحقيق بكثرة نقل الروايات والأوجه والاحتمالات والتهجم على التخريج والتفريع حتى لقد صار هذا عادة وفضيلة فمن لم يكن منه بمنزلة لم يكن عندهم بمنزلة فالتزموا للحمية نقل ما لا يجوز نقله لما علمته آنفا ثم قد عم أكثرهم بل كلهم نقل أقاويل يجب الإعراض عنها في نظرهم بناء على كونها قولا ثالثا وهو باطل عندهم أو لأنها مرسلة في سندها عن قائلها وخرجوا ما يكون بمنزلة قول ثالث بناء على ما يظهر لهم من الدليل فما هؤلاء بمقلدين حينئذ وقد يحكي أحدهم في كتابه أشياء فيوهم المسترشد أنها إما مأخوذة من نصوص الإمام أو مما اتفق الأصحاب على نسبتها إلى الإمام مذهبا له ولا يذكر الحاكي له ما يدل على ذلك ولا أنه اختيار له ولعله يكون قد استنبطه أو رآه وجها لبعض الأصحاب أو احتمالاً فهذا شبه التدليس فإن قصده فشبه ألمين وإن وقع سهواً أو جهلاً فهو أعلى مراتب البلادة والشين كما قيل فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وقد يحكون في كتبهم ما لا يعتقدون صحته ولا يجوز عندهم العمل به ويرهقهم إلى ذلك تكثير الأقاويل لأن من يحكي عن الإمام أقوالا متناقضة أو يخرج خلاف المنقول عن الإمام فإنه لا يعتقد الجمع بينهما على الجمع بل إما على التخيير أو الوقف أو البدل أو الجمع بينهما على وجه يلزم عنهما قول واحد باعتبار حالين أو محلين وكل واحد من هذه الأقسام حكمه خلاف حكم هذه الحكاية عند تعريها عن قرينة مقيدة لذلك والغرض كذلك وقد يشرح أحدهم كتابا ويجعل ما يقوله صاحب الكتاب المشروح غالبا رواية أو وجها أو اختيارا لصاحب الكتاب ولم يكن ذكره عن نفسه أو أنه ظاهر المذهب من غير أن يبين سبب شيء من ذلك وهذا إجمال وإهمال وقد يقول أحدهم الصحيح في المذهب أو ظاهر المذهب كذا أو لا يقول وعندي ويقول غيره خلاف ذلك فلمن يقلد العامي إذن فإن كلا يعمل بما يرى فالتقليد إذن ليس للإمام بل للأصحاب في أن هذا مذهب الإمام ثم إن أكثر المصنفين والحاكين قد يفهمون معنى ويعبرون عنه بلفظ يتوهمون أنه واف بالغرض ولا يكون كذلك فإذا نظر فيه أحد وفي قول من أتى يدل على مقصده ربما يوهم أنها مسألة خلاف لأن بعضهم قد يفهم من عبارة من يثق به معنى قد يكون على وفق مراد المصنف للفظ وقد لا يكون فحصر ذلك المعنى في لفظ وجيز فبالضرورة يصير مفهوم كل واحد من اللفظين من جهة التنبيه وغيره غير مفهوم الآخر وقد يذكر أحدهم في مسألة إجماعا بناء على عدم علمه بقول يخالف ما يعلمه ومن تتبع حكاية الاجماعات ممن يحيكها وطالبه بمستنداتها علم صحة ما ادعيناه وربما أتى بعض الناس بلفظ يشبه قول من قبله ولم يكن أخذه منه فيظن أنه قد أخذه منه فيحمل كلامه على مجمل كلام من قبله فإن رئي مغايرا له نسب إلى السهو والجهل أو تعمد الكذب إن كان أو يكون قد أخذ منه وأتى بلفظ يغاير مدلول كلام من أخذت منه فيضن أنه لم يأخذ منه فيحمل كلامه على غير محمل كلام من أخذ منه فيجعل الخلاف فيما لا خلاف فيه أو الوفاق فيما فيه خلاف وقد يقصد أحدهم حكاية معنى ألفاظ الغير وربما كانوا ممن لا يرى جواز المعنى دون اللفظ وقد يكون فاعل ذلك ممن يعلل المنع في صورة الفرض بما يفضي إليه من التحريف غالبا وهذا المعنى موجود في ألفاظ أكثر الأئمة ومن عرف حقيقة هذه الأسباب ربما ترك التصنيف أولى إن لم يحترز عنها لما يلزم من هذه المحاذير وغيرها غالبا فإن قيل يرد على هذا فعل القدماء وإلى الآن من غير نكير وهو دليل الجواز وإلا امتنع على الأمة ترك الإنكار إذن لقوله تعالى وينهون عن المنكر ونحوها
من الكتاب والسنة قلنا الأولون لم يفعلوا شيئا مما عبناه فإن الصحابة لم ينقل عن أحد منهم تأليف فضلا عن أن يكون على هذه الصفة وفعلهم غير ملزم لمن لا يعتقده حجة بل لا يكون ملزما لبعض العوام عند من لا يرى أن العامي ملزوم بالتزامه مذهب إمام معين فإن قيل إنما فعلوا ذلك ليحفظوا الشريعة من الإغفال والإهمال قلنا قد كان أحسن من هذا في حفظها أن يدونوا الوقائع والألفاظ النبوية وفتاوى الصحابة ومن بعدهم على جهاتها وصفاتها مع ذكر أسبابها كما ذكرنا سابقا حتى يسهل على المجتهد معرفة مراد كل إنسان بحسبه فيقلده على بيان وإيضاح وإنما عبنا ما وقع في التأليف من هذه المحاذير لا مطلق التأليف وكيف يعاب مطلقا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قيدوا العلم بالكتابة فلما لم يميزوا في الغالب ما نقلوه مما خرجوه ولا ما عللوه مما أهملوه وغير ذلك مما سبق بأن الفرق بين ما عبناه وما صنفناه وأكثر هذه الأمور المذكورة يمكن أن أذكرها من كتب المذهب مسألة لكنه يطول هنا وإذا علمت عذر اعتذارنا وخبرة اختبارنا فنقول إن الأحكام المستفادة في مذهبنا وغيره من اللفظ أقسام كثيرة منها أن يكون لفظ الإمام بعينه أو إيمائه أو تعليله أو سياق كلامه ومنها أن يكون مستفيضا من لفظه إما اجتهادا من الأصحاب أو بعضهم ومنها ما قيل إنه الصحيح من المذهب ومنها ما قيل إنه ظاهر المذهب ومنها ما قيل إنه المشهور من المذهب ومنها ما قيل فيه نص عليه يعني الإمام أحمد ولم يعين لفظه ومنها ما قيل إنه ظاهر كلام الإمام ولم يعين قائله لفظ الإمام ومنها ما قيل ويحتمل كذا أو لم يذكر أنه يريد بذلك كلام الإمام أو غيره ومنها ما ذكر من الأحكام سردا ولم يوصف بشيء أصلا فيظن سامعه أنه مذهب الإمام وربما كان من بعض الأقسام المذكورة آنفا ومنها ما قيل إنه مشكوك فيه ومنها قيل إنه توقف فيه الإمام ولم يذكر لفظه فيه ومنها ما قال بعضهم اختياري ولم يذكر له أصلا من كلام أحمد أو غيره ومنها ما قيل إنه خرج على رواية كذا أو على قول كذا ولم يذكر لفظ الإمام فيه ولا تعليله له ومنها أن يكون مذهبا لغير الإمام ولم يعين ربه ومنها أن يكون لم يعمل به أحد لكن القول به لا يكون خرقا لإجماعهم ومنها أن يكون بحيث يصح تخريجه على وفق مذاهبهم لكنهم لم يتعرضوا له بنفي ولا إثبات .
فصل فقول أصحابنا وغيرهم المذهب كذا قد يكون بنص الإمام أو بإيمائه أو بتخريجهم ذلك واستنباطهم من قوله أو تعليله وقولهم على الأصح أو الصحيح أو الظاهر أو الأظهر أو المشهور أو الأشهر أو الأقوى أو الأقيس فقد يكون عن الإمام أو بعض أصحابه ثم الأصح عن الإمام أو الأصحاب قد يكون شهرة وقد يكون نقلا وقد يكون دليلا أو عند القائل وكذا القول في الأشهر والأظهر والأولى والأقيس ونحو ذلك وقولهم وقيل فإنه قد يكون رواية بالإيماء أو وجها أو تخريجا أو احتمالا ثم الرواية قد تكون نصاً أو إيماءً أو تخريجاً من الأصحاب واختلاف الأصحاب في ذلك ونحوه كثير لا طائل فيه إذ اعتماد المعنى على الدليل ما لم يخرج عن أقوال الإمام وصحبه وما قاربها أو ناسبها إلا أن يكون مجتهدا مطلقا أو في مذهب إمامه أو يرى في مسألة خلاف قول إمامه وأصحابه لدليل ظهر له وقوي عنده وهو أهل لذلك والأوجه تؤخذ غالبا من قول الإمام ومسائله المتشابهة أو إيمائه وتعليله وقد سبق نحو ذلك مرارا على ما اقتضاه الكلام والترتيب والله أعلم بالصواب

__________________

12d8c7a34f47c2e9d3==